جريمةٌ أخلاقيَّة
أن تكونَ صاحبُ سلطان منحتك إيَّاها الأعراف والقوانين، تتَّخذ قرارات تؤثِّر على حياة الأخرين، تُساهم في استتباب الأمن والنظام وتوفير الإستقرار، أو تزرع الفوضى لتحقيق مكاسب سياسيَّة أو منافع شخصيَّة بأساليبٍ ملتوية، فتلك أمورٌ ماديَّة تُحاسب عليها القوانين المرعيّة الإجراء، حفاظاً على النظام والعدالة والصالح العام.
أن تكونَ صاحبُ سلطة دينيَّة، تتمتَّع بالقدرة على تفسير النصوص الدينيَّة على طريقةِ مذهبٍ ما، وإصدار التوجيهات الدينيَّة التي تؤثّر في صميم المجتمع، وتقديم الإرشادات الروحيَّة والإجتماعيَّة لأتباعك، تساعد الفرد على فهم الإيمان بشكلٍ عميق، وممارسة شعائر الدين بإنتظام، تهدف لتوعية الفرد من مخاطر السلوكيَّات السلبيَّة، ممَّا يُعزِّز إستقرار الهويَّة الدينيَّة، وسواءٌ كنت مُصيباً أم لا، فالأيَّام حُبلى تلد كلَّ شيءٍ غريب، فتلك أمورٌ دنيويَّة تزول بطبيعة الحياة.
أن تكون صاحب جاهٍ ومالٍ، لك من القدرة في التأثير على القرارات السياسيَّة والدينيَّة، تملك من النفوذ ما تستطيع به قلب الأمور رأساً على عقب، وتغيير الحقائق لِما تشتهيه مآربَك الشخصيَّة، وتحقيق أهدافك النفعيَّة، تضغط على المُشرِّعين لصياغة القوانين، تتحكَّم في الإعلام وتؤثّر في الرأي العام. فتلك أمورٌ لا تدوم، وسُنَّة التغيير جزءٌ من حقيقة الحياة والوجود، ومن حِكَمِ الله في الكون، وكلُّ ما دونه باطل.
أن تكون ما تكون، فهو لك، طالما تصون كرامة الغير ولا تعتدي على حريَّة الآخرين بالتعبير عن أفكارهم وممارسة معتقداتهم، التي هي من أهم الحقوق الإنسانيَّة من أجل بناء مُجتمعات عادلة. وإن لم تفعل، فقد ألقيت بثقل غلاظتك على روح الإنسانيَّة، مُتجاهلاً حقوق الإنسان وكرامته، حاملاً معول الظُّلم والتطرُّف لهدم القيم الأخلاقيَّة، غارساً بذور الحقد والكراهية في صحراء الجهل، ناشراً العصبيَّة الطائفيَّة بمعلوماتٍ مُضلِّلة تحرّف الفهم وتشوِّش العقل، مُستخدماً لغة تحريضيَّة مُسيئة للآخرين، ممَّا يؤدّي الى إنتهاكاتٍ جسيمة لحريَّة المُعتقد، وبالتالي الى قمع الأفراد أو الجماعات بالتهديد أو حتى العنف أحياناً بسبب معتقداتهم. وفرض مُعتقداتٍ دينيَّة مُحدَّدة، وأضطهاد مُخالفيها. فهذا ما ليس لك. أأبا جهلٍ وأبا لهب في كلِّ زمانٍ ومكان؟
من هذا المُنطلق، بين الحريَّة والعبوديَّة يقفُ الجهل حاجزاً منيعاً بينهما، متمثِّلاً بالغرور والسلطة وكلمة حقٍّ يُرادُ بها باطل. لا بُدَّ من رحلةٍ وجوديَّة تصادميَّة ما بين المواجهة والإستسلام، للتعبير بمسؤوليَّةٍ عن أفكارٍ ومُعتقداتٍ ومواجهة التحدَّيات وما يترتَّب عليها من إلتزامٍ قولاً وعملاً على الصعيدين الفردي والجماعي.
وعليه، وَجُبَت المقاومة بالفكر والكتابة والتعبير. ذلك أنَّ الحريَّة مُطلقة حتى في عبادة الله عزَّ وجّلّ. فكيف تكون مُقيَّدة في ألوهيَّة الأشخاص؟
يقول الدكتور داهش:” الحريَّة مُنحةٌ السماء لأبناء الأرض “. وواجبُ الدِّفاع عنها مُقدَّس.
أمَّا الإعتداء على حريَّة إنسانٍ ما لجهلٍ في النَّفس، أو لفائضِ قوَّة، حول إختلافٍ في الرأي والفكر، حفاظاً على السُّلطة أو حُبَّاً في الهيمنة والسيطرة أو خوفاً من التغيير، لهو جريمة أخلاقية تُهدد القيم الإنسانية الأساسية، إعتداءٌ على البشريَّة جمعاء، ضرب أُسس العدالة الإجتماعيَّة والتقدُّم البشريّ، حرمان الإنسانيَّة بأسرها فرصة الإزدياد من المعرفة والتمكُّن من الحقّ مُقارنةً مع الباطل، وخرقٌ واضحٌ فاضح لمبدأ العدالة وظلماً أخلاقيَّاً، يُحاسبُ عليها القانون. ولا تشفع السُّلطة المُعطاة لك ولا الصلاحيات المنوطة بك للإقدام على إتِّخاذ قرارات ذاتيَّة تعسُّفيَّة، لمآرب شخصيَّة وأهدافٍ خفيّة، تتعارض مع حريَّة المُعتقَد والتعبير التي ضمِنتها الشرائع السماويَّة وشرعة حقوق الإنسان.
يقول جون ستيوارت ميل في كتابه الحريَّة:” لا يجوز البتّة لأيّة حكومة من الحكومات أن تعتدي على أيّ فرد من أفراد الشعب لأجل تعاليمه ومبادئه وعقائده سواء في ذلك أشرف الحكومات وأرفعها، وأخسّها وأوضعها. وهي اذا صدرت بمشيئة الشعب وموافقته كانت أفظع وأشنع ممّا لو صدرت برغمه ومعارضته. فلو أنّ الناس قاطبة أجمعوا على رأي واحد، وخالفهم في ذلك فرد فذّ، لما كان لهم من الحقّ في اخراسه أكثر ممّا له في اخراسهم لو استطاع الى ذلك سبيلا، اذ لا يقدح في أهميّة الرأي قلّة المنتصرين له ، وكثرة الزارين عليه “.
فكيف بالحري أن يكون الإعتداء على رُسل السماء، أنبياء الله، مُتمثِّلاً بأقنوم الشرِّ الإبليسي، أصحاب السلطان والسلطة والمال، المُخدَّرة ضمائرهم، المُتملِّكة من نفوسهم جنون العظمة، المتوهمون أنَّهم دائماً على حقّ، أضف إليهم ما يختلج في صدورهم من غرورٍ وحسدٍ وحقدٍ دفين، أساس الشَّر المُطلق، عدو الحقّ والخير والجمال، يقترفون الجرائم ببرودة، بأساليبٍ شيطانيَّة تخجل منها أبالسة الجحيم. إنَّه إعتداءٌ على السماء وعلى الله عزَّ وجّلّ. هؤلاء بشِّرهم بجحيمٍ نيرانه أبديَّة الإتِّقاد.
والإعتداء على الدكتور داهش، صوتُ الحقِّ الصَّارخ في آذان الصُّم، مشعل النور الآتي من وراء السماوات، دائرة النور العظمى، من أجل تعاليمٍ نزِلت وحياً وإلهاماً لتُنير الفكر البشريّ، باب الخلاص وسفينة النَّجاة، مؤيَّدةً بمعجزاتٍ باهراتٍ مُذهلة، منبثقةٍ من مصدرٍ روحيّ خارق، تشمل المعرفة والحياة والوجود، معروفها ومجهولها. بتجريده من جنسيَّته ظلماً واعتسافاً، وإبعاده خارج الحدود اللبنانيَّة بدون أوراقٍ ثبوتيَّة، استدراجاً لرميه بالرصاص في آذَربـيجان بإيران، جريمة القرن العشرين، بل جريمة الجرائم، سيسجلها التاريخ لتكون لعنةً في بطون الأجيال الزاحفة، وعلى مرِّ الزمان لمرتكبيها.
هيئة التحرير
بقلم الدكتور داهش
تبارك اسمك يا الله!
السماوات تحدث بعجائبك،
و الكواكب تنبئ عن صنع يديك،
و السُّدم تذيع أخبار مُعجزاتك،
و المجرات تنشر انباء خوارقك،
و الجبال الشامخة المشمخرة تطأطئ رؤوسها،
و تخرُّ هولاً أمام موطئ قدميك!
و الأشجار السامقة ترتعد من عظمتك،
فتلتجئ لرحمتك الشاملة،
و البحر الجبَّار الثائر المتلاطم الامواج
يخشع أمام جبروتك العاصف،
و العاصفة تنكفئ و تستكين أمام مهابتك الإلهيَّة،
و الصواعق تصمت و تخرس
فلا يسمع لها ركزٌ أو إيقاع،
و الزلازل تنكمش على نفسها،
فلا يسمع لها همسةٌ أو نأمة،
و البروق المومضة يخبو بريقها و يأفل نورها
أمام انوارك العجيبة،
و الرعود القاصفة تذعر من بهائك و جلالك
فتلزم الصمت الأبديّ،
و أسود الآجام و نمور الآكام
يحلُّ بها الوجل لخشيتك السرمديَّة،
و مخلوقات الأرض طرَّاً تحني هاماتها
و تعفِّر جباهها بترابِ نعليك المقدَّسين.
إن عظمتك أيُّها المُوجد
لأعجز من ان يصفها قلمي المسكين!
إن فلاسفة الأرض و أدبائها و حكماءها و كتابها و فصحاءها
لأعجز من ان يستطيعوا وصف عظيم جلالك،
و روعة جمالك، و لألاء بهائك!
أي موجدي و موجد البرايا معروفها و مجهولها،
إنني أضرع إليك بخشوعٍ كليّ
لكي تقيلني من عثراتي الكثيرة،
و تغفر لي حوبي، و تمحو ذنوبي.
فأنا مخلوق ضعيف، و لا رجاء لي إلاَّ بك،
فرحمتك و حنانك يشملانني، و يشملان الخلائق طرّاً.
إن آثامي متعددة، و ارتكاباتي هائلة رهيبة،
و لكن رحمتك عظيمة و عفوك شامل.
فاشملني برحمتك و عفوك الإلهيين.
آه! ما أعظمك أيُّها المُهيمن الجبَّار!
و ما أرحمك و اعدلك بنا
نحن أبناء هذه الغبراء المساكين!
مرسيليا، في الساعة التاسعة و الثلث
من صباح 26/2/ 1974
بقلم الدكتور داهش
أخي الاستاذ ادوار نون حفظك الله .
يا أخي انّ ما حدث لي ، وما سأرويه لك لهو أشبه بالأساطير اليونانية .
ومن يقرأ حكايتي يظنّني روائيّا بارعاً لفداحة ما أصبت به من الحكومة اللبنانية في عصر الحريَّة والنور ، والتبجّح بالتمسّك بنصوص القوانين الموضوعة .
والآن أصغ الى قصّتي الواقعيّة ، وبلّغها لآذان الرأي العامّ وللمراجع الرسميّة ، علّك تستطيع انتزاع حقّي السليب من هؤلاء الذين لم يتورّعوا عن دفعي الى الموت لغاياتهم الوضيعة . فشاء لي الله الخلاص ، وأنوفهم راغمة .
بتاريخ مساء السبت الواقع في 9 أيلول 1944 قدم الى سجن الرمل كلّ من مدير البوليس عارف ابراهيم وعمر طبارة ، رئيس دائرة التحرّي ، ومحمّد علي فياض ، كوميسار منطقة البرج ، وطلبوا من الجاويش قيصر الذي كان دور حراسته في ذلك المساء أن يبلّغني أنّ مذكّرة اخلاء سبيلي قد صدرت بحقّي ، وأنّ ادارة السجن ستخلي سبيلي في هذا المساء بشرط أن لا أخبر أيّ سجين أو أيّ شخص آخر من الحرس عن هذا الأمر . وبالفعل حضر قيصر وبلّغني عن هذا الأمر ، وأقسم عليّ ان لا أبلغ أحدا عمَّا سمعته . وهنا داخلني الريب وقلت له :
أجاب : ” لأن المذكرة لم تصلنا حتى الان ” .
قلت له :
قال : ” هذا لا يهمّك معرفته ، والمهمّ أن أشخاصاً سيحضرون في الساعة العاشرة ليلاً ويوصلونك . فقط أكتم هذا كلّ الكتمان ” .
أجبته : ” اعلم يا قيصر أنَّني لا أخطو خطوة خارج السجن الاّ اذا حضر كلّ من الدكتور خبصا والاستاذ ادوار نون ، فعندها يتأكّد لي صدق كلامك فأذهب برفقتهم . أمّا اذا حضر سواهم فانَّها مؤامرة للتخلّص منّي ” ….
وغادرته وأنا في أشدّ حالات الانفعال . أمّا هو فعاد يرجوني ويكرّر عليّ كتمان الأمر . وبطبيعة الحال دخلت الى غرفة السجن ، وبلّغت المساجين قائلاً لهم : ” توجد مؤامرة خطيرة على حياتي ، فانهم يريدون ، مثلما يزعمون ، أن يخلو سبيلي بشرط أن أكتم هذا الأمر ، وقصدهم الحقيقي من هذا الكتمان أنه عندما أخرج ، أو بالأحرى عندما يخرجونني ، اذ ذاك يطلقون عليّ النار ، ويدّعون قائلين : ” انّه حاول الهرب وتمكّن من الخروج ، فاضطررنا لأن نطلق عليه النار ” ، ويسدل الستار على هذه الجريمة . والآن اعلموا جميعا أنّ هذا الأمر ، اذا وقع ، فواجبكم ان تبلّغوا أهلي وأصدقائي كي يذيعوا للرأي العامّ تفاصيل هذه الجريمة الرهيبة ” ….
وقد عرف قيصر بأنني بلّغت السجناء فلم يكن راضياً . وللحال بلّغ بدوره مدير البوليس وزميله عن معرفة جميع السجناء بتفاصيل الحادث ، فأسقط في أيديهم ولم يكونوا ممتنّين .
وفي الساعة العاشرة ليلاً فُتحت غرفة السجن ، وتقدّم مني قيصر وبرفقته دركيّان ، وقالوا لي : ” انهم ينتظرونك كي تذهب برفقتهم ” . فمانعت جدّا ، لأنني عرفت بالمكيدة . ولكنّهم أصرّوا الاصرار كلّه . فلم أقتنع وطلبت منه المذكّرة التي تقول باخلاء سبيلي ، وقرأتها .
ثم بالرغم عنّي أُخذت الى غرفة المدير . وهناك وجدت من ذكرتهم لك ، أي مدير البوليس وعمر طبارة ومحمد علي فياض ينتظرونني . فطلبت منهم استدعاء أصدقائي ، فمانعوا وقالوا : ” نحن نوصلك ” . وقد ذهبنا أوّلا الى منزلي ، فشاهدته مطوّقا بعشرات من رجال البوليس ، فدُهشت جدّا . ومن هناك قصدنا منزل الأخ جورج حدّاد ، عديل صديقك سابقاً ، كي آخذ بعض النقود من شقيقتي ، لأنهم أخبروني أنهم ينوون أخذي الى طرابلس الشام لأمكث فيها مدّة شهر ، ثم يعيدونني الى بيروت .
وعندما وصلنا الى منزل الأخ جورج قرع محمّد علي فياض جرس المنزل ، وأطلّت علينا شقيقتي أنطوانيت . فاستدعيتها للنزول ، ففعلت . ونزلت معها ماجدا ابنة جورج حدّاد . وما شاهد محمد علي نزؤلهما حتى جذبني بشدّة عظيمة ، فحاولت التخلص من جذبه العنيف . وهنا دارت رحى معركة رهيبة استعمل فيها عمر طبارة اطلاق أربع أو خمس طلقات نارية من مسدسه .
وما لبث أن شعرت بضربة من مسدّس محمد علي فياض على أم رأسي ، فهويت الى الأرض لا أعي شيئاً من هول الرطمة التي نالتني من يد هذا الوحش الأثيم .
والغريب أنني كنت أسمع الضوضاء والصيحات والأحاديث التي كانت تدور بين المجتمعين ولكنني لا أستطيع أن أتكلّم ، فقد عقد لساني من هول الضربة . وأخيرا وضعوا القيد الحديديّ في يدي ، وحملوني ، ثم ألقوني بسيّارة مدير البوليس الشهم ، بارك الله بأصله السامي .
وأقسم لك يا أخي العزيز بربّ السماء ، وبدم يسوع المسيح الطاهر ، أن الوغد الهمجيّ محمد علي فياض منذ القاني في السيّارة حتى بلغت الى مركز البوليس على البرج ، وهو ينهكني بلطمات عنيفة جدّا على وجهي وفكّي وصدري ورأسي وكافّة أعضائي ، وهو يشتمني بشتائم لم أسمع طوال عمري أحطّ من عباراتها .
وعندما بلغت الى المركز العامّ الذي تعرفه جيّدا ، طلب إليَّ أن أنزل ، فحاولت النزول ، ولكنّني لم أستطع من عظم ما لاقيته من ضرب مبرّح ، واذا بهؤلاء الوحوش الثلاثة يهوون عليّ بقبضات أيديهم . وانبرى محمد علي يركلني بقدمه بكلّ ما أوتيه من قوّة لأخرج ، فتحاملت على نفسي ، فما استطعت الى ذلك سبيلا ، بل سقطت من الاعياء ، ولم أستطع السير على قدمي . وهنا كان على درج المركز عشرات من البوليس ، فحملوني وأدخلوني الى غرفة رجال التحري التي تقع بالقرب من غرفة عمر طبارة !
وهنا نعم هنا أمسك الوغد محمد علي فياض سوطا غليظا وراح يهوي به على جسمي بصرامة رهيبة خلت معها أنّ روحي قد خرجت من بين جنبيّ ، وتشقّق اللحم متفسّخا ، وانبثقت الدماء من جسدي . وبالرغم من هذا ، فانّه لم يكفّ عن متابعة سوطي بقوّة ، حتى تصبّب العرق منه ، وأصبح يلهث كالحيوان الذي قام باعماله الشاقّة طوال نهاره وليله .
وهنا ألقى السوط من يده ، فأمسكه عمر طبارة وأكمل جلدي بقوّة عظيمة . وعندما تعب من كثرة الجلد تناوله آخر ، فآخر ، فآخر …حتى ظننت أنهم يريدون اماتتي بواسطة الجلد .
وأخيرا تقدم مني عارف ابراهيم مدير بوليس بيروت الفائق الرقّة والتهذيب وذو الأخلاق الكريمة …وراح يصفعني صفعات متتاليات بكلّ ما لديه من عزم وجبروت ، فانبثق من فمي الدم ، وما عدت أعي شيئا ، لأنّ الأرض دارت بي ، أو درت بها ، وغاب الوجود من أمامي …وعندما استيقظت كانت يقظتي على مياه باردة سكبها هؤلاء الجلاّدون عليّ ، وأعادوا الكرّة للمرّة الثانية من جلد وتعذيب ، ثم حملوني الى السيارة ، والشتائم المبتذلة التي يخجل السوقة من التلفّظ بها تنصبّ على رأسي من فم الشريف والحسيب النسيب محمد علي فياض كوميسار منطقة البرج ، هذا الرجل المؤتمن على الأخلاق ، وعلى المحافظة على الأمن العام . فيا للعار !
والويل لك ايتها الأمّة المنكوبة بمثل هؤلاء السفّاحين الأجلاف !
وفي السيارة ، نعم في السيارة يا أخي ادوار ! ….أركبوني فيها وأنا مكبّل بالحديد ، وجلس عن يميني رجل التحري المدعوّ عبد السلام عيتاني ، والذي جلس عن يساري اسمه سيزاك ستراك ، أمّا السائق فاسمه محمد المكّي وهو ابن الشيخ حسن مكّي ، وهو بوليس تحرّي أيضا ، وقد جلس بجانبه المفوّض عمر طبارة .
وهنا أيضا – بكلّ أسف يا أخي ادوار – أمسك عمر هذا بسوطه ، وراح يسوطني به ، والسيّارة سائرة بنا ، ووجهتها طرابلس ، فتألّمت جدا ، وقلت له : ” أليس من العار أن يجلد رجل لم يسىء الى أحد من الناس ، ولم تثبت عليه تهمة ، لا من النيابة العامة ولا من رجال الشرطة الخفية ؟ وهب ( لا سمح الله ) أنّ أيّة تهمة ثبتت عليّ ، فهناك محاكم كي تحاكمني بموجب قوانين البلاد ، ثم تحكم عليّ بالسجن …أمّا الضرب والجلد والارهاق والتعذيب فهذا ممّا لا تستعمله سوى الشعوب الهمجيّة البربريّة ” .
وكأنّ كلامي هذا كان حافزا له لتجديد جلدي ، ففعل ، واذا بضربتين من سوطه تقعان على قلبي ، فشعرت أنه قد توقّف عن الخفقان . وسوط آخر هوى به على يدي اليسرى عطّل لي ثلاثة أصابع منها ، فعدت للغياب عن الوعي . وعندما عاد إلي شعوري في الطريق وجدت السيّارة ما زالت تنهب بنا الأرض نهبا ، أمّا أنا فقد كانت هيئتي على الصورة الآتية :
كنت أرتدي قميصا ممزّقا من تأثير المعركة دون جاكيت ، لأنّ محمد علي جذبني منها وخلعها عن جسمي ، ثم ألقاها أرضا وداسها بقدميه . وكان البنطلون ممزّقا أيضا ، ورأسي مورّماً من هول اللطمات التي أصابتني ، وجسمي معجونا بعضه ببعض من مئات السياط التي نالتني على أيدي هؤلاء الأجلاف . ووجهي لو شاهده أقرب الناس إليَّ لما عرفه ، فقد كنت مورّم الوجه ، أعمش العينين ، أشعث الشعر ، وبحالة مؤسفة جدّا يتألّم لها حتى العدوّ .
ولم يكفني كلّ ما لقيته من اضطهاد مثلما يظهر لأنّ عمر طبارة أكمل قذفي بشتائمه المُخجلة . ودهشت كيف تقبل حكومة تحترم نفسها بتوظيف مثل هذا المخلوق وأشباهه …وأكملت السيّارة سيرها وأنا أقول في كلّ لحظة انهم يريدون الآن اطلاق النار عليّ ، والانتهاء من أمري .
وفي الساعة التاسعة صباحا بلغنا حلب ، وهناك رأسا أصعدوني الى دائرة الامن العامّ الافرنسيّة للجيش .
ولمّا كان الوقت باكرا ، لم يكن بعد قد حضر الاَّ موظّف واحد سلّموني له ، فأدخلني الى غرفة النظارة المُخيفة ، ثم أغلق عليّ الباب . وبعد نصف ساعة تقريبا فتح عليّ الباب ، وطلب إلي الخروج ، ففعلت ، وأدخلت الى غرفة ثانية ، واذا بي وجهاً الى وجه مع الحاج توما ، وهو رئيس الدائرة ، وكنت قبل عامين أو أكثر قد اجتمعت مرة واحدة معه بدائرة الامن العام في بيروت ، فدُهش عندما شاهدني الدهشة الكليّة ، واستفسرني عن الأسباب ، فأخبرته أن الحكومة اللبنانيّة تريد هكذا ، والسبب هو صداقتي لعائلة جورج حدّاد ، فدُهش جدّا .
وهنا تعرّيت ، ودعوته يشاهد آثار الضرب العنيف الذي نالني على يد هؤلاء الأوغاد ، اذ كان ظهري ومؤخرتي وصدري قطعة واحدة من لطخة سوداء ، فذعر الحاج توما ولم يصدّق ما شاهدته عيناه . انّها وحشيّة لم يجرِ على غرارها الا في تلك العصور المُظلمة السحيقة ، عصور محاكم التفتيش الرهيبة . وما لبث أن حضر الجلاّدون الأربعة وسلّموا الحاج توما رسالة بخصوصي ، فقرأها ، وقال لهم : ” انّها غير رسميّة ” . فقالوا له : ” اذن دعه يذهب معنا ” … فاستلموني وذهبوا بي الى سراي الحكومة ، وهناك أصعدوني برفقتهم ورفقة مدير بوليس حلب الى غرفة المحافظ احسان الشريف ، في الطابق العلوي ، وسلّموه رسالة مختومة ففضّها وقرأها . وهذه الرسالة أظنّها رجاء من حكومة لبنان كي تُبعدني من سوريا أيضاً ، ولا تسمح بسكني في حلب أو سواها من الأراضي السوريّة ؛ فهذا ما فهمته من أشخاص بعد خلاصي من التهلكة التي حفروها لي كي ألاقي بواسطتها حتفي .
وبعد أن تلا المحافظ الرسالة ، ناوله طبارة مرسوم اخراجي من الأراضي اللبنانيّة ، ولم يكن لي أي علم به الاّ في هذه اللحظة . واليك ما جاء في هذا المرسوم الذي لا يستند على قانون ، والذي لا يسمح به الدستور ولا النصوص الصريحة بخصوص الجنسيّة .
مرسوم رقم 1842 K
ان رئيس الجمهورية اللبنانية – بناء على الدستور اللبناني – وبما أن وجود السيد سليم موسى عشي المعروف بداهش في الأراضي اللبنانيّة من شأنه احداث اضطراب واخلال في السكينة العامة ، وبناء على اقتراح مجلس الوزراء ووزير الداخلية – يرسم ما يأتي :
المادة الأولى – يخرج السيد سليم موسى عشي المعروف بداهش من أراضي الجمهورية اللبنانية .
المادة الثانية – يبلّغ صاحب العلاقة مآل هذا المرسوم بموجب محضر ينظّم حسب الاصول .
المادة الثالثة – على وزير الداخلية تنفيذ هذا المرسوم .
بيروت ، في 8 أيلول 1944 الامضاء ( بشارة خليل الخوري)
صدر عن رئيس الجمهورية –
رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية ( رياض الصلح ) .
يبلّغ الى رئاسة الجمهورية – رئاسة الوزارة – وزارة الداخلية – وزارة العدلية – صاحب العلاقة .
وعندما انتهى المحافظ احسان الشريف من تلاوته قال لعمر طبّارة :
” نحن لا نستطيع قبوله في أراضي سورية ما دامت حكومة لبنان لا تقبل به . وكان الأحرى بحكومة لبنان ، ما دام الرجل لبنانيّا ، ان لا تخرجه خارج حدود بلاده ، بل تبقيه في قرية لبنانية لمدّة تحدّدها له ” .
فأجابه عمر طبارة :
” انّ الرجل غير لبناني مثلما يزعم ” .
فأجبته للحال :
” أنت تتكلّم بغير الحقيقة لأنني لبناني ، وتذكرتي التي تؤكّد لبنانيّتي يعود تاريخها الى عام 1923 ” .
فأجابه المحافظ :
وهنا انتهت المقابلة ، فرافقوني الى غرفة رئيس فرقة التحرّي في حلب . وهناك جلس عمر المذكور وكتب ورقة قال فيها انه يضعني في نظارة حلب على مسؤوليّته حتى تبتّ الحكومة اللبنانية في أمري .
وللحال اقتادوني الى السجن المُخيف ، وهو تحت السراي ، وينزلون اليه بعشرين درجة تحت الأرض . وقد مكثت فيه مدّة ثلاثة أيّام بلياليها . وكان قصدهم أن يميتوني ولا ريب .
أمّا اذا حدّثتك عمّا لاقيته في سجني من ضروب العسف والجور ، وما قاسيته من الجوع والعطش والعري والشتائم ، فان نفسك ستتألّم جدا ، لهذا أجتازه ، وأقول : في صباح يوم الثلاثاء أخرجوني من السجن ، وأصعدوني الى الطابق العلويّ . وبعد أن عرضوني للمسؤول عن أخذ البصمات والعلامات الفارقة ، قام بمهمّته وأخذ بصماتي وعلاماتي الفارقة كأنّني مجرم مزمن ، ثم اقتادوني الى المصوّر ، فأخذ صورتي وأنا بتلك الحالة المُحزنة ، ثم أعادوني ثانية الى السجن المُظلم الرهيب .
وفي الساعة الحادية عشرة ، أو أزيد ، من صباح يوم الاربعاء أخرجوني من السجن ، وأنا بحالة أقرب فيها الى الموت منه الى الحياة ، وأركبوني بالسيارة التي أوصلوني بها من بيروت الى حلب ، وذهبوا بي الى قرية سورية تبعد عن حلب مسافة 45 كيلومتر على وجه التقريب اسمها اعزاز . وعندما بلغناها اقتادوني الى مخفر الدرك ، واختلوا بقائد الدرك ، ولفّقوا عليّ ما شاء لهم التلفيق ، وأعطوه التعليمات التي زوّدهم بها رؤساؤهم ، ثم عادوا وطمأنوني بأن مصيري قد بتّ فيه ، وبأنني سأمكث مدّة شهر في اعزاز في أي مكان أختاره ، ولكن يجب علي أن أثبت وجودي في كلّ يوم أمام مخفر الدرك .
ثم ودّعوني بعد أن طبع عمر طبارة الخبيث على جبيني ، ويا للسخرية !…قبلة سبق وطبعها يهوذا الاسخريوطي على جبين سيّده قبل تسليمه ليد أعدائه .
أمّا أنا فما كدت أذهب لاسأل عن فندق لآخذ فيه قسطا من الراحة ، وأتناول بعض الطعام ، بعد أن كادت روحي تزهق من شدّة التعب والجوع والعطش طول مدة سجني في بيروت وحلب ، اذا باثنين من رجال الدرك يغذّون السير في أثري , وللحال وصلوا إلي ، وألقوا القبض عليّ ، وأفهموني أني بتّ أسيرهم ، وأنّ سيارة تنتظرني لتقودني الى الحدود التركية .
فدُهشت جدّا ، وأبيت أن أصدّقهم . فاقتادوني الى المركز ، وهناك أطلعوني على قرار رقمه ( 413 ) أصدره عليّ ، على ما يظهر محافظ حلب ، وهو يقضي باخراجي من الحدود السورية ، وادخالي ضمن الحدود التركية التي لا تبعد عن اعزاز أكثر من خمسة أو ستة كيلومترات .
فذعرت ، وعرفت بالمؤامرة الرهيبة ، ورفعت عيني الى السماء أستمطرها اللعنات على أصحاب الضمائر الميتة .
وهذا القرار يقول في فقرة من فقراته : ” اذا وجد في أي وقت من الأوقات الدكتور داهش ضمن الأراضي السورية فانه يُلقى القبض عليه ، ويحاكم ، ثم يسجن عملا بقانون قمع الجرائم ” .
وبعد توسّلات عديدة قبل القائد أن أمكث ليلتي في اعزاز ، فأدخلوني السجن أيضا فبتّ ليلتي بضيافته . وفي الصباح الثاني ، وبعد الظهر منه ، اقتادوني الى الحدود التركية ، ليدخلوني فيها .
أمّا قصد الحكومة اللبنانية ، من وراء اتّفاقها مع الحكومة السورية على ابعادي من بلادها السورية وادخالي الى الحدود التركية ، فهاك أسبابه :
عندما يشاهدني الحرس التركي سيُطلق النار عليّ ولا شكّ ، أو أنهم يحاكمونني ، ثم يحكمون عليّ بالاعدام كجاسوس نظراً لظروف الحرب ، وخصوصا لأنهم سيدفعون بي الى داخل الحدود دون أن يسلّموني للحكومة التركية تسليم اليد .
ولو فرضنا المستحيل ونجوت من الاعدام ، فالقانون التركي يقضي بأن يسجن من يلقى عليه القبض ضمن حدوده مدّة ثلاثة أشهر ، ثم يخرج الى خارج الحدود . وهكذا ان نجوت من الاعدام فانهم يحكمون علي بالسجن مدّة ثلاثة أشهر ، ثم يخرجونني الى الحدود ، فيُلقي رجال الدرك السوريّ عليّ القبض ، ويسجنونني المدَّة التي سيُحكم عليّ بها ، وفي نهايتها يبعدونني الى الحدود التركية ، فيعاد تمثيل هذه المأساة الى ما شاء الله ، ويُقضى عليّ في السجن .
والآن انني أطلب منك يا أخي ادوار أن ترفع قضية على ( الحكومة اللبنانية ) لعملها الغير القانوني ، وترفع قضيّة على من اعتدى عليّ منهم ، وأن تدع الأستاذ حليم دمّوس ينقل رسالتي هذه على نسخة ثانية ، ويرفع بواسطتها بدوره قضية على الحكومة وعلى المعتدين ، وأن تجري اللازم مثلما يخوّله لك القانون كموكّلي .
وفي الختام سلام من المتألّم .
حلب في 12 تشرين الاول 1944
صديقك
الدكتور داهش
بقلم الدكتور داهش
قالت الشمعة :
— تعيسةٌ هي بيروت ! ومساكين قاطنوها ! فمنذ أربع سنوات، والنكبات المُزلزلة تنصبُّ انصباب الحمم على سكانها دون هوادة أو رحمة ٠
فدمدمة المدافع المدوِّية زلزلت أركان هذه المدينة المُبتلاة، ومتفجرات القنابل أصمَّت الأسماع، ودمَّرت ما دمَّرت من العمران، والصواريخ المنطلقة بجبروت عاثت فسادأ في أرجاء مدن لبنان ، وأحالت نعيمه الى بؤسٍ عظيم وهمٍ مُقيم .
وقد تيتَّم من تيتَّم، وترمَّل من ترمَّل، وتقطَّعت أوصال، وانتثرت رؤوس، وانفصلت اأيدٍ وأقدام، وثقب الرصاص أجساماً تُعدُّ بالآلاف، وانقضَّت أبالسة الجحيم على أبناء مدينة بيروت فحصدت أرواحهم ، وأبادت وجودهم ، ولاشت آثارهم !
وها قد مضت أربعة أعوام ، والدم المهراق يتفجَّر ، وقد جرى مثلما تجري الأنهار دون أن تشبع أبالسة الشرّ من حصدها الأرواح وازهاقها للنفوس أ
إنه غضب ألله القدير عصف بهذه المدينة وبقراها ،فإذا هي بلقعٌ خراب وقفرٌ يباب، فالمناحة شملت جميع المنازل دون استثناء ! الكلُّ قد أُصيبوا، والجميع قد نُكِبوا، والعياذ بالله ممَّا أوقعته أسلحة الدمار بأرجاء هذا البلد الجميل إذ استحال الى أكوامٍ من الأنقاض والخرائب !
فيا لها من ويلاتٍ هائلة نكبت كلَّ لبناني ، وأحالت أفراحه إلى اتراح!
وسألت الشمعة الثانية رفيقتها القصيرة قائلة لها :
— أي أختاه ، ما هو السبب لهذه النكبة العظمى التي دثرت لبنان، وجعلت عامره خراباً؟
اجابتها :
– أولم تسمعي بإضطهاد مؤسس العقيدة الداهشيَّة؟
فقد اضطهده بشاره الخوري رئيس الجمهورية اللبنانية بتاريخ ٢٨ آب , ١٩٤٤ إذ أرسل هذا الرئيس الخائن، بالاتفاق مع زبانيته الأشرار، شرذمةً من شذَّاذ الآفاق ورعاع الازقة، طالباً منهم أن يريحوه من داهش؛ خصوصاً انَّ السيّدة ماري حداد الاديبة والكاتبة المعروفة – وهي شقيقة زوجته لور-قد آمنت برسالة داهش، واعتنقت مبادئها هي وكريماتها الثلاث ماجدا، آندره ، وزينه . ومنذ تلك الدقيقة سلَّط بشاره الخوري سيف نقمته على داهش، وكلَّف دائرة الشرطة ودائرة رجال التحرّي بتعقبه، واحاط منزله برجال الشرطة الخفيَّة يحصون عليه حركاته وسكناته لعلَّهم يجدون عليه مأخذاً قانونيَّاً لإلقاء، القبض عليه وإحضاره إلى دائرة التحقيق .
ومكثت الرقابة ستة اشهر كاملة ، ولكنهم فشلوا في تحقيق غايتهم المُبتغاة ٠ وكانت التقارير المحرَّرة جميعها تؤكد نزاهة داهش والتزامه بقوانين البلاد . ولم يستطع رجال التحرّي إيجاد أي مأخذ قانوني عليه نتيجه لتحرياتهم واستقصاءاتهم ، بل على العكس جاء كلُّ ما دُوِنَ في تقاريرهم في مصلحة داهش .
إذاً أسقط الأمر بيدهم ، وعادوا بخفي حنين ، وإد ذاك أرسلوا شرذمةً من عصاباتهم الشريرة لإغتياله في مدخل منزله ، فباؤوا بالفشل والخسران إذ انقذه الله مِمَّا انتووه له من فادح الضَّرر — أي من الموت قتلاً واغتيالاً .
وأُلقي القبض عليه ، وأصعدوه إلى سيارة الشرطة ، وبرفقته جورج حداد عديل الشيخ بشاره الخوري . وكانت سيارات رجال العصابة ملأى برجال العصابات المعتادين على ارتكاب الإجرام، وكان هؤلاء يتبعون سيارة رجال البوليس وهم يهدِّدون بقبضات ايديهم داهش وهو في سيّارة رجال الشرطة .
فالتفت داهش إلى رجال البوليس وقال لهم :
فما استطاعوا أن ينبسوا ببنت شفة ٠
وسألت الشمعة الثالثة بصوتٍ فيه ارتجاف لما سمعته من حديث هائل :
أجابتها الشمعة القصيرة :
وقالت الشمعة الرابعة بصوتٍ يملأه القلق :
يا لله ممَّا سمعته ! وكيف يقولون :
(( نيّال مين عنده مرقد عنزة في لبنان )) !
أجابتها القصيرة :
– هذا حديث خرافة . فالحقيقة تدحض الواقع ، والواقع يُكذّب الأمثال الملفَّقة ٠
فما حدث لداهش من الاضطهاد الهائل يؤيّد أن العدالة كانت مفقودة ، والحقّ كان موءوداً ، والحريَّة كانت مدوسة بنعلِ الحاكم الظَّالم ؛ إذ تبع تجريد الدكتور داهش من جنسيته وتشريده من لبنان سلسلةٌ فادحة من الأهوال المقوّضة ؛ فأُدخلت السيدة ماري حداد إلى السجن الذي قضت فيه عاماً كاملاً بين القتلة والمجرمين ، وما ذلك إلاَّ لأجل دفاعها عن مؤسِّس عقيدتها الذي ظلم ظلماً هائلاً في القرن العشرين ، وفي مدينة يقولون عنها إنها مدينة العلم والنور .
وما حدثَ يُكذب هذا القول ويُبيده ، ويُلاشي آثاره ، ويواري أخباره .
كذلك سجِنَ ، أيضاً ، بلبل لبنان الغريد وشاعره الغريد حليم دموس هذا المُسالم البريء الذي زُجَّ في أعماق السجن بالظلم والاعتداء الشائن ، لا لذنبٍ جناه أو منكرٍ أتاه ، بل لأنه دافع عن بريء ، رافعاً صوته بالتنديد بهذه الجريمة النكراء القذرة .
عاماً كاملاً قضاه وراء القضبان بأمرٍ من طاغية لبنان السفَّاح !
وصاحت الشمعات الثلاث بصوتٍ واحدٍ وقلن :
أجابت الشمعة القصيرة:
بأسفٍ عظيم أقول إنه لم يظهر أى رجل ما ، سواء أكان صحفيَّاً اًم محامياً أم نائباً أم وزيراً ٠ نعم ، لم يظهر في لبنان ، ولم يوجد في جميع مُدنه وقُراه رجلٌ واحد دافع عن حقٍّ صريح تشهد به صخور لبنان وكلّ جمادٍ في ارجاءِ هذا الوطن.
ألمُصاب بطاعون الظلم من الطاغوت بشارة الخوري السفَّاح . فالجميع كانوا يسيرون في ركابه لقضاء مصالحهم . فماذا يهمُّهم إذا ظُلِمَ أيُ زيدٍ من الناس ما دامت مصالحهم مؤمَّنة .
وعادت الشمعات الثلاث فقلن معاً :
ولو حدث واحدٌ بالألف ممَّا حدث في لبنان بأوروبا لسقطت الحكومة سقوطاً ذريعاً ، ولنشبت ثورة أحرقت الأخضر واليابس . فالشعب الأوروبي مثقف يحافظ على حقوقه ، وحكوماته تحافظ عليها قبل أن يحافظ هو عليها .
ولا يمكن ان يحدث مثل هذه الجريمة المُرعبة إطلاقاً في أيّ بلدٍ مُتحضّر أو عاصمة متمدِّنة ٠
لقد سجَّل التاريخ على لبنان وصمه هائلة ستمكث ضاغطه على صدره مدى الأجيال . ومثلما تلعن شفاه سكان الكرة الأرضية بأسرها ( قايين ) قاتل أخيه هابيل ، هكذا ستلعن شفاه أبناء الدنيا بشارة الخوري السفَّاح وزبانيته الأشرار الفجَّار في الليل والنهار.
وعادت الشمعة القصيرة فقالت:
وشمَّر الشاعر حليم دمّوس عن زنديه ونزل إلى الشوارع، و ذرعها جيئة وذهاباً ، مُندِّداً بالجريمة المُرعبة التى كان بطلها الباغية بشارة الخوري، مؤكداً للشعب أنَّ للجريمة ثمناً فادحاً ، واًنه ( أي الشعب ) إذا لم يرفع راية العصيان إ ويُندِّد بالجريمة ، وإذا لم يتطوع منهم أيّ رجل أو فئة شريفة ويُطالبوا بإعادة جنسية داهش ، وإذا لم تنشر الصحافة انباء هذه الجريمة البشعة وتُندِّد بمرتكبيها … نعم ، مؤكداً لهم أنه إذا لم ينصاعوا لارشاداته المستقاة من عالم الروح فسوف يأتي يوم ينقض فيه القصاص الهائل على لبنان ، فيدكّ عمرانه ، ويبيد بنيانه ، ويُيتِّم اطفاله ، ويذبح رجاله ، ويهتك نساءه . ٠ . ومثلما شرَّد المجرم داهشاً سيشرِّد الله أبناء هذا البلد.
وأكَّد لهم اقواله المُخيفة هذه مراراً وتكراراً ، ولكنه كان كالنافخ في الرماد ، إذ لم يحرّك أحدهم ساكناً ، ولم يتطوّع أيّ رجل منهم مُنحازاً للحقّ ، ليدافع عن داهش البريء ، ويشجب جريمة رئيس الجمهورية ، هذه الجريمة القذرة التي تدين لبنان وتصمه وصمه هائلة لا منجاة له منها.
وأخيراً طرد الشعب المجرم بشارة الخوري، وأسقطه عن كرسي حكمه ، فانزوى في منزله ذليلأ حزيناً ، بائساً ويائساً ؛ والألم يحزّ في نفسه الشريرة .
طرده الشعب بعد أن تأكَّد له إجرامه وامتصاصه لضرْع لبنان الذي اصبح كبقرة حلوب يتمتَّع بحليبها دون سائر اللبنانيين .
ولكن لم يظهر أيُّ رجلٍ أو فئة تُدافع عن داهش إطلاقاً ، بل على العكس، راحت الصحف تكتب وتذيع الأخبار، متهكِّمة على الشاعر حليم دمّوس ، قائله : إنَّ الشاعر حليم دموس قد فقد عقله ، وأصبح مخبولا ، فهو يقول إذا لم يدافع أحدٌ ما وندَّد بالجريمة التي ارتكبها بشارة الخوري ضد داهش ، فاذا ذاك ستنصبُّ الأهوال المزلزلة على لبنان.
وتابعت الصحف قائلة : إنَّها اضاحيك تافهة يذيعها حليم دموس الذي يجب أن يحجر عليه في مستشفى الأمراض العقلية ، فهناك أصبح مكانه ٠
وأكملت الشمعة القصيرة كلامها فقالت : ( إنَّ الله يُمهل ولكنه لا يُهمل ) .
– ودارت الأيام دورتها ، ودنت ساعة العقاب ، وإذانا في عام ١٩٧٥ . وفي هذا العام ابتدأ الرصاص يلعلع ، وعقبته المقنبلات ، فالكلاشنكوف ، فالصواريخ ، فالمدافع . . . وراحت الآت الدمار تنصبُّ فوق لبنان إنصباب الرهبوت إ
وكم وكم ذُبح من الشبَّان على الهويَّة ، وكم منهم تقطَّعت أوصالهم، وكم منهم سُحِلوا ، وكم منهم سُفِح دمه في السراديب المُخيفة ، وكم منهم سُمِلت عيونهم ، وجُدِعَت أنوفهم ، وقُطعت أعناقهم !… لقد تجوَّل الهلع في الشوارع، وذَرَعَ المنازل ، وبحث في المنعطفات ، فكان القتل من الطرفين على الهويَّة دون شفقةٍ أو رحمةٍ إطلاقاً .
وعمَّ الخوف ، وصال الوجل ، واحتلَّ الهلع الأفئدة ، وقطن في الصدور ، وراحت الأبنية تخرُّ وتنهار أمام آلات الهول المفزع ! ..
وكم وكم إعتُديَ على الأعراض !. . وكم وكم خُطف شبَّانٌ وقُتلوا فوراً !٠٠ وكم وكم من المتاجر نُهِبت ، . وبيوتٍ أفرِغت محتوياتها ! . . وكم وكم من الآلاف وعشرات الألوف هَجروا موطن الهلع المُرعب ، مُغادرين منازلهم ، مُشرَّدين تحت كلّ كوكب!..
وها هم سكان الدامور وقد تركوا مدينتهم تنعي من بناها بعدما احتُلَّت . . .
وكم من المآسي وقعت!٠٠٠ وإذا ذُكِرت يُظَنُّ أنَّها أساطير تروى وليست حقائق تُذكر .
وسألت الشموع الثلاثة رئيستهن القصيرة، قائلاتٍ لها :
– وداهش ماذا حلَّ به ؟
اًجابتهنَّ :
إن داهش كان لمضطهديه بالمرصاد ، فكتبه السوداء فكَّكت زرد ظهورهم ، وكشفت حقيقتهم ، فإذاهم يبدون عُراةً أمام الجميع ! إذ مُلئت كتبه السوداء بأفظع ما ارتكبوه ، وأقذر ما خاضوا غمراته ، فعرفهم الجميع بعجرهم وبجرهم ، فلعنوهم ليل نهار .
وإني أؤكّد لكم انه لو وجد من دافع عنه كمظلوم مُعتدى على حقوقه لما أنزل الله غضبه على مُدنهم وجعل عاليها سافلها.
وقد اصابهم ما أصاب سادوم وعاموره . فكم وكم نصح لوط أبناء قومه السادوميين والعاموريين ليرتدعوا عن شرورهم، فما أبِهوا بمواعظه وإرشاداته ، وإذا بالعلي القدير يُمطرهم ناراً وكبريتاً فتحرقهم مع مدينتهم ، ويبيد ذكرهم حتى أبد الآبدين ٠ ويقرأ الناس سيرتهم فيردِّدون لعناتهم على قبورهم المدنَّسة ٠
وكذلك أيضأ الأب نوح ، فكم وكم نَصَح أبناء قومه بالإرتداع عن الشر وطلب التوبة ، فكان ضحكهم عليه يزيد ، وتهتكهم على أقواله يتفاقم ٠
وإذ ذاك أمطرهم الله ٠ ٤ نهاراً و٠ ٤ ليلة ، وإذا بالطوفان يهلكهم ويوردهم موارد التهلكة ٠
وهذا ما أصاب لبنان ! …
فقد نصحهم الشاعر حليم دموس مراراً وتكراراً ، ولكنّه كان كالنافخ بالبوق في الصحراء ، فما ناله من أبناء وطنه إلاَّ التهكُّم الذريع والقول الشنيع ٠
وعندما طَفَحَ الكيل ، ولم يعد في قوس الصبر منزع ، ودنت الساعة المحدَّدة التي سيحلُّ فيها جزاؤهم إذا لم يرعووا، ولم يدافع أيٌّ منهم عن حقّ داهش المطعون ، ولم يُهاجم الظّلم الهائل والمُرعب الذي أوقعه الباغية بشارة الخوري بداهش …
إذ ذاك تمَّت نبؤة حليم دمّوس المُستقاة من عالم الروح والتي بلَّغهم إيّاها مراراً وتكراراً ، فكان جزاؤه التهكُّم الذريع على صفحات الصُّحف’مثلما سبق أن تهكَّموا على نوح و لوط .
قلتُ : دنت ساعة العقاب ! وإذا بالمدفعية تُحمحم وتصبُّ ويلاتها على أبناء لبنان بقضِّهم وقضيضهم !
وإذا بالصواريخ تزأر وكأنها الأسود تضجُّ بأصواتها المروِّعة!
وإذا بالرصاص والمقنبلات تحصد الأرواح حصداً !
وإذا بالتيتُّم يملأ البلاد ، وبعويل الخوف يجول ويعول في ارجاء لبنان من أقصاه إلى أدناه!
وإذا بالنكبة تتمُّ وبالخراب يشمل الجميع ويعمّ !
وإذا بالنحيب الهائل والعويل المُدوّي يُردِّم الآذان !
وإذا بالسلب والنهب والإعتداء يشمل الجميع، فالجمع عوقبوا دون استثناء!
فلو اصاغوا للشاعر حليم دموس ، ووجِدَ من يُدافع عن مؤسِّس الداهشية لما وصلوا إلى هذه النتيجة الرهيبة التي عصفت بلبنان عصفاً مأكولا !
وفجأةً أنارت الكهرباء الأرجاء ، فصمتت الشمعة عن الحديث إذ بهرتها انوار الكهرباء الساطعة.
بيروت ، الساعة السابعة والربع: من ليل ١٩٧٩/٢/٤.
الدكتور غازي براكس.
في القدس , مدينة الانبياء , ولد الدكتور داهش , في مطلع حزيران سنة 1909
والده موسى الياس اليشي (نسبة الى اليشع النبي) ,و والدته شموني ابنة حنا مراد كانون .عاشا , قبل زواجهما , في ما بين النهرين , الاب في بلدة افسس , و الام في بلدة ازخ, و كانا ينتميان للطائفة السريانية , تلك الطائفة التي تتكلم الآرمية, لغة المسيح , حسب كثيرين من المؤرخين.
ثم اعتنق موسى البروتستنتية , و أنشأ مدرسة, في مسقط رأسه , انصرف فيه الى تعليم الناشئة بنفسه.
و كانت شموني احدى تلميذاته, فاجتذبت نظره باستقامتها و ذكائها ,فمال قلبه اليها, و اقترن بها بعد ان اعتنقت البروتستانتية بدورها.
و تشاورا فيما يسميناه, فقرّ رأيهما على ان يفتح الوالد الكتاب المقدس , عفويا , ويضع اصبعه , دونما نظر , على احدى الصفحتين. و اذا بأنمله على عبارة وردت في العهد القديم:” فولدت ابنا , فدعاه سليمان, و أحبَّه الرب ” (سفر الملوك الثاني 12:24). فسميا طفلها سليمان , ثم خففا اسمه , فصار (سليم).
وما ان أخذ الصبي يدرج, حتى ترك والداه القدس الى حيفا. وعام 1911 انتقلا, مع أولادهما , الى بيروت, حيث سكنوا في حي المصيطبة, بملك جرجي ناصيف.
و في فلسطين , حُرِّف اسم العائلة من (اليشي) الى (العشي) مثلما يجري في كثير من الأسماء. وجرى هذا التحريف قبل ولادة الصبي.
وهكذا اصبحت الاسرة النازحة عربية اللسان, بروتستانتية المذهب, وبعد عشرة أعوام ستصبح لبنانية الجنسيَّة.
المعجزة الاولى: في المهد تكلم:
كان الطفل ما يزال في المهد , عندما اصابه مرض عضال . فقلق عليه والده الذي كان يعمل في مطبعة الجامعة الاميركية ببيروت, واتَّصل بطبيب اميركي اسمه الدكتور سميث.فحضر, و وجد الطفل في غيبوبة , فعالجه بالعقاقير حتى يستردّ وعيه , لكنه فشل. و اذ بدأ اليأس يتسرَّب الى نفس الام , و هم الطبيب بالإنصراف , نهض الطفل فجأة , و قد شُفي بصورة عجائبية , واخذ يتحدَّث الى الطبيب الاميركي , بالانكليزية بطلاقة عجيبة, ذاكرا له الدواء الذي كان عليه ان يعالجه به؛ علماً بأن الطفل ابن الاعوام الثلاثة لم يكن ليجيد الكلام حتى بالعربية. فكان عجب الطبيب أعظم من عجب والديه فسأل الطفل: ” ولكن كيف عرفت الداء والدواء؟” فأجابه:”أنا دواء كل داء.” فازدادت دهشة الطبيب ولكنه لم يفهم شيئاً من حقيقة الطفل, و راح يحدّث معارفه بما رأى و سمع.
تكلُّمه بالهندية:
حدثني رجال مسنُّون كانوا يعيشون , في محلة المصيطبة ببيروت , قبيل الحرب العالمية الاولى , و بينهم السيد انطوان بارود , انهم بينما كانوا واقفين في تلك المحلَّة يتحادثون , اذا برجل غريب يمرّ فيطرح عليهم اسئلة بلغة لم يفهموها , فيلتف الناس حوله , يحاولون التفاهم معه , دونما جدوى.
و اذا بصبي في حوالي الخامسة من عمره , يدخل بينهم , متقدما الى الرجل الغريب الزي و اللسان, و يروح يحدثه بطلاقة بالغة نفسها التي كان يتكلم بها. و تبدو علامات السرور على وجه الغريب, فيشكر الطفل ويمضي في سبيله, بينما تأخذ الدهشة الناس ؛ فيسألون الطفل كيف استطاع ان يتفاهم معه, و بأية لغة؟
فيجيبهم: “إنه هندي ضلَّ الطريق, فهديته اليها.”
فيقولون له مُتعجبين:
– كيف استطعت هدايته الى الطريق الصحيح وأنت ولد صغير تجهل الطرق
ولا تجيد الكلام حتى بالعربية؟
فيجيبهم:
و يسأل الناس المدهوشون الصبي عن اسمه , فيعرفون انه سليم العشي.
الصيد الاعجازي:
روى لي السيد انطوان بارود انه , بعيد الحرب العالمية الاولى , قصد شاطىء بيروت , صباحا , يبتغي صيد السمك . فأمضى ساعات و هو يلقي شبكته , في البحر , ثم يخرجها فارغة.
و فيما هو يهم بالعودة الى منزله , يائسا , اذا بصبي في حوالي الحادية عشرة من عمره ,يقفز على رمال الشاطىء متقدما اليه. فنصحه بأن يلقي شباكه في مكان عينه له , لكن الصيَّاد رفض , مؤكدا انه القى شباكه في المكان نفسه مرارا , كما القى شِصَّه تكراراً, و لم يظفر بشيء.
و اذ الح الصبي عليه, القى السيد بارود شِصَّه اولاً ثم شبكته, فكان الصيد وافراً. و اعاد الكرة ,مرارا , فكان يخرج بصيد وافر , كل مرة ,حتى استولت عليه الدهشة. وكان الصبي جاره في محلة المصيطبة, لكنه قلما كان يلتقيه. فتذكر اذ ذاك تكلمه بالهندية قبل بضع سنوات, وأخذ يتتبع اخباره باهتمام.
الشفاء العجائبي:
فيما كان المسيحيون من اهالي محلة المصيطبة يحتفلون بعيد مارالياس (ايليا النبي) سنة 1920 , اذا بأحد الصبية يذهب و يجيء بسرعة , على دراجة , بين الناس, في الشارع. و فجأة يحدث له اصطدام , فيسقط ارضا , و يجرح , وتصاب دراجته بالتواءات؛ فيأخذ بالعويل.
ويهرع الناس نحو الجريح وهو يبكي ويستغيث, فيُمرُّ يده عليه قائلا له:
– قم , و اذهب الى بيتك بسلامة. شفيت جروحك بإذن الله.
وكان شهود هذه الخارقة كثيرين , بينهم افراد من آل بارود وآل الاشقر وآل بيضا. وقد ظلوا يتحدثون بهم طويلاً وهم في حيرة وبلبلة من أمر القوة العجائبية التي يتمتع بها الفتى الذي يسكن حيَّهم.
اليتيم المعذب:
في 25 كانون الاول سنة 1920 , توفي والد الطفل المعجز, بعد ان اصيب بالسل, و اعيا داؤه الاطباء , فدفن في مصح هملن , في الشبانية (لبنان).
فوضع سليم و شقيقته الصغرى انتوانيت في مدرسة للأيتام تابعة للإرسالية الامريكية في غزير, احدى قرى لبنان.
لكن الصبي ساءت صحته , بعد مضي اشهر قليلة , فترك المدرسة , و كان اخر عهده بها.
و قد لازمه داء الربو حوالي ثلاث سنوات, حتى قارب الموت , لكن العناية الالهية انقذته و عافته.
و روى رفاقه ومعلموه ـــ منهم جورج شيخاني وحبيب كوراني ـــ معجزات و نبوءات كثيرة قام بها, في المدة القصيرة التي امضاها بينهم.
الفتى الشغوف بالمعرفة:
كان سليم شغوفا بالمعرفة ,لكن وضع اسرته الاقتصادي لم يسمح له بمتابعة دروسه في مدرسة كبيرة , و لا بإبتياع الكتب. فما ان تحسنت صحته مع بداية عام 1923 , حتى اخذ يستأجر الكتب من المكتبات ,فيطالعها و يطيل السهر عليها . فحصَّل مع الزمن معرفة واسعة شاملة بنفسه دونما استعانة بأحد. وفي 7/3/1923, حصل سليم على تذكرة هوية الجنسية اللبنانية, بعد ان حازتها والدته قبل عامين.
عينان تشعان نوراً:
ذات ليلة من عام 1923, اطال الفتى العجيب سهره , في منزل خالته بالقدس , وهو يطالع احد الكتب المقدسة. فما كان من خالته الامية الا ان اسرعت و اطفأت قنديل الكاز الذي يستضيء به, ودعته الى النوم , حرصا على صحته و على زيت الانارة.
امتثل الفتى لرغبتها .لكن , لم يمضي هزيع من الليل , حتى استيقظت الخالة , فرأت نورا يضيء زاوية الغرفة , و الفتى جالس يقرأ. فنهضت مغضبة , و في نيتها اطفاء القنديل و إخفاؤه , و ايقظت زوجها , ليؤدبا معا الفتى العاصي.
لكنهما سرعان ما تسمرا في الارض مشدوهين , مذعورين , اذ كان القنديل غير مضاء , و نور ساطع غريب يشع من عيني الفتى العجيب.
لم يفهما من الامر شيئا , و لم يحصلا منه الا الخوف . فإتصلا , عند الصباح , ببعض رجال الدين المسيحيين ,و شرحا لهم ما حدث للفتى . فاكد رجال الدين لهما ان ” مساً شيطانياً ” قد اصابه , و ان الكتاب الذي يطالعه قد يكون تلَّبسَهُ روح شرير.
عادت المرأة و زوجها الى المنزل , و الفتى غائب , فبادرا الى الكتاب الذي كان يطالعه , و احرقاه في احدى زوايا المنزل.
و ما ان عاد الفتى حتى طالبهما بالكتاب , فأنكرا على ان يكونا على علم به . فتوجه غاضبا الى حيث الرماد , وضرب بيده عليها, فإذا بالرماد يتكون كتابا كما كان.
و شاع الخبر في الجوار , زارعا في نفوس الناس الجاهلين الخوف من الفتى الخارق.
مشيه على الماء:
بدءاً من سنة 1926 , اخذت عجائبه تتكاثر , ويزداد شهودها . و في عيد مارالياس , من هذا العام , صنع خوارق كثيرة امام جمع غفير , في بيروت, حتى اصبحت اخبار معجزاته موضوعا يوميا في احاديث الناس.
ثم انتقل الى بيت لحم .و ذات يوم , كانت ضفاف برك النبي سليمان التي تقوم قرب المدينة التي شهدت ولادة المسيح , تغص بالرواد و المتنزهين ,و فيهم كثيرون من السريان , بينهم السيد كوريه ملكي عبدالله. و كان الفتى المعجز حاضرا . فذكر احدهم مشي المسيح على الماء , فقال الفتى الخارق:
– ماذا تقولون عني ,اذا مشيت فوق ماء البحيرة ذهابا و ايابا؟
فإستعظموا الامر , و استبعدوه.
و على التو , بدأ يسير على صفحة الماء رويدا رويدا , كأنما يسير على الارض, حتى اجتاز البحيرة كلها , ثم عاد ادراجه الى نقطة انطلاقه.
و فحص الشهود المشدوهون الكثيرون حذاءه , فوجدوه غير مبلل, فإزداد عجبهم . و سأله كوريه عبدالله كيف حدث ذلك؟ فأجابه:
– انا اسير فوق المياه كما اسير على اليابسة.
الفتى المؤدب:
ما ان بلغ الفتى العجيب الرابعة عشرة من عمره , حتى اخذ يشفع خوارقه التي يصنعها , في مدن فلسطين , بتقريعه رجال الدين على انحرافهم عن تعاليم المسيح, و اتجارهم بتعاليمه المقدسة , و بفضحه سلوكهم الشائن و اعمالهم الخفية المنكرة , داعيا الصبية الكثيرين الذين كانوا يلتفون حوله , الى عدم الانخداع بأقوالهم؛ حتى بلغ ذروة حملته عليهم , في بيت لحم , سنة 1927 , فضج الكهنة منه , واستعدوا عليه رجال الشرطة . و كان رجال الدين يتهددونه في كنائس بيت لحم , و يتوعدون كل من يتردد اليه, محذرين الشعب منه . لكن خوارقه كانت تزداد, و نفوذه في الناس كان يتعاظم , على صغر سنه ,لان الله ايده بسلطانه.
داهش الناس:
ما ان ناهز الفتى الخارق العشرين من عمره , حتى اخذ يلتف حوله عدد من المثقفين الفلسطينيين ممن مالت قلوبهم الى الامور الروحية, فتتلمذوا له . و كان بينهم الشاعر مطلق عيد الخالق , و الوجيه توفيق العسراوي.
و ذات يوم من سنة 1929 , ألهم الفتى العجيب بأنه يجب ان يغير اسمه , و يتخذ اسما روحيا , و بانه سيعطى الاسم الجديد عن طريق القرعة.فأخبر تلاميذه بذلك , فعمدوا الى كتابة اسماء كثيرة , على قصاصات من الورق , ثم طووها و خلطوها . و اختار (سليم)واحدة منها , فإذا فيه اسم(داهش). لقد اراد الله ان يعرف رسوله , من بعد بهذا الاسم الروحي , و به تشيع عجائبه بين الشعوب , ليكون داهش الناس . ورافقه لقب “دكتور” مثلما رافق لقب “الحكيم” سليمان النبي. وبذلك تحققت نبوءة أشعيا النبي القائل:” لأنه قد ولد لنا ولد, اعطيَ لنا ابن, فوضعت السيادة على عاتقه, وسيلقب بالعجيب المشير [ داهش الحكيم ], جبار الله, الأب الأبدي , أمير السلام.”(أشعيا6:9).
معجزة يونان النبي:
بعد ان اتسعت شهرة داهش , و تناهت اخبار معجزاته الى المحافل العلمية في باريس , ارسلت اليه جمعية المباحث النفسية الفرنيسة تستضيفه على نفقتها. فسافر اليها برفقة شقيقته انتوانيت, وذلك على يقينه ان تلك الجمعية وغيرها مما يماثلها بعيدة عن فهم الحقائق الروحية بعد السماء عن الارض.
و اذ طُلب اليه ان يُري المجتمعين معجزة من معجزاته , اجابهم انه سيريهم اية يونان النبي.
فطلب ان يوضع في صندوق حديدي , و يحكم اغلاقه , و يدفن في قعر نهر السين , سبعة ايام , تحت الحراسة المشددة .
اجفل المجتمعون , اولا , لخطورة العرض , لكنهم عادوا فقبلوا , عندما كتب لهم اقرارا عن عاقبة طلبه.
و بعد ان فحصته لجنة طبية ,استحضروا صندوقاً حديدياً, ونزلوه فيه, واغلقوه عليه اغلاقاً محكماً , ثم اسقطوا الصندوق الى قعر نهر السين.
و بعد مضي سبعة ايام , و امام 150 شاهدا من المهتمين بالامور النفسية , رفع الصندوق , وفتح .و اذا بالجثمان الساجي يتحرك , و بالوجه الواجم يبتسم.
بعد هذه المعجزة المذهلة , منح داهش شهادة العلوم النفسية من قبل ” الجمعية النفسية الدولية” Société Psychique Internationale بتاريخ 6 ايار 1930 , ثم شهادة الدكتوراه من قبل ” معهد ساج” Sage Institute الأميركي في باريس, بتاريخ 22 ايار 1930.
بدأ الدكتور داهش بتدوين افكاره و عواطفه من سنة 1927 ,حتى اذا بلغ اواسط العام 1933 , قد انهى تأليف كتابه الاول”اسرار الآلهة”بجزءين, وقبل تمام العام نفسه, انجز كتابه الثاني “قيثارة الألهة” بجزءين, فالثالث “ضجعة الموت”.
و مابين 1933 و 1950 توالت مؤلفاته حسب الترتيب التاريخي التالي: القلب المحطم, الالهات الست, كلمات, جحيم الذكريات, الدهاليز, النعيم, الجحيم, بروق و رعود, عواطف و عواصف, مذكرات يسوع الناصري, نشيد الانشاد,ناقوس الاحزان او مراثي إرميا,عشتروت و أدونيس,نبال و نصال, من وحي السجن و التجريد و النفي و التشريد, اوهام سرابية و تخيلات ترابية,الحمامة الذبيحة او شهيدة الداهشية الاولى ماجدا حداد, ابتهالات خشوعية,مذكرات دينار.
و بين 1950 و 1983 ألّف الدكتور داهش عشرات الكتب الاخرى التي تضم , في ما تضم, مجموعة”قصص غريبة و اساطير عجيبة” بأربعة اجزاء, و سلسلة “حدائق الآلهة” و “فراديس الإلاهات”في عشرين جزءاً, وسلسلة”الرحلات الداهشية حول الكرة الارضية” في اثنين و عشرين جزاً, بحيث أربت مؤلفاته على المئة و الخمسين.
و قد خاض الدكتور داهش معظم الميادين الادبية, و جلّى فيها.
الرسالة الالهية:
إن المعجزات التي صنعها الدكتور داهش لم تكن غاية بحدّ ذاتها, بل وسيلة, و بكلمة اصح شهادة على صحة الرسالة الالهية التي كان الدكتور داهش يشعر بإرهاصاتها, و يرتقب بشوق عظيم ان يحققها الله على يديه, منذ حداثته, حتى اذا ما بلغ السابعة و العشرين, سنة 1936, سجل في كتابه”كلمات ” شعوره قائلاً:
” اشعر بأني احوي في اعماقي قوى روحية خفية هائلة تود الانطلاق, لتقوم بعمل خطير عظيم, و لكنني أكبتها الى اجلٍ معلوم. و لن يمضي غير قليل حتى تتفجَّر ينابيعها, و تجتاح في طريقها كل ما يعترضها من حواجز و عقبات, ثم تبرز للعيان جلية, واضحة, لا لبس فيها و لا غموض”
و ما ان انقضى العام المذكور حتى اثبت الدكتور داهش في كلمة استقباله للعام التالي هذا القسم العظيم:
” اقسم بك يا خالقي, انه لو وجد ملايين
من الاغبياء المارقين, او الخونة المماذقين,
و ملأوا طروس الارض,
لا, بل لو نقشوا حجارة هذا الكون بأسره , قائلين:
“ان رسالتي هذه غير صادقة”,
لمشيت رافع الرأس, موفور الكرامة.
و سأبقى على تبشيري و إذاعة رسالتي,
حتى تعمُّ الارض , و تنتشر في السماء ايضا.
و لن تثنيني البرايا بأسرها عن أدائها , يا الله,
ما دمت انت تمدُّني بقوتك الالهية.
و هذه يميني, يا خالقي ,
ارفعها لك من اعماق قلبي
الذي لا يخفق إلاّ بذكر اسمك القدوس,
برهبة و خشوع كليّين”
و كان على الارض ان تنتظر حتى 23 آذار 1942, لتشهد تمام الحدث الجلل, اذ إن الارواح العلوية تنزلت,في هذا اليوم, على الدكتور داهش ,بحضور المؤمن الاول الاديب يوسف الحاج, معلنة قيام الرسالة الداهشية, و بدء التاريخ الداهشي في العالم, و ذلك في اول جلسة روحية عقدها مؤسس الداهشية.
إضهاد مؤسس الداهشية و اتباعه:
بعد إعتناق الاديب يوسف الحاج الداهشية, تتابع المؤمنون بها من رجال الادب و العلم,
و اعيان المجتمع. و كان بينهم رئيسة نقابة الفنانين , الاديبة ماري حداد , شقيقة زوجة رئيس الجمهورية اللبنانية الاسبق بشارة الخوري, فآمنت هي و زوجها و افراد عائلتها , بعد معاينتهم معجزاته الدامغة.
إزاء هذا المد الايماني الجديد يغزو المجتمع اللبناني , في مختلف طوائفه , موحدا بينها ,مزلزلا اوهامها و تقاليدها البالية, محدثا ضجة مدوية في الصحافة اللبنانية و العربية , خاف ذوو ماري حداد و انسباؤهاـــ و لا سيما شقيقتها لور و شقيقها ميشال شيحا ـــ ان يضعف في لبنان نفوذ الكثلكة التي كانوا يتعصبون لها, فأخذوا ينسجون المؤامرات على رجل الروح , متعاونين مع رئيس الدولة بشارة الخوري وزبانيته و المتواطئين معه من رجال الدين , مهدمين بذلك كل الشعب اللبناني بوحدة اجتماعية روحية.
حاولوا, اولا ,اقناع ماري حداد بالتخلي عن عقيدتها الجديدة, لكن مساعيهم تحطمت على صخرة إيمانها الوطيد.
إذ ذاك , حاولت السلطات احالة رجل الروح على المحاكمة , بتهم راحت تدبر من يفتريها عليه . ففشلت فشلا ذريعا , المدعي العام المركزي الاستاذ ديمتري الحايك الذي كلفه رئيس الدولة بهذه المهمة فضّل ان يقال على ان يصدر اتهاما بحق الدكتور داهش , و آمن برسالته السماوية.
حينئذ , عمدت السلطات الى استمالة النواب بمختلف الاساليب الترغيبية و الترهيبية, ليقروا مشروع قانون يمنع ” مناجاة الارواح”, و بالتالي يمنع الدكتور داهش من ممارسة نشاطه , و اجتراح معجزاته, ذلك مع العلم بأن معجزات داهش لا علاقة لها ” بمناجاة الارواح”؛ غير ان السلطة الغاشمة , آنئذ ٍ, اصرت على تسمية ” الجلسات الروحية الداهشية ” بـ ” بمناجاة الارواح” لتتسنى لها ذريعة لملاحقة رجل الروح البريء. لكن المشروع سقط , ايضا. عندئذ , نشطت السلطات, بالتعاون مع رجال الدين المسيحي , الى تشويه سمعة رجل الروح الطاهر بتلفيق الشائعات و الإفتراءات الخسيسة عليه, و تذييعها بين الناس, في الكنائس, و المدارس , و الصحف . و منع الداهشيون من الرد على تلك الحملات من الاكاذيب الدنيئة.
اخيرا , لجأت السلطات الى اساليبها الجحيمية لمحاربة رجل الله , فألقت القبض عليه في 28 آب 1944 , و دونما محاكمة , زجت به في السجن. ثم ما لبثت ان سجنت الداهشيين البارزين , تباعا , و بينهم الاديبة ماري حداد نفسها دونما محاكمة ايضا.
و في 9 ايلول 1944 , نفت السلطات مؤسس الداهشية الى خارج الحدود اللبنانية , بعد ان جردته من جنسيته اللبنانية بطريقة تعسفية خرقت بها الدستور , وبعد ان سامته من الجلد و العذاب و الاهانة الوانا. ثم ابعد, بتواطؤ بين بشارة الخوري و محافظ حلب , الى الحدود التركية.
و هكذا , شرد رجل الروح , و رمي في بحار الاخطار تتقاذفه امواجها , من دون ان يعلو, في لبنان, صوت واحد يدافع عنه, من نائب او صحافي او قاضٍ او مواطنٍ عادي.
وحدها اصوات من وراء البحار , من اميركا الجنوبية كانت تسمع غاضبة, و كان اعلاها و اجرأها صوت الاديب جبران مسوح , صاحب مجلة ” المختصر”, الصادرة في بونس ايرس(الارجنتين). ومما قاله في حملته على مضطهدي الداهشية التي إمتدت نحو سنتين :
” جميع اعداء داهش سوف ينكسرون, و احط ما في انكسارهم هذا انهم سوف يحملونه الى قبورهم, لان هذه الجريمة لا تتلاشى في الهواء, و لا تذوب عناصرها في الفضاء.
فهي ترافق مرتكبيها, ملتصقة بهم , مندمجة بخلاياهم . فتذكر كلما ذكروا, و يذكرون كلما ذكرت. فهم و هي عظة و ذكرة لكل الاجيال القادمة”
رجل الروح يؤدب و ينذر متنبئاً:
بعد مضي شهر واحد على نفي مؤسس الداهشية , تمكن رجل الروح من العودة سراً الى لبنان في 9/10/1944. و من عرينه , ورغم انوف الالوف ممن يترصدونه , نجح في شن حملة إعلامية رهيبة , لم تعرف الارض مثيلها, ضد الطغاة و زبانيتهم. فوضع و وزع على نطاق واسع , 66 كتابا اسود , و 165 منشورا تناولت رجال الحكم و الدين ممن تآمروا عليه , ففضحت مخازيهم و قبائحم , و هتكت اسرارهم و مؤامراتهم على الشعب وجعلتهم مضغة في افواه الدبلوماسيين الاجانب و رؤساء الدول.
و قد ساعدت هذه الكتب و البيانات السوداء على ايقاظ الشعب و اثارته ضد حكامه البغاة,
فأسقط بشارة الخوري من على كرسي الرئاسة سنة 1952 , و انتخب كميل شمعون رئيسا للجمهورية, فرد الجنسية للدكتور داهش , في اول عهده, سنة 1953.
نبوءة خراب لبنان:
في 4 كانون الثاني 1948 , نشرت جريدة “الحياة” البيروتية , و بعض الصحف اللبنانية الاخرى نبوءة للدكتور داهش , مفادها ان بيروت ستحترق بالكبريت و النار, و ان الخراب سيعم لبنان من اقصاه الى اقصاه , و ذلك نتيجة لإضطهاد الدولة لمؤسس الرسالة الداهشية , و سكوت الشعب الممثل بنوابه و قضاته و ادبائه و صحافييه عن هذه الجريمة.
و لأن ابعاد هذه النبوءة الرهيبة تخطَّت منطق المراقبين , و ناقضت رغبات الظالمين و الطامعين , فقد وقفت الصحافة , آنذاك , منها موقف الساخر .
لكن التاريخ, اليوم , بعد نكبة لبنان و شعبه , هو الذي يستهزىء بأولئك الساخرين.
إهتمام الدكتور داهش المثلث :الرسالة و الثقافة و الفن
بعد ان استرد الدكتور داهش جنسيته السليبة بكفاحه العنيد , انصرف الى اتمام رسالته الالهية , فكان , حتى ساعة متأخرة من الليل , يستقبل زائريه الذين كانوا يتقاطرون عليه بالعشرات , يوميا, فيعاينون معجزاته , و يستمعون الى تعاليمه الروحية, و بينهم كثيرون من الصحافيين الذين كانوا ينشرون في صحفهم تحقيقات مثيرة عن معجزاته , مؤيدة بالصور الفوتغرافية التي تسجل مراحل اجتراح الخوارق .
وبدءًا من سنة 1969 , باشر الدكتور داهش”رحلاته حول الكرة الارضية ” التي دون وقائعها في سلسلة تضم 22 جزءأ. و قد سجل فيها مشاهداته , و إنطباعاته ,و احكامه البتارة على مدنية القرن العشرين, حيثما حلّ , منذرا ً الشعوب بكارثة شاملة اذا لم يرعووا عن مظالمهم و معاصيهم المتعاظمة .
فضلا عن ذلك , و عن وضعه عشرات المؤلفات الاخرى , صرف مؤسس الداهشية قسطا وافرا من وقته , لإتمام إنشائه مكتبة ثقافية جامعة كان قد بدأ تجميع كتبها , منذ عنفوان شبابه , و قد ضمت , حتى الآن , نحو ربع مليون كتاب في لغات متعددة, إختارها بنفسه من بلدان كثيرة , لتكون تراثا للداهشيين يستحثهم على الاستزادة من المعرفة.
كذلك تمكن , بفضل مراسلته للفنانين و معارضهم , تلك المراسلة التي بدأها منذ عنفوان شبابه, وإشتملت على نحو نصف مليون رسالة , كما بفضل رحلاته الكثيرة ,من إنشاء متحف داهشي للفن يضم الوف القطع النفيسة في الرسم و النحت . و هوذا متحفه اليوم يقوم بنيويورك عاصمة الدنيا.
و في 1/9/ 1980 , غادر مؤسس الداهشية لبنان, ليتابع جولاته في بلدان العالم,
و يتم رسالته الروحية. و في 9/4/1984 عاد ابن السماء الى فردوسه مخلفا ً رسالة الهية بدأت تغزو الشرق و الغرب . و لن يطول الزمان حتى تمد شجرة الداهشية المباركة اغصانها على الارض كلها, و تحت افيائها تتآخى شعوب العالم , و تسود الفضيلة و العدالة , و تنتصر الحرية , منحة الله للإنسان , و يعود كل مؤمن الى جوهر دينه النقي , القائم على المحبة و الرحمة و الاحترام لكل إنسان آخر كما على التسامح و السماحة الخلقية.
الدكتور غازي براكس.
من كتاب أضواء جديدة على مؤسِّس الداهشيَّة ومُعجزاته الروحيَّة ص 20
بقلم الدكتور غازي براكس
في أول يوم من عام 1982 ( قبل عامين ومائة يوم من عودته إلى عالمه السماوي) داهش، الرسول المحبوب والمرشد، كتب في المجلد الثامن عشر من كتابه “أسفار حول العالم” قطعة توضح الحالة السيئة للبشرية.
فيما يلي هو الملخص:
في هذه الأيام، معظم الناس يعتبرون الدين أنه تمثيلية مبنية على أسطورة. يعتبرون القيم الروحية خادعة والفضيلة سخيفة ولهذا السبب، ساد الشر في عالم مليء بالإباحية المتفشية، والإرهاب المستمر والمنتشر، والجشع، وأفعال الشر الكثيرة. لهذه الأسباب، غدا من الصعب إيجاد الحب والرحمة، حيث يقهر القوي الضعيف، وحيث يكون القتل هو القانون الشائع. كنتيجة لذلك، غدت حياتنا غير مستقرة ومجردة من أي معنى وهدف، لأن حضارتنا الكاذبة المادية أعطتنا الملذات الجسدية وغريزة اللحم والدم، ولكنها فشلت في إرواء عطش أرواحنا إلى الحقيقة الروحية التي تهدئ الروح. غدت الحياة، بالنسبة للكثير من الناس، جحيماً.
أدرك داهش أن الحل للكثير من أمراض هذا العصر وشروره هو ليس في شكل حكومة معينة، مثل الديمقراطية أو الاشتراكية، بل بالرجوع إلى ممارسة القيم الروحية والقيم الإنسانية، مثل التعاطف، الحب، الرحمة، والشعور مع الإنسان الآخر.انتشرت المأساة، حتى في البلدان التي أسمت نفسها بالديمقراطية، أو الاشتراكية، أو بالأسماء الأخرى.
نظر داهش أيضاً إلى الرجوع إلى أصل الدين الصحيح ليس بإتباع العقيدة أو الطقوس، بل باعتناق القيم الروحية وتطبيقها.إنها الطريقة الوحيدة لتحقيق الخلاص الذي سينقذ البشرية ويرشد أرواحها إلى السلام. وإلا، فلتنتظر البشرية الكوارث والأخطاء الفظيعة.
يؤكد المسيح العائد أن انحراف البشرية عن أصل أديانها سوف يقود بلا شك إلى دمارها. إنه يبني ذلك على معرفته المستلهمة أن الخالق لديه نوايا معينة في خلق العالم وأن البشر يستحقون وجودهم على الأرض مع الموت وكل أشكال المعاناة في عقابهم. يقول أن الأديان جاءت إليهم كرحمة وأداة حتى ينقوا أنفسهم ويعيدوا مكانتهم في عوالم الجنة، وإلا، تنتظرهم المعاناة في عوالم الجحيم.
علامات رجوعه
أولئك الذين يعتقدون أن القرون التي جاءت بعد يسوع المسيح كلها متشابهة وأن الحروب، والأمراض، والمجاعة التي تحدث عنها المسيح في الفصل الرابع والعشرين من إنجيل متى والفصل السابع عشر من إنجيل لوقا، والتي أثبتت صحتها على مر العصور، هي كلها خاطئة.
يتميز القرن العشرين، وللمرة الأولى بالتاريخ، بحربين عالميتين حيث مات 216 مليون* شخص كنتيجة حرب أو تصفية سياسية. أضف إلى ذلك الـ 20-40 مليون** شخص الذين ماتوا من الأنفلونزا الاسبانية بعد الحرب العالمية الأولى. فأحداث القرن العشرين وحدها هي علامات عن المجيء الثاني للمسيح لأن الخطر على البشرية وصل إلى أقصى حد.
*في “نشرة عن العلماء الذريين” آذار/ نيسان 2004، راجع جوناثان دين الورقة العرضية رقم 29، 2003 من دراسات السلام في جامعة كورنيل بعنوان “حالات الموت في الحروب والصراعات بين عام 1945 وعام 2000” بيد ميلتون ليتنبيرغ.
يذهب ليتنبيرغ ليناقش أعداد الموتى، التي تتراوح من أقرب تقدير- حالات الإصابات بين رجال الجيش ذوي اللباس الرسمي – إلى أبعد تقدير، الذي يضم موت المدنيين من المرض والمجاعة التي لها علاقة بالحرب، بالإضافة إلى حالات الموت التي سببتها قرارات وسياسات وبرامج السياسيين المقصودة. يتبنى ليتنبيرغ التقدير الأبعد، الذي يضم أولئك الذين ماتوا نتيجة القرارات السياسية التي اتخذها هيتلر، ستالين، ماو، وغيرهم من الدكتاتوريين. باستخدام ذلك التقدير، يحسب ليتنبيرغ عدد حالات موت ناتجة عن الصراع يبلغ 216 مليون حالة في القرن العشرين- وهي أكثر سنة دموية في تاريخ البشرية. يضم الرقم حوالي 90 مليون حالة وفاة ناتجة عن “برنامج سياسي”، منها 35 مليون في الاتحاد السوفييتي و45 مليون في الصين. بقراءة هذه الإحصائيات الخطيرة، من المستحيل تجنب الرد مع الحزن العميق الممزوج بالغضب على الزعماء السياسيين الذين وجهوا أو سمحوا بهذا القتل.
** في “ديسكوفر” أيار 2004، في مقالة تدعى: هل فيروسات الحيوانات أخطر مما ظننا؟ كتبت جوسلين سليم:
لماذا تبدو فيروسات الحيوانات مسؤولة فعلياً عن كل وباء معاصر- ويست نايل، إبولا، إيدز، سارز، ومؤخراً، تفشي أنفلونزا الطيور المخيف في جنوب شرق آسيا ولكن الذي قد تم ضبطه؟ يحاول علماء الأحياء من مجلس البحوث الطبية بلندن إيجاد جواب، بالنظر إلى الماضي. وضع رئيس الفريق السير جون سكيهيل وزملائه أعينهم على فيروس الأنفلونزا عام 1918، الذي حفظ في الجثث البشرية المدفونة في المناطق الجليدية بألاسكا. كانوا مهتمين بشكل خاص في الهندسة الجزيئية للفيروس لأن الأنفلونزا الاسبانية عام 1918 كانت أكثر وباء مميت في التاريخ، حيث قتلت 20 إلى 40 مليون شخص في كل أنحاء العالم.
قراء ومفسري وعظ المسيح في متى 24 و لوقا 17 قد أخطأوا في موعد وطريقة مجيء المسيح الثاني. أخطأوا في تدمير القدس الذي حدث بعد حوالي 40 عاماً من الصلب، موعد مجيئه الثاني، الوقت الذي تدمر فيه الأرض والكواكب، ووقت اختفاء الكون، يوم الدينونة الكبير.
أشار المسيح إلى موعد عودته من خلال وضع التشابه لنوح ولوط. كما رفض نوح ولوط، كذلك سيفعل المسيح، الذي سيمضي وقتاً على الأرض يوصل فيه رسالته للناس:
كما كان في وقت نوح، كذلك سيكون في أيام ابن الإنسان. استمر الكل بالأكل والشرب، والرجال والنساء تزوجوا، حتى اليوم الذي ذهب فيه نوح إلى القارب وأتى الطوفان وقتلهم جميعاً. كذلك سيكون في يوم لوط. استمر الكل بالأكل والشرب، بالشراء والبيع، بالزرع والبناء. يوم غادر لوط سدوم، هطلت النار والكبريت من السماء وقتلتهم جميعاً. هكذا سيكون الأمر يوم يظهر ابن الإنسان. (لوقا 17.26-30)
سيكون مجيء ابن الإنسان مثل ما حدث في وقت نوح. في اليوم الذي سبق الطوفان أكل الناس وشربوا، تزوج الرجال والنساء، حتى اليوم الذي ذهب فيه نوح إلى القارب، لم يلاحظوا ماذا كان يحدث حتى جاء الطوفان وجرفهم جميعاً. (متى 24.37-39)
أزيلت الحيرة والالتباس حول وقت مجيء المسيح الثاني من قراءة رسالة بطرس الثانية، حيث يقدم قبل نهايتها التوضيح الآتي:
ولكن لا تنسوا شيئاً، يا أصدقائي الأعزاء! لا يوجد فرق في نظر الرب بين يوم واحد وألف عام، بالنسبة له الاثنان متشابهان. لا يتأخر الرب في فعل ما وعد به، كما يظن البعض. بل إنه يمهلك، لأنه لا يريد أن يدمر أحد، ولكن يريد أن يرجع الجميع عن خطاياهم. ولكن يوم الرب سيأتي كالسارق. في ذلك اليوم ستختفي السماء بضجيج صاخب، ستأكل النار الأشياء، وستحترق الأرض وكلّ من عليها. (2 بطرس 3.8-10)
في القرآن الكريم، كتب أيضاً أن مجيء المسيح الثاني سيحدث ليحذر الناس بيوم الحساب:
“إنه (المسيح) نذير ساعة الحساب. لا يوجد شك بقدومه واتبعوني” (سورة 43.61 الرخرف)
يعطي القرآن الكريم أيضاً علامات عن وقت مجيء المسيح الثاني:
“عندما تتباعد السماء عن بعضها وتصبح حمراء مخضبة.” سورة 55.37 الرحمن
كل هذه الأقوال الروحية هي دلائل على أن “يوم الحساب” سوف تجلبه الحرب النووية- ما لم تغير البشرية مسارها وتغير التاريخ. هذا التغيير يمكنه أن يحصل فقط بإرادة الإنسان الحرة بتقبل الخلاص عبر اسم المسيح الجديد: داهش.
في الكتاب الموحى “يسوع الناصري” الذي كتبه داهش، يسوع الشاب، يخاطب أبناء قريته كما لو أنه سيتركهم في قوله:
“يا مدينة الناصرة!
عندما تقترب ساعتي الأخيرة،
سأبتعد من بينكم
لأعود إليكم بعد عشرين قرناً…”
في مقدمة الكتاب، الدكتور غازي براكس وايليا حجار واثقون أن السيرة الذاتية حقيقة وأن المسيح كتبها بنفسه بقواه الروحية.
سيعود باسم جديد
في بوحه الموحى، يؤكد يوحنا أن المسيح سيعود باسم جديد:
“سآتي قريباً. حافظوا على ما لديكم، حتى لا يسرق أحد منكم جائزة نصركم. سأجعل المنتصر عمود في معبد الله، ولن يغادره مطلقاً. سأكتب عليه اسم إلهي واسم مدينة إلهي، القدس الجديدة، التي ستنزل من السماء من ربي. سأكتب عليها أيضاً اسمي الجديد”. (سفر الرؤيا 3.11-12)
في الإصحاح 9.6 كتب: ” ولد طفل لنا! أعطي ابن لنا! وسيكون حاكمنا. سيسمى، “الناصح الرائع”، أو الناصح المذهل- وهو مرادف لاسم الدكتور داهش اليوم. اسم داهش الذي يعني “المدهش” أسماه إياه مرسوم روحي.
مكان ولادته
ولادة مجيء المسيح الثاني ستكون في القدس لكي تتحقق النبوءة:
“ورأيت المدينة المقدسة، القدس الجديدة، تأتي من السماء من عند الله، متحضرة ومستعدة، كعروس جاهزة لرؤية زوجها. سمعت صوت صاخب يتحدث من العرش: “الآن منزل الله هو مع البشر! سيعيش معهم، وسيكونون شعبه. سيكون الله نفسه معهم، وسيكون إلههم. سيمسح كل الدموع من عيونهم. لن يكون هناك موت بعد الآن، ولا أسى أو بكاء أو ألم. اختفت الأشياء القديمة.” ثم قال الذي جلس على العرش، “والآن أصنع كل الأشياء جديدة!” قال أيضاً لي، “اكتب هذا، لأن هذه الكلمات حقيقية ويمكن الوثوق بها. وقال، “تم ذلك! أنا الأول والأخير، البداية والنهاية. لكل عطشان سأعطيه الحق ليشرب من نبع ماء الحياة بدون أن يدفع. من سينتصر سيتلقى هذا مني: سأكون إلهه، وسيكون ابني. ولكن الجبناء، الخونة، الضالين، القتلة، الفاسقين، أولئك الذين يقومون بالسحر، والذين يعبدون الأصنام، وكل الكذبة- مكانهم هو بحيرة من النار والكبريت الملتهب، وهذا هو الموت الثاني.” ( سفر الرؤيا 21.2-8)
القدس الجديدة لديها بعدين: الأول مادي وظل خفيف من القدس الروحية، البعد الثاني الذي يمثل عروس المسيح العائد، والتي هي مهمته السماوية. ستظهر المهمة (العروس) في لبنان لتحقق النبوءات المكتوبة في سفر الرؤيا، أغنية الأغاني، والإصحاح:
“تقول الروح والعروس، “تعالوا!” كل من يسمع هذه يجب أن يقول، “تعالوا!” تعالوا، كل من هو عطشان، اقبل ماء الحياة كهدية، لمن يريده”. (سفر الرؤيا 22.17)
“بعد فترة قصيرة، سيتحول لبنان إلى بستان، وسيعتبر البستان على أنه غابة! في ذلك اليوم سيسمع الأطرش عندما يقرأ كتاب، وأعين الأعمى سترى في الظلام الحالك، سيجتمع الوحيد بالرب…” (الإصحاح 29.17 -19).
“تعالي من لبنان، يا عروسي، تعالي من لبنان، تعالي! (أغنية الأغاني 4.8).
المحامي فارس زعتر ، وهو أستاذ مساعد في جامعة لونغ – آيلاند في نيويورك يدرّس ” الأنظمة الجنائيّة الدوليّة المقارنة “، تناول القضيّة بدوره قائلا :” يشكّل الاضطهاد الذي تعرّض له الدكتور داهش جريمة كبرى من جرائم القرن العشرين في لبنان . ولا يسع من يطّلع على قضيّة داهش ، اذا كان يتحلّى بحدّ أدنى من المسؤوليّة والانسانيّة وحس العدالة الموضوعيّة ، الاّ أن يثور مستنكرا لها أشدّ الاستنكار .”
ويضيف المحامي زعتر :
” انّ الشعوب العظيمة تؤكّد عظمتها وتثبت جدارتها بالحياة ، وذلك بما تظهره من شجاعة ونزاهة خلقيّة عندما تواجه أخطاءها وتعترف بها ، وتعمل على تقويمها وعدم معاودتها ، محدّدة بذلك ميثاقها مع مثل الحقّ والعدل والحريّة . هذا ما فعلته فرنسا عندما نقلت رفات الكاتب المبدع اميل زولا ، عام 1908 ، الى مثوى عظمائها في مبنى ” البانتيون ” في احتفال رسميّ وشعبيّ ، اعترافا بفضله عليها ، لأنّه تصدّى لطغيان الرأي العام المضلّل وللسلطات الحكوميّة والعسكريّة والقضائيّة في دفاعه التاريخيّ الشهير عن الانسان البريء في قضيّة دريفوس . لقد دافع زولا عن انسان بريء ليس له به أيّة معرفة ، ولا تربطه به أيّة رابطة من روابط القربى أو الدين أو العرق أو العقيدة ، ما خلا رابطة المواطنيّة والانسانيّة ، فبذل في هذا السبيل حياته العائليّة واستقراره وراحته وصحّته وماله ، وواجه الأخطار ، واضطرّ الى نفي نفسه ، متخفيّا في انكلترا ،وتحمّل من العنت والارهاق ضروبا وألوانا . ومع ذلك كان له من نفاذ الرؤية والبصيرة ما جعله يرى أنّ قضيّة دريفوس هي قضيّة فرنسا برمّتها ، وأنّ فرنسا تحكم على نفسها بالزوال كأمّة حضاريّة اذا ارتضت التضحية بانسان بريء على مذهب التعصّب الدينيّ والعرقيّ الأعمى ، حفظا لماء وجه السلطات الضالعة في جريمة الظلم بحقّ دريفوس . كان زولا يعتبر أنّه يدافع عن المبادىء الانسانيّة التي كرّستها الثورة الفرنسيّة في شرعة حقوق الانسان والمواطن ، وكان يقول :” انّ فرنسا ستشكرني يوما على انقاذي لشرفها .” وقد تمّ ما توقّعه ، فشكرته فرنسا باعترافها به عظيما من عظمائها بسبب موقفه البطوليّ في قضيّة دريفوس ، وليس بسبب عبقريّته الأدبيّة . لكن فرنسا لم تزد زولا قيمة ولا عظمة بتكريمها له واعترافها بفضله ، بل انّها بعملها هذا رفعت ذاتها ، وأثبتت عظمتها وجدارتها بالحياة بين الشعوب المتحضّرة الحيّة .” ويضيف فارس زعتر :” فالرئيس الأسبق بشاره الخوري ، مع من مالأه وتكافل معه وانقاد اليه ونفّذ رغباته في قضيّة الدكتور داهش ، ما لجأ الى الطرق غير المشروعة وا ساءة استعمال السلطة باتخاذه لاجراءات مخالفة فاضحة للدستور والقوانين كأدوات للاعتداء على حريّة فرد وتجريده من جنسيّته اللبنانيّة وتشريده ، مع ما رافقها من أعمال بربريّة تشجبها القوانين والأعراف الداخليّة والدوليّة – نقول انّ الرئيس الأسبق ما لجأ الى ذلك الاّ بعد أن تبيّن وتأكّد له ، من خلال التحقيقات العلنيّة والسرّيّة ، أنّ الرجل لم يأت عملا يؤاخذ عليه قانونا ويمكن ، على أساسه ، تجريمه وادانته قضائيّا .
” كان داهش فردا ، مواطنا ، لا يحمل الاّ قلما ودفترا وكتابا وفلسفة وعقيدة لا يرغم عليها أحد . وكان الأفراد النخبة الذين انجذبوا الى أفكاره مواطنين من ذوي الأخلاق الكريمة والمراعين للقوانين والأنظمة ، وكانوا من حملة الأقلام ، لا المدى والخناجر والمسدّسات والبنادق وغيرها من الأسلحة . فلو لم يكن داهش بريئا البراءة كلّها من كلّ تهمة ، بل لو لم يكن هو البراءة بعينها ، لما عجز بشاره الخوري ، رغم تسخيره أجهزة الدولة ، عن اختلاق تهمة ، واختلاق دليل ، يستطيع على أساسهما ادانته .”
ويختم زعتر :” الأقلام الحقّة لم تكن ، في يوم من الأيّام ، ولا يمكنها أن تكون أبدا أداة تطبيل أو تزمير، أو مجامر لحرق البخور استرضاء للحكّام الفاسدين الظالمين ؛ والأقلام المنيرة هي التي تشجب الجريمة لا التي تمتدحها وتحضّ عليها وتبرّرها ؛ هي التي تدافع عن حقّ كلّ انسان ، بدون تمييز ، بالتمتّع على قدم المساواة بالحقوق والحريّات التي كفلها له الدستور والقوانين والأنظمة والأنظمة المشروعة المرعيّة ؛ هي التي تدافع دفاعا مستميتا عن حريّة الفكر والعقيدة حتّى لو اختلفت مع ذلك الفكر وتلك العقيدة ، لا التي تعتدي على تلك الحريّة وتثمل طربا على أشلائها ؛ هي التي تزأر بالحقّ بوجه كلّ من تسوّل له نفسه أن يحنث بأقسامه الدستوريّة والقانونيّة سبيلا للاعتداء على المواطن الذي لم تكن القوانين الاّ لحمايته ؛ هي التي تشهر كالسيف القاطع أو السوط اللاذع بوجه الطغاة البغاة المفتئتين على الحقوق والحرّيّات . الأقلام المنيرة حقّا هي تلك التي تأتمّ بقلم المحرّر العظيم فولتير في دفاعه في قضيّة كالا وتصدّيه للسلطتين السياسيّة والدينيّة ولطغيان الرأي العام المجروف بتيّار التعصّب الدينيّ المقيت ، أو التي تأتمّ بقلم زولا في دفاعه التاريخيّ في قضيّة دريفوس ؛ هي الأقلام التي تتصدّى للطغيان أيّا كان مصدر هذا الطغيان , وسواء أكان طغيان سلطة أو حتّى طغيان مجتمع بأكمله .”
***
ثنائيّ في الدم والمهنة والعقيدة ، و”استثنائيّان” اذا جاز التعبير في الحديث معهما ، الى حدّ يرى فيهما المحاور توأمين على الرغم من الفارق في السن بينهما . انّهما المحامي خليل زعتر وشقيقه فارس زعتر .
التقتهما ” الديار ” في دارتهما في زحلة فاستضافاها على كرم وسخاء ، أكان من زاوية الضيافة التقليديّة أم من زاوية ما تريده من معلومات حول قضيّة الدكتور داهش ، خصوصا وأنّ المحامي خليل له كتاب قيد الطبع حول هذه القضيّة ، بالاضافة الى أنّ المحامي فارس شارك في وضع كتاب ” أضواء جديدة على مؤسّس الداهشيّة ومعجزاته الروحيّة “وتناول في مشاركته الزاوية القانونيّة في هذه القضيّة ، وخصوصا الشقّ المتعلّق بمسألة ” مناجاة الأرواح الواردة في القانون اللبنانيّ . فماذا يقول الأخوان زعتر ؟
بدون مقدّمات ولا أسئلة يتناول المحامي فارس زعتر الموضوع بشكل له وقع في النفس يتجسّد بحركات أصابعه ، وحتّى في تعابير عينيه التي يلتمع فيها بريق الغضب أحيانا والحزن أحيانا أخرى . واذا ما سها عن شيء أسهب خليل في مداخلة بعد استئذانه . فكيف يقدّم الأخوان زعتر للقضيّة الداهشيّة من زاوية قانونيّة بحتة ؟ يقول المحامي فارس زعتر :” قبل الولوج الى الزاوية القانونيّة الصرفة في قضيّة الدكتور داهش ، لا بدّ من الحديث عن الظروف التي أحاطت بهذه القضيّة والتي ولّدت مآسي كموت الأديبة الشابّة ماجدا حدّاد وهي في عامها السابع والعشرين بتاريخ 27 كانون الثاني 1945 .
فماجدا الابنة الكبرى لجورج وماري حدّاد ، كانت أديبة واعدة باللغة الفرنسيّة . وقد آمنت بالعقيدة الداهشيّة مع جميع أفراد أسرتها في شهر أيلول عام 1942 . ولم يكن ايمان هذه الأسرة بالعقيدة الداهشيّة سطحيّا أو عاطفيّا . فأسرتها كانت تنتمي الى الطبقة الصاعدة في لبنان في النصف الأوّل من هذا القرن ، أي طبقة أصحاب النفوذ وذوي رؤوس الأموال المثقّفين ثقافة غربيّة عالية ؛ وهي طبقة يمكن نعتها مجازا بالأرستقراطيّة اللبنانيّة الجديدة . فماري حدّاد هي شقيقة ميشال شيحا ، صاحب جريدة ” لو جورLE JOUR الفرنسيّة الصادرة في بيروت ، ونسيبة الثريّ هنري فرعون ، وشقيقه لور زوجة الرئيس بشاره الخوري . وكلّ مطّلع على تلك الحقبة من تاريخ لبنان الحديث يعلم ما كان يمثّله المثلّث شيحا – فرعون – خوري ، والدور الذي لعبه ، وارتباطاته الداخليّة والدوليّة ، وأثره في ارساء النظام الطائفيّ والتوازنات الطائفيّة في هذا البلد . وفضلا عن ذلك ، فقد كانت السيّدة ماري حدّاد أديبة مرموقة باللغة الفرنسيّة ، وفنّانة على مستوى عالميّ ، أقامت للوحاتها معارض في باريس ولبنان ؛ واحدى لوحاتها معروضة بصورة دائمة في متحف اللوكسبورغ في باريس ، كما كانت رئيسة لنقابة الفنّانين اللبنانيّين آنذاك . أمّا زوجها السيّد جورج حدّاد فقد كان وجيها من وجهاء بيروت ، وتاجرا من تجّارها المعروفين ، وقنصلا فخريّا لرومانيا في لبنان .
ودارة آل الحدّاد الرحبة كانت مقصدا للأدباء والفنّانين والوجهاء ، وفيها عقد اليسوعيّون عام 1941 اجتماع خرّيجيهم السنويّ . وبالتالي ، فقد كانت تلك الأسرة المنتمية الى النخبة والصّفوة في المجتمع اللبنانيّ تتمتّع بجميع معطيات النجاح ، من وعي وذكاء وعلم وثقافة وانفتاح وروابط عائليّة واجتماعيّة . وهذه المعطيات تؤهّلها التأهيل الأمثل لممارسة حقوقها الطبيعيّة والقانونيّة البديهيّة في الفكر والعقيدة والايمان الدينيّ ، وهي حقوق وحرّيّات تكفلها الدساتير والشّرع العالميّة والقوانين بدون تمييز لكلّ فرد ، أيّا تكن قدراته الفكريّة والثقافيّة أو انتماءاته العرفيّة أو الطبقيّة أو الوطنيّة أو سوى ذلك من الفروق ؛ فهي من الحقوق الأساسيّة الجوهريّة البديهيّة التي يتمتّع بها الانسان بحكم كونه انسانا . وهكذا فانّ ايمان أسرة جورج وماري حدّاد بعقيدة روحيّة أتى بها رجل نشأ يتيما ، وكابد في طفولته وفتوّته الضيق والمشقّات المعيشيّة ، وشقّ طريقه في الحياة معتمدا على مواهبه وعبقريّته ، فدرس على نفسه وكوّن ذاته بارادته وتصميمه ، وهو، فوق ذلك ، لا ينتمي الى أسرة لبنانيّة كبيرة أو صغيرة ذات نفوذ ، ولا هو من أصحاب المطامح السياسيّة أو العاملين في الحقل السياسيّ ولا ممّن يعيرون المقاييس أو المعايير الاجتماعيّة الطبقيّة المألوفة أيّ اعتبار ، لأنّ مقاييسه ومعاييره روحيّة خلقيّة بحتة – انّ ايمان أسرة جورج وماري حدّاد بعقيدة أتى بها هذا الرجل الفذّ كان فعل اختيار حرّ واع ، لأنّه اختيار تخطّى الحواجز والموانع الطبقيّة والاجتماعيّة والمذهبيّة الزائفة ، وقام على تقبّل عقيدة روحيّة سامية رأوا فيها حقيقة مخلصة كبرى لخير الفرد والمجتمع .”
قصّة الحقّ الالهيّ
ويضيف المحامي فارس زعتر :” وما درى آل الحدّاد أنّهم ، بممارستهم لحرّيّة طبيعيّة أسبغها الخالق على جميع عباده وأعترفت بها شرع الحقوق العالميّة والدساتير والقوانين لجميع الناس بدون تمييز ، كانوا يقترفون جريمة لا تغتفر في عرف بعض المراجع المذهبيّة وعرف أنسبائهم وأقربائهم . وجريمتهم تكمن في عدم استئذان هؤلاء وأولئك في ايمانهم الجديد ، جريمتهم أنّهم تصرّفوا بشكل طبيعيّ كمواطنين يتمتّعون بحقوق وحرّيّات ، وفي ضوء نور عقولهم ونفوسهم ، ولم يدركوا أنّ هناك قوما ما زالوا يعتبرون أنفسهم أولياء وأوصياء مفروضين فرضا الزاميّا بحقّ الهيّ مطلق على عقول الناس وأفكارهم . ما درى آل الحدّاد انّ ايمانهم بعقيدة اقتنعت بها عقولهم وارتاحت اليها نفوسهم ،وأدخلت الطمأنينة والسعادة الى حناياهم – أنّ ايمانهم ذاك محكّا لأنسبائهم ولسواهم ممّن سيشترك معهم في اضطهاد داهش ، وامتحانا يكشف زيف شعاراتهم السياسيّة المنادية باحترام الدستور والقوانين وحماية الحقوق والحرّيّات ، ويسقط قناع ريائهم الفكريّ ، فيبدون على حقيقتهم الجوهريّة أناسا قبليّين بتفكيرهم واتّجاهاتهم . أجل ، فمن ايمان أسرة جورج وماري حدّاد بالرسالة الداهشيّة ومعارضة أنسبائهم من آل شيحا وخوري وفرعون لهم ، لأسباب مرتبطة بغايات دنيويّة شخصيّة ومصالح سياسيّة متعلّقة بغرض الوصول الى سدّة الرئاسة الأولى وبما يستدعيه ذلك الوصول من ارضاء للقوى المذهبيّة الطائفيّة وكسب لدعمها وتأييدها ، من كلّ ذلك تولّدت الشرارة التي أشعلت نيران اضطهاد الدكتور داهش ، خصوصا بعد وصول بشاره الخوري الى سدّة الرئاسة الأولى ، وهيمنته مع محازبيه وذويه وحاشيته على مقدّرات السلطة في البلاد . ولذلك ، كان لاضطهاد الدكتور داهش وقع هائل بآلامه على أسرة جورج وماري حدّاد لأسباب ، منها أنّ آلهم وذويهم هم المنفّذون لهذا الظلم والجرم ، ولقد اتّخذوا من ايمان آل حدّاد بالداهشيّة مبرّرا لاضطهاد مؤسّسها . ناهيك عن أنّ ما كان يوجّه الى الدكتور داهش كان يطالهم بالضرورة بطريقة أو باخرى ، بصورة مباشرة أو غير مباشرة . كان ألم آل حدّاد مزدوجا ومضاعفا . فمن جهة ، كان يؤلمهم ما ينالهم وينال الدكتور داهش من ضروب الافتراءات والاختلاقات الرخيصة والمظالم . ومن جهة أخرى ، كان يؤلمهم أيضا ويحزّ في نفوسهم ما يرتّبه آلهم وذووهم على أنفسهم من تبعات ومسؤوليّات جسام ، وما تستتبعه أفعالهم من كوارث وفواجع يجلبونها على البلاد وعلى أنفسهم وعلى بيوتهم نتيجة اضطهادهم الظالم .
المؤامرة
وبينما لا يجد أصحاب النفوس الضعيفة غضاضة في تبديل ولاءاتهم وقناعاتهم تبعا لتبدّل اتجاهات رياح مصالحهم بسرعة تفوق سرعة الحرباء في تبديل ألوانها ، غير مفتقرين في ذلك الى اختلاق الأعذار وتمحّل المبرّرات ، خصوصا متى كان ذلك سبيلا للتقرّب من من اصحاب السلطة والنفوذ أملا بمنصب أو جاه دنيويّ أو طمعا بمكاسب ماديّة عن طريق صرف النفوذ أو استغلاله ، فانّ تلك الحال لم تكن حال أسرة جورج وماري حدّاد على الاطلاق ، اذ انّهم هزأوا بالمغريات ، وداسوا المصالح الشخصيّة ، قاطعين صلاتهم بذيهم ، وهؤلاء في أوج سلطانهم ونفوذهم عندما كان القاصي والداني يتمنّى التقرب منهم ونيل حظوتهم ، وفضّلوا أن يتحمّلوا أفدح الخسائر ، وأن يضحّوا بالغالي والنفيس ، من أجل مبدا الحريّة وعقيدة آمنوا بها بصدق واخلاص .
وعندما نفّذ المتآمرون ، بعد القائهم القبض التعسّفيّ على الدكتور داهش ، جريمة تجريده من جنسيّته وتشريده خارج الأراضي اللبنانيّة بطريقة بولوسيّة سرّيّة ، وباجراءات مخالفة للدستور والقوانين والأعراف الداخليّة والدوليّة ، وبأفعال وحشيّة بربريّة ، استفظع آل حدّاد أن يقع كلّ ذلك في بلد دستوريّ ديوقراطيّ ، وأن تبقى الاستكانة مخيّمة على المسؤولين وقادة الرأي العامّ ، فكأنّ هناك مؤامرة صمت رهيبة لفّت الجميع . وقد تملّك نفس ماجدا حدّاد ، من جرّاء ذلك ، يأس جارف من القانون والعدالة في هذا البلد ، فصمّمت على الانتقام ، وعقدة النيّة تحديدا على اغتيال الشيخ بشاره الخوري الذي اعتبرته ، بحكم موقعه وما لعبه من دور أساسيّ في هذه القضيّة ، المؤول الأوّل عن ارتكاب الجريمة في حقّ الدكتور داهش . فاحتازت مسدّسا لهذه الغاية ، وبدأت تترصّد حركات الرئيس ، وكان بامكانها الوصول اليه بسهولة لو أرادت تمحّل عذر ما ، فهو زوج خالتها . ولكن ما ان بلغ الى الدكتور داهش نبأ ما اعتزمت تنفيذه حتّى بادرها فورا برسالة اليها بتاريخ 15 كانون الثاني 1945، ينهاها فيها عن المضيّ قدما في ما خطّطت له وعن ” الاقدام على أيّ عمل عدائيّ ضدّ الشيخ بشاره أو سواه “، مثلما جاء في الرسالة .
لم تستطع ماجدا تجاهل هذه الرسالة ، ولكنّ الحالة النفسيّة والعصبيّة الحادّة التي هي نتيجة تراكميّة مباشرة خلقتها سلسلة حوادث الاضطهاد المتلاحقة على مدى ينيف على سنتين جعلتها تفكّر بطريقة أخرى للانتقام من ذويها المسؤولين عن الاضطهاد ، وذلك بقتل نفسها وتحميلهم مسؤوليّة دمها المهراق احتجاجا على ما يرتكبونه من جرم بحقّ الدكتور داهش والداهشيّين ، وتنبيها للرأي العامّ الى فداحة الظلم والطغيان الممارسين من قبل المسؤولين في هذه القضيّة .وهكذا ، ففي 27 كانون الثاني 1945 أطلقت ماجدا رصاصة على صدغها فسقطت شهيدة الظلم واضطهاد حريّة الفكر والعقيدة في هذا البلد الذي يتغنّى فيه الكتّاب والصحفيّون والسياسيّون كثيرا بحضارته العريقة ، وبالحرص فيه على الحريّة , وبأنّه ملجأ المضطهدين . انّ المسؤولين عن سلسلة الأفعال والاجراءات التعسّفيّة التي تشكّل بمجموعها تنفيذا لمؤامرة اضطهاد الدكتور داهش والداهشيّين هم المسؤولون مسؤوليّة مباشرة عن استشهاد ماجدا , لأنّ الصلة السببيّة بين أعمالهم غير المشروعة والجو الذي خلق هذه الأعمال ، والحالة النفسيّة الحادّة التي أحدثها هذا الجو في الأديبة الشابّة ماجدا ، هي التي أدّت مباشرة الى استشهادها . ومذكّرات ماجدا التي ترجمها الأديب اللبنانيّ الكبير كرم ملحم كرم من الفرنسيّة الى العربيّة ، ونشرها في مجلّته ” ألف ليلة وليلة “، تشرح ذلك بوضوح تامّ.”
الداهشيّة تحت مجهر القانون
كثيرة هي الأسئلة التي دارت حول قضيّة تجريد الدكتور داهش من جنسيّته اللبنانيّة واحالة قيده الى سجلاّت الأجانب ، وحصرا الى التابعيّة الفلسطينيّة . فالام استند الرئيس بشاره الخوري قانونيّا لاصدار مرسومه المشهور؟ ولماذا تمّ ابعاد داهش الى الحدود السوريّة – التركيّة بدلا من ترحيله الى فلسطين عبر الحدود اللبنانيّة – الفلسطينيّة طالما اعتبره الرئيس الخوري من التابعيّة الفلسطينيّة ؟ وماذا كان موقف الداهشيّين ؟ وما هي الظروف التي أحاطت بانتحار ماجدا حدّاد ؟وما هي صحّة الاشاعات في تلك المرحلة ؟هذه الأسئلة حملتها ” الديار” في لقائها مع المحامي فارس زعتر الذي أسهب في الردّ عليها ، وافتتح حديث بالقول :
” قبل الدخول في تفاصيل الصراع بين الرئيس الخوري والدكتور داهش وما نتج عن هذا الصراع من سجن الداهشيّين وانتحار ماجدا حدّاد … لا بدّ من القاء الضوء أوّلا على المسألة الأساسيّة التي اتّخذها الرئيس الخوري وجعل منها ” حصان طروادة ” لارتكاب سابقة لم تعرف في تاريخ لبنان ، وهي تجريد انسان من جنسيّته ونفيه بلا اوراق ثبوتيّة .وهذه المسألة هي قضيّة ” مناجاة الأرواح .” ويضيف المحامي فارس زعتر :” اذن قضيّة ” مناجاة الأرواح ” كانت الجسر الذي استعمله الرئيس الخوري للعبور الى تحقيق مؤامرته ضدّ داهش ، محاولا تغطية ” السماوات بالقبوات “، كما يقولون . من هذه الزاوية سنتناول قضيّة ” مناجاة الأرواح ” وفق القانون اللبنانيّ ، مع العلم أنّ الداهشيّة لا تسلم بوجود علم صحيح اسمه علم ” مناجاة الأرواح ” ، ولا تعتقد بوجود أشخاص يتمتّعون بمزايا أو مواهب طبيعيّة تمكّنهم من اخضاع قوانين الطبيعة لارادتهم أو الاتّصال بالأرواح أو الاتيان بأعمال خارقة لقوانين الطبيعة المعروفة .فالظاهرات الروحيّة الخارقة لا تتمّ الاّ باذن وارادة الهيّين ، ولا تجريها الاّ قوّة روحيّة علويّة على يدي فرد من الناس تختاره المشيئة الالهيّة ليؤدّي رسالة روحيّة لأبناء البشر . فالأرواح ، بالمفهوم الداهشيّ ، ليست من أمر الانسان ولا تخضع لأرادته ، بل العكس تماما ، اذ هو من يخضع لسلطانها ويعمل ويتصرّف وفق ارشاداتها وتوجيهاتها ، لأنّها كائنات قديرة نقيّة الهيّة ، وهي تحيا في عوالم روحيّة أزليّة أبديّة لا يشوبها دنس ولا ضعف ولا تخالطها أيّة مادّة . لكنّ الناس يذهبون مذاهب شتّى في تفسير الظاهرات الروحيّة الخارقة وتأويلها ، حتّى لو ثبت حدوثها بالبراهين والأدلّة القاطعة الحاسمة ، وذلك تبعا لميولهم ورغباتهم ومستوياتهم الروحيّة والفكريّة وتكوينهم النفسيّ والخلقيّ والعقليّ والثقافيّ ، وسوى ذلك من المعالم التي تدخل في تشكيل درجة صفاء الرؤية أو مدى نفاذ الادراك والوعي . والقاعدة العامّة التي لا يبدو أنّ لها استثناء في التاريخ المعروف هي أنّ جميع المصلحين ، بمن فيهم الأنبياء والمرسلون والهداة ، لاقوا مقاومات عنيفة ظالمة ، خصوصا في مطلع عهد دعوتهم . ولم يسلم أيّ رسول أيّدته العناية الالهيّة باجتراح الخوارق والمعجزات من شتّى التّهم الحقيرة ، بما فيها تهم السحر والشعوذة والكفر ، الاّ أنّ الغلبة في النهاية كانت دائما للحقيقة : ( فأمّا الزبد فيذهب جفاء ، وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) ” سورة الرعد : 17.”
قانون
يمنع امتهان التنجيم ومناجاة الأرواح
وقراءة الكفّ وقراءة ورق اللعب والتنويم المغنطيسيّ
أقرّ مجلس النوّاب ، ونشر رئيس الجمهوريّة القانون الآتي نصّه :
المادّة الأولى : يمنع في أراضي الجمهوريّة اللبنانيّة امتهان التنجيم ومناجاة الأرواح وقراءة الكفّ وقراءة ورق اللعب والتنويم المغنطيسيّ وجميع المهن التي لها علاقة بعلم الغيب على اختلاف أسمائها والوسائل المستخدمة فيها .
المادّة الثانية : كلّ مخالفة لهذا القانون يعاقب مرتكبها بالحبس من أسبوع الى ستّة أشهر وبجزاء مقداره مائتا ليرة لبنانيّة سوريّة أو باحدى هاتين العقوبتين .
بيروت في 9 أيّار 1939 الامضاء : اميل ادّه ، صدر عن رئيس الجمهوريّة
الوسطاء الروحيّون
ويضيف زعتر :” وتجدر الاشارة في هذا المجال الى ما يأتي :
أوّلا : انّ نطاق تطبيق قانون 9 أيّار 1939 واسع جدّا . فهو لا يقتصر على أعمال معيّنة فيه بشكل محدّد ، بل يشمل أيضا ، عملا بصرح نصّه ، ” جميع المهن التي لها علاقة بعلم الغيب على اختلاف أسمائها والوسائل المستخدمة فيها .” يضاف الى ذلك أنّ تعبير ” مناجاة الأرواح “، وان كان يتعلّق بما كان شائعا في القرن التاسع عشر والنصف الأوّل من القرن العشرين ، خصوصا في الغرب من زعم أناس – اطلق عليهم اسم ” الوسطاء الروحيّين “- أنّهم يستطيعون الاتّصال بالأرواح في ” جلسات روحيّة ” مزعومة كانوا يعقدونها ، فانّه تعبير واسع يمكن استخدامه ليشمل أيّ اتّصال بالعالم الروحيّ الخفيّ المجهول وأيّة ظاهرة روحيّة خارقة ، لأنّ الظواهر الخارقة – أي المعجزات – لا تتمّ الاّ بتدخّل روحيّ وعبر اتّصال روحيّ الهيّ . وفي نهاية المطاف ليس الأنبياء والمرسلون والهداة الروحيّون الاّ وسطاء – بمعنى الواسطة والوسيلة – بين العالم الروحيّ العلويّ وعالمنا ، اذ بواسطتهم ومن خلالهم تبلّغ العناية الالهيّة كلماتها ورسالاتها لأبناء البشر . ولكنّ مفهوم هذه الواسطة أو الوساطة الروحيّة هو مفهوم دينيّ يختلف اختلافا جذريّا بيّنا عن مفهوم ” الوساطة الروحيّة ” في ما هو متعارف عليه في مذاهب ” مناجاة الأرواح ” المعروفة .
ثانيا : انّ القانون اللبنانيّ ، 9 أيّار 1939 ، أو المادّة 768 من قانون العقوبات ، على حدّ سواء ، لا يمنع تعاطي ” مناجاة الأرواح ” أو كلّ ما له علاقة بعلم الغيب أو سوى ذلك من الأعمال المذكورة رغم أنّها من أعمال الشعوذة والدجل المعروفة ، بل يمنع فقط ” امتهان ” هذه الأعمال ، أي تعاطيها قصد الربح ( لقاء بدل ) .
ثالثا : انّ الظاهرات الداهشيّة الروحيّة الخارقة لا تدخل في عداد الأعمال المنصوص عليها في قانون 9 أيّار 1939 ، لأنّ القوّة التي تجريها هي قوّة روحيّة علويّة مستمدّة من الخالق عزّ وجلّ ، والغاية التي ترمي اليها هي غاية سامية تهدف الى اعادة الايمان النقي بالله تعالى الى النفوس ، وبما يبشّر به الأنبياء والمرسلون جميعا . لكنّ الذين لا يستطيعون أو يرفضون الاقرار بالمصدر الروحيّ الالهيّ لهذه الظاهرات الخارقة ، وخصوصا اذا كانوا من مناوئي الدكتور داهش ، قد لا يرون حرجا على الاطلاق ، من خلال منظورهم الخاصّ ، في تصنيف هذه الظاهرات الروحيّة الداهشيّة الخارقة في عداد الأعمال المنصوص عليها في قانون 9 أيّار 1939 ، وفي ادخالها ضمن نطاق ” مناجاة الأرواح ” المزعومة ، مثلا ، أو ضمن نطاق الأعمال التي ” لها علاقة بعلم الغيب.”
ويضيف زعتر : نجح مناوئو الدكتور داهش ، وبينهم ميشال شيحا وهنري فرعون والشيخ بشاره الخوري ، في المرحلة السابقة لانتخاب هذا الخير رئيسا للجمهوريّة اللبنانيّة بتاريخ 21 أيلول من عام 1943 ، وهم على ما هم عليه من مكانة ماليّة واجتماعيّة وسياسيّة – نجحوا ، عن طريق استعمال نفوذهم في ظلّ حملة صحافيّة جانية ، في حمل المسؤولين على تحريك النيابة العامّة التي أمرت بفتح تحقيقات سريّة بحقّ الدكتور داهش ، الغاية منها التحقّق ممّا يقوم به وهل يقع تحت قبضة القوانين الجزائيّة ، وخصوصا هل كانت أعماله مخالفة لقانون 9 ايّار 1939 . وأجريت التحقيقات التي شملت مراقبة منزل الدكتور داهش بصورة سريّة ، ولكنّ نتائج جميع هذه التحقيقات المتعاقبة جاءت سلبيّة لتؤكّد أنّ الدكتور داهش لم يأت عملا يؤاخذ عليه قانونا .”
افادة ماري حدّاد أمام المحقّق
يتابع المحاميان خليل وفارس زعتر مطالعتهما القانونيّة في قضيّة الدكتور داهش ومسألة مناجاة الأرواح فيقولان :
” مع تسلّم الرئيس بشاره الخوري الحكم اثر انتخابه رئيسا للجمهوريّة في 21 أيلول 1943 ، فتح ملفّ الدكتور داهش مجدّدا ، فأرسلت له الأديبة ماري حدّاد ، وهي شقيقة زوجة لور ، رسالة احتجاجيّة على التحقيقات السريّة تدعوه فيها الى وضع حدّ لها بولوج المحاكم المشرعة الأبواب . وهذا بعض ما جاء في رسالة الأديبة حدّاد : د
” انّ حرّيّة الين وحرّيّة نشره حقّان معترف بهما في الدستور اللبنانيّ الذي تخضعون ونخضع نحن له . فها انّ السنّيّ والبروتستنتيّ والشيعيّ والكاثوليكيّ والدرزيّ والأرثوذكسيّ وسواهم يعيشون في هذه البلاد ، ولم يخطر على بال أيّ رئيس حكومة ان يضطهد ايّا منهم لأنّهم لا ينتمون لعقيدته الدينيّة . وها انّ الدعاية البروتستنتيّة منتشرة في طول البلاد وعرضها ، ولم يجرؤ ايّ من رؤساء الحكومة اللبنانيّة الكاثولوليكيّة على منعها ، اذ انّ هؤلاء الرؤساء يعرفون انّ هذا التعدّي يكون اهانة لبلادهم وصفعة في وجه القانون .
” وانّ الداهشيّة ستعيش وتنمو في لبنان وخارج لبنان رغم جميع المحاولات لقمعها والوقوف دون انتشارها ، فيجب أن تعلموا ذلك !
” واذا كانت يد الأقدار قد اجلستكم على كرسيّ الرئاسة لوقت معيّن ، فاعلموا أنّه من الخطأ الظنّ بأنّ الرئاسة أعطيت لكم لتتصرّفوا كما تشاؤون لاشباع الضغينة التي في قلبكم ضدّ الدكتور داهش . فانّ الدستور يحمي المعتقدات ، ونحن من الذين يجاهرون بفاعليّة القانون ، ويطالبون بتطبيقه بالحرف الواحد .
” فانّ للدكتور داهش ولأتباعه ، من أفراد وجماعات ذوي مكانة اجتماعيّة ، هدفا دينيّا نبيلا هم أحرار في اعتناقه ونشره ، وليس لأحد سلطة عليهم البتّة ما داموا سائرين في دائرة الحقّ والعدل ، وما دام القانون يضمن حريّة المعتقدات والأديان اليوم وغدا والى ما شاء الله .
” فكفى استجوابات سريّة ومحاولات فاشلة . فان كان لكم على الدكتور داهش أيّ لوم ، فها انّ المحاكم مفتوحة ، والقانون صريح ، والحقوق مصونة ، ولا داعي للاستجوابات الغافلة بين الجدران الصامته .”
يضيف زعتر : ” التحقيقات الجديدة تولاّها مدير البوليس العدليّ ، ادوار أبو جودة ، بنفسه ، ورغم أنّ غايتها لم تكن مختلفة عن غاية سابقاتها ، الاّ أنّها كانت أكثر اتّساعا ، وكادت تتناول حياة الدكتور داهش ونشاطاته بجوانبها كافّة . ولكنّ نتيجتها ، مع ذلك ، لم تأت مختلفة عن النتيجة التي اقترنت بها التحقيقات السابقة . وبالتالي فهي لم تؤدّ الى ما كان يامل ويتمنّى محرّكوها أن يحصدوه منها . ونكتفي ، فيما يلي ، بعرض نصّ الافادة التاريخيّة التي أعطتها السيّدة ماري حدّاد ردّا على اسئلة مدير البوليس العدليّ ، ادوار أبو جودة :
افادة السيّدة ماري حدّاد الداهشيّة
” حدّثنا بعض الثقات بأخبار الدكتور داهش وأخبار معجزاته ، فقمنا بزيارته .
” ولقد كان يتجاذبني الايمان والارتياب في الوقت نفسه .
” أمّا الايمان ، فلأنّ كلّ ما في الحياة ، اذا نظرنا فيه قليلا ، معجزة : الحبّة النامية ، والكهرباء صنيعة العلم ، والولادة ، والحياة ، والموت ….
” وأمّا الارتياب ، فلأنّه ( أي الارتياب ، وهو تقدير الشرّ قبل الخير ) حصيلة الاختبار الطبيعيّة والضروريّة .
” فهل في هذا العصر الذي يسوده فيه المال العالم ، ويتمتّع أخسّ الناس ، اذا كان غنيّا ، باحترام الجميع – هل فيه من يتعالى عن المال والمكانة الاجتماعيّة وما اليهما ؟ هذا ما أجهله .
” يبدو المنحى الروحيّ في الحياة ، بل أيّ مثل أعلى ، موضع ازدراء ، فلا يتّصف به الاّ أناس مفتقرون الى العقل السليم . ولكن ، ها انذا أمام حدث فريد .
” ذلك أنّ الدكتور داهش ظاهرة تتحدّى هذا العصر . فهو يعيد القيم الى منازلها ؛ وهذا أمر غريب غير متوقّع ، ولكنّه ثابت .
” يعتمد الدكتور داهش على الانجيل ، بل هو الانجيل مجسّدا .
” كنّا ، ولا ريب ، نعرف هذا الكتاب ، ونعدّه عملا الهيّا فذّا رائعا . لكنّ معرفتنا به لم تكن كافية لتجعل حياتنا موافقة له . ولذلك نحن موقنون بأنّ الدكتور داهش رجل الانجيل .
” ثمّ سرعان ما نجد أنفسنا امام قوّة تفوق الطبيعة ، فنشاهد المعجزات الانجيليّة تحصل ثانية : تحويل الماء الى خمر ( وهو معجزة يسوع الأولى ، وبسببها آمن بها الجميع ) ، وتكثير الخبز والسمك .
” لقد شاهدنا شتّى أنواع التكثير ، كما شاهدنا معجزات شفاء ، وتحقّق نبوءات .
” ثمّ انّه لا شيء ، ههنا ، بخاف : لا الفكر ، ولا الحاضر ، ولاالمستقبل .
” وما ثمّة مسافات ، ولا صناديق حديديّة مقفلة .
” وقد شاهدنا كيف تحلّ الرزايا بمن يفترون عليه .
” كما شاهدناه يتحكّم بعناصر الطبيعة تحكّمه بالموت والحياة .
” لقد عرفنا الدكتور داهش بما يقوله ، وما يكتبه ، وما يؤلّفه ، وما يأتيه من معجزات ، وما يقيمه مع الناس من صلات .
” اذا تكلّم ، انهارت الحجج أمام حجّته . فقد شاهدته في لفيف من الجهابذة والأدباء والصحافيّين والمتبحّرين في الثقافة ، فاذا كلّهم معجب به ، وصغير جدّا في حضرته . كانوا يطلبون الاستنارة بشروحه ، فكان يمدّهم بها في بساطة غاية في الاتّضاع والكمال .
” انّه ، في سموّ مقاصده وما يتّصف به فكره من نبل وصفاء ، أسمى تعبير عن العبقريّة . والى ذلك ، فلا يمكن أن يكون في الناس من يفوقه موضوعيّة وواقعيّة عمليّة ، ذلك أنّه يجعلنا نعرف ونقدّر الأمور ؛ وهي أمور خالدة، لا فانية .
” وهو ، في ما يعلّمنا ايّاه ، انّما يدعنا نلمس حقيقة الروح لمس اليد ، فيشرع لنا نافذة عريضة على العالم الثاني الذي يتعذّر حتّى الآن ارتياده .
” واذا نحن آمنّا به ، فلأنّ في متناولنا البراهين الملموسة القاطعة على صحّة رسالته ؛ والاّ فما بالنا لا نكتفي بالكهنة والأحبار ، وهم أيضا يدّعون الاعتماد على الانجيل !
” بيد أنّ هذا الحجاب ، على جماله ، لن يستر أكاذيبهم وأعمالهم المخالفة لدعوة السيّد المسيح .
” انّنا لم نألف التجرّد من المكاسب المادّيّة ، اذ انّ كلّ شيء مدفوع ثمنه ، وبخاصّة في كنيسة روما ، كغفران الخطايا ، والألقاب ، والتحليلات في مختلف أنواعها .
“اذا ، عندما نعرف شخصيّة الدكتور داهش ، تسقط شتّى المحاذير والشكوك والظنون من تلقاء نفسها ، ويعترينا الخجل ممّا يراودنا ، في هذا السبيل ، من أفكار خبيثة .
” انّما الدكتور داهش معجزة هذا العصر . فما من تجسّد انسانيّ في مثل هذه العظمة منذ عهد السيّد المسيح .
” لقد قضى بضعة أشهر من حياته فقط في مدارس وضيعة ، في غزير وصيدا ، فلم يحصّل تعليما ؛ فهو على حدّ قوله ، ابن الحياة .
” ومع ذلك ، فانّ مؤلّفاته تناهز التسعين . وهي صرح عظيم يفي بشرح شخصيّته . ألّفها في سرعة مذهلة ؛ وأنا عاينته في ساعات الهامه ويراعته كأنّها تطير على الطّرس .
” لقد كنّا شهودا لحياته اليوميّة ؛ وعددنا كبير . فقد خبرناه ، ودرسناه فاطّلعنا في شأنه على كلّ شيء منذ ساعة مولده .
” فالمعجزات لم تفارقه قطّ . وكلّ ما يتّصل به مدوّن منذ عامه الثاني عشر ؛ مدوّن يوما فيوما ، في كلّ دقيقة .
” أمّا تعاليمه ، فحصيلتها انتفاء الشكّ والسكينة النفسيّة واليقين بما ينتظرنا بعد الموت . واذا بنا نرتفع فوق كلّ الصغائر ، وما كان بالأمس ذا شأن عندنا ينقلب لا شأن له . فما ثمّة هموم ، بل حياة سعيدة – اذا صحّ أنّ في الأرض سعادة .
” أمّا اذا انتقلنا الى حيّز العلم ، فالدكتور داهش هو المعهد الحقيقي الوحيد . فلقد تأتّى لنا على يديه وحي في شتّى ميادين العلم : في التاريخ منذ أصل الأرض ، وفي علم النجوم ، وفي الطبّ وأسباب الأمراض وأسباب شفائها ، وفي أسرار الحياة والموت – وهي أسرار لا يمكن أن تراود فكرنا . بيد أن ساعة نشر ذلك كلّه لم تحن بعد .
” فلو كانت حكومتنا حكومة مستنيرة ، لأدركت انّ في شخص الدكتور داهش طاقات لا تقدّر ولا تحدّ أبعادها ، ولسعت الى الانتفاع بها من قبل أن تسبقها أمم ناهضة الى تجديد قواها بتلك القوّة الخارقة التي لم تكن متوقّعة حتّى الأمس القريب ، تلك القوّة التي ينحني أمامها كلّ شيء ، كلّ شيء بلا استثناء ، لأنّها قوّة الله .
” على أنّني لا أرثي فقط لمن يفترون عليها ، بل لمن يقفون منها موقف الحياد ، فلا يسلكون في ركبها . ولكن اذا صحّ اليوم ألاّ نبيّ في وطنه ، فانّنا لمكذّبون يوما هذا القول .
” واذا سألتني كيف يعيش الدكتور داهش ، أجبتك أنّني رأيت عنده من الأموال أكداسا اكداسا ، وربّما عزّ على أيّ مصرف أن يحوز مثلها .
” وقد رأيته يسخو على الفقراء ، ولكنّه يقتصد على نفسه .
بيروت 23 شباط ( فبراير ) 1944
ماري حدّاد
مواقف النوّاب من قضيّة داهش
عجزت السلطات اللبنانيّة عن ايجاد ايّ مخالفة قانونيّة ارتكبها الدكتور داهش ، كما يقول الأستاذ فارس زعتر ، في مرحلة الأربعينيّات . وعندما وجد الرئيس الخوري نفسه على واجهة الافلاس ، أصدر مرسومه الظالم بنفي الدكتور داهش من لبنان مخالفا جميع الشرائع المعمول بها في جميع الدول والبلدان في العالم . ويضيف زعتر :
” افادة السيّدة ماري حدّاد أوضحت بجلاء كلّيّ حقيقة الظاهرات الداهشيّة الروحيّة الخارقة ، وماهيّة القوّة الروحيّة التي تجريها ، ومصدرها العلويّ الالهيّ ، وغايتها السامية ، وأنّ القضيّة هي قضيّة روحيّة ومعتقد ومدرسة فكريّة اصلاحيّة جديدة ، وأنّها أرفع كثيرا وأبعد ما تكون تفاهة وسخافة ما كان مناوئو الدكتور داهش يأملون تحقيقه عن طريق التحقيقات المزعومة .
أدرك رئيس الجمهوريّة بشاره الخوري والمتحالفون معه في هذه القضيّة انّ التحقيقات التي كانوا وراءها ، والتي شارفت منتهاها ، مصيرها كمصير سابقاتها ، وانّها أدّت الى عكس النتيجة التي كانوا يأملونها ويرجونها . كما أدركوا أنّه لا يمكن النّيل من الدكتور داهش بواسطة الاجراءات القانونيّة أو القضائيّة ، مهما أسيء استعمالها ، في حالة التشريع اللبنانيّ الساري والأنظمة المشروعة النافذة . وبما أنّ غايتهم لم تكن أبدا دراسة الظاهرة الروحيّة الداهشيّة ، ولا تفهّم حقيقتها ، ولا احترام حرّيّة الناس وحقّهم المشروع بدراستها والتعرّف عليها ،أو حريّة الدكتور داهش وحقّه في الفكر والعقيدة والتعبير ، بل كانت غايتهم الحقيقيّة منع الظاهرة الروحيّة الداهشيّة،
وقمع انتشارها تحت ستار شرعيّ ، لذلك ، بعد أن تأكّد لهم أنّه من المستحيل امكان التوصّل الى تجريم الدكتور داهش في ظلّ التشريع السائد المعمول به ، عمدوا الى اقتراح مشروع قانون يعدّل أحكام قانون 9 أيّار 1939 ، ويستبدل بها أحكاما تجعل الأعمال المنصوص عليها فيه محظّرة تحظيرا مطلقا مهما كانت الغاية من اجرائها ، سواء أكانت ” ببدل أو بغير بدل “. وقد أحال رئيس الجمهوريّة ، بشاره الخوري ، مشروع القانون الذي أقرّه مجلس الوزراء الى المجلس النيابيّ بموجب المرسوم رقم 790 ، تاريخ 1/3 /1944 ، وعرض على لجنة العدليّة لدراسته واقراره قبل عرضه على المجلس النيابيّ في جلسة علنيّة . وفيما يلي نصّ مشروع القانون المذكور المؤلّف من ثلاث مواد :
المادّة الأولى : يمنع في أراضي الجمهوريّة اللبنانيّة امتهان التنجيم ومناجاة الأرواح وقراءة الكفّ وقراءة ورق اللعب والتنويم المغنطيسيّ وجميع المهن التي لها علاقة بعلم الغيب على اختلاف أسمائها سواء كان هذا الامتهان ببدل أو بغير بدل .
المادّة الثانية : كلّ مخالفة لهذا القانون يعاقب مرتكبها بالحبس من شهر الى ثلاث سنوات ، وبجزاء نقديّ من مئتي ليرة الى ألفي ليرة أو باحدى هاتين العقوبتين .
اذا رافق هذا الامتهان أعمال تمسّ بالآداب والأخلاق ، فلا يمكن أن يكون الحدّ الأدنى اقلّ من سنة حبس ، فضلا عن العقوبة المنصوص عنها في قانون الجزاء لمثل هذه الأعمال .
المادّة الثالثة : ألغيت جميع الأحكام المخالفة لهذا القانون والتي لا تتّفق مع مضمونه ، وبصورة خاصّة القانون الصادر في 9 أيّار سنة 1939 .
لم يكن القصد الحقيقي من وراء مشروع القانون هذا سرّا خفيّا على أحد ، بل كان معلوما لدى الجميع ، داهشيّين وغير داهشيّين ، أنّه يستهدف الدكتور داهش بعد أن أثبتت التحقيقات المتعاقبة أنّه لا يبتغي ربحا ولا يتقاضى بدلا من اجرائه لأعماله الروحيّة الخارقة ، وبالتالي فقد كان مستحيلا اتّهامه أو توقيفه أو محاكمته أو الحكم عليه أو منعه من اجراء ظاهراته الخارقة في ظلّ قانون 9 أيّار 1939 . ولذلك فقد وسّع مشروع القانون الجديد نطاق المنع وجعله عامّا مطلقا بنصّه على منع تعاطي ” مناجاة الأرواح ” وكلّ ما له علاقة بعلم الغيب والأعمال الأخرى المعيّنة فيه سواء كان تعاطيها ط ببدل أو بدون بدل ،” مثلما جاء حرفيّا في نصّه ، إضافة الى تشديده العقوبة .والنتيجة العمليّة الوحيدة لمشروع القانون هذا ، في حال أنّ المجلس النيابيّ وافق على اقراره ، هو منع الظاهرة الروحيّة منعا تامّا ، مهما كانت الغاية التي تهدف اليها ، حتّى لو أجري لأشرف الأهداف وأسماها كالتنقيب العلميّ مثلا ، أو الاصلاح الخلقيّ والروحيّ ، أو اثبات الحقائق الروحيّة التي شغلت الفلاسفة والحكماء والعلماء والمفكّرين منذ أقدام العصور ، اذ يكفي أن تعتبر السلطة ، أو متسلّم السلطة ، أو الموظّف صاحب الصلاحيّة ، أنّ الظواهر الروحيّة الخارقة التي تتمّ على يدي الدكتور داهش مثلا تدخل في نطاق ” مناجاة الأرواح ” أو في نطاق الأعمال التي ” لها علاقة بعلم الغيب “- وفق فهم المسؤول لهما أو تبعا لما يريد أن يفهم – لكي يلقي القبض عليه بتهمة ارتكاب جرم تعاطي هذه الأعمال ، مهما كانت الغاية من تعاطيها .”
الأنبياء والاتّهامات
ويضيف زعتر :” فضلا عن ذلك ، وعلى سبيل المثال لو افترضنا جدلا أنّ مشروع القانون المذكور الذي أحاله الرئيس بشاره الخوري الى مجلس النوّاب بموجب المرسوم 790 /44 كان قانونا ساريا ومعمولا به زمن السيّد المسيح ، فهل كان هيرودس ومن ورائه هيروديا وأرهاط رجال الدين اليهوديّ المناوئين للسيّدالمسيح ، والمعنيّين بالمحافظة على سلطاتهم ، والمتقوعين في تعصّبهم ، والمحمومين بعدائيّتهم لابن السماء ، المصلح العظيم ، واللذين لم يتردّدوا عن اتّهامه بالسحر وبأنّه بروح رئيس الشياطين يخرج الشياطين ، وبمعاشرة الزناة والخطأة ، وبمخالفة وصايا موسى النبيّ والتجديف والكفر – هل كانوا يتردّدون لحظة واحدة عن اتّهام السيّد المسيح ، إضافة الى اتّهاماتهم الأخرى ، بجرم مخالفة القانون الذي يمنع مناجاة الأرواح وكلّ ما له علاقة بعلم الغيب ، واعتبار ظاهراته الروحيّة الخارقة امّا من قبيل ” مناجاة الأرواح ” أو من قبيل الأعمال التي لها علاقة بعلم الغيب ؟ فلو كانوا يؤمنون بأنّ مصدر معجزاته وعجائبه قوّة روحيّة علويّة مستمدّة من الله عزّ وجلّ لما اضطهدوه ، ولما عذّبوه وحكموا عليه بعقوبة الاعدام صلبا كمجرم مع المجرمين . فيا للعار ويا للمهزلة !
من جهة أخرى , بالإضافة إلى أنّ مشروع القانون هذا مخالف لمبادئ أساسيّة في الدّول الدستوريّة الديموقراطيّة تتعلّق بالحرّيّة الشخصيّة وحريّة الفكر والاعتقاد وحريّة البحث والتنقيب العلميّين في جميع المجالات , بما فيها المجال الروحيّ , كما هو مخالف لمبدإ افتراض حسن النيّة في الأعمال حتّى إثبات العكس مّمن يدّعيه , فإنّ اللجوء إلى سنّ قانون ليكون أداة لمعاقبة فرد والانتقام منه يعتبر من أبشع صور الطغيان والديكتاتوريّةالمقيتة المخالفة لروح التشريع والغاية منه .
زافق إحالة مشروع القانون إلى المجلس النيابيّ تحريك حملة صحافيّة جانية من الافتاءات والأكاذيب بحقّالدكتور داهش غايتها خلق حاجة مصطنعة لإقرار المشروع والضغط على النوّاب للقيام بذلك .
وبالمقابل, قامت جماعة من أصدقاء الدكتور داهش ومحبيّه بتقديم عريضة احتجاجيّة الى المجلس النيابيّ ضدّ المشروع المذكور , محذ ّرين فيها من اعتماده بسبب مخالفته أبسط المبادئ الديمقراطيّة في حريّة البحث والفكر والاعتقاد , ولأنّه لا يستهدف إلاّ فردا واحا هو الدكتور داهش . وجرى توزيع هذا الاعتراض على النوّاب . وقد أحدث مشروع القانون ضجّة في صفوف النوّاب , فقام رئيس المجلس النيابيّ , آنذاك , السيّد صبري حماده , يرافقه النائب أديب الفرزلي , بزيارة الدكتور داهش في 23 آذار 1944 , وكانت دارته تغصّ بجمهور من الشخصيّات والنوّاب الآخرين . وفي تلك الزيارة شاهد المجتمعون ظاهرات روحيّة خارقة لقوانين الطبيعة .
ورغم الضغوط الشديدة التي لا بدّ من ان يكون مقدّمو مشروع القانون قد مارسوها على النوّاب ، فانّ هؤلاء امتنعوا عن مماشاتهم لأنّ لا منطقيّة المشروع الصارخة وهدفه المفضوح يجعلات من اقراره فضيحة ، ومن الموافقين عليه اضحوكة . وربّما كان الانتقاد العنيف الذي وجّهه اليه النائب جبرائيل المرّ معبّرا عن الجوّ العامّ لدى النوّاب ، اذ قال :” انّ مشروع قانون منع قراءة الأفكار ومناجاة الأرواح والتنويم المغنطيسيّ مشروع سخيف لا يمكن اقراره ، اذ لا المجلس النيابيّ ولا القوّات البشريّة يمكنها أن تقف أمام العلم وأمام تطوّره الروحاني .”
وبالنتيجة ، لم يخرج مشروع القانون من دائرة لجنة العدليّة ، بل ظلّ عالقا فيها عدّة أشهر ، الأمر الذي اضطرّ الحكومة أخيرا الى سحبه . وبذلك ، حصد الرئيس بشاره الخوري والمتحالفون معه في هذه القضيّة خيبة مريرة ، وأصيبوا بهزيمة لم يكونوا يتوقّعونها . يمثّل اقتراح مشروع القانون المعروض أعلاه المحاولة القصوى التي لجأ اليها خصوم الدكتور داهش في مخطّط منع الظاهرة الروحيّة الداهشيّة الخارقة من خلال تسخير القانون واستخدامه أداة قمعيّة لمآربهم وغاياتهم الشخصيّة .فمشروع القانون هذا هو مرآة تعكس بوضوح كلّيّ نيّاتهم ومقاصدهم وتعرّيها تعرية تامّة . وبفشل هذه المحاولة لم يبق أمامهم ، تحقيقا لما لم يستطيعوا تحقيقه تحت ستار التغطية القانونيّة مهما كانت واهية ، الاّ ولوج الطرق غير المشروعة بشكل سافر حتّى لو كانت التغطية لها غير مشروعة بحدّ ذاتها ولا تستند حتّى ظاهريّا الى أيّ قانون . وكان منهم ، في تلك المرحلة من القضيّة ، من لم يتورّع عن الدعوة الصريحة ، على صفحات الجرائد ، الى خرق القانون ومخالفته اذا كان ذلك ضروريّا للنيل من الدكتور داهش . فهل هناك احتقار أكبر للدستور والقانون ولارادة الشعب اللبنانيّ ولجميع القيم الديمقراطيّة من تلك الدعوة التي تظلّ في مطلق الأحوال أقلّ خطورة من أعمال المسؤولين الذين تصرّفوا وفقا لها ،فتمّ ما تمّ من اعتداء على الدكتور داهش واعتقال اعتسافيّ له ، وهو الضحيّة بينما ترك الجناة احرارا ، ثمّ جرّد سرّا من جنسيّته اللبنانيّة وشرّد بوسائل مخالفة للدستور وللقوانين والأعراف الداخليّة والدوليّة ولأبسط المبادىء الانسانيّة والقانونيّة ، بل حتّى لمبادىء العدالة الطبيعيّة البديهيّة ، وبوحشيّة لم يسبق لها مثيل ، على ما سنوضّحه في الفصل التالي ؟
في دعوى الابطال لتجاوز حدّ السلطة التي قدّمها وكلاء الدكتور داهش القانونيّون الى مجلس شورى الدولة اللبنانيّ ، بتاريخ 4 تشرين الثاني 1944 ، ضدّ الحكومة اللبنانيّة طعنا بمرسوم اخراجه من الأراضي اللبنانيّة ( المرسوم رقم 1842k تاريخ 8/9/1944 ، ) وجّه هؤلاء الوكلاء اتّهاما صريحا ومباشرا الى الحكومة اللبنانيّة مفاده أنّها ” عندما لم تنجح باستصدار القانون الذي فكّرت باستصداره ، وهو مشروع قانون منع مناجاة الأرواح الذي لم يكن المقصود منه سوى منع الدكتور داهش من اجراء ظاهراته الروحيّة الخارقة ، لجأت الى وسائل أخرى مخالفة للقانون للوصول الى هذه الغاية ،” مثلما جاء حرفيّا في الصفحة الأولى من استدعاء الدعوى . وبعد أن بيّن وكلاء الدكتور داهش أوجه اللامشروعيّة التي تعتور مرسوم الابعاد ، والكافية بحدّ ذاتها لابطاله ، مضوا على سبيل الاستطراد والافاضة في البحث الى التأكيد في صفحة 5 من استدعاء الدعوى بأنّه :
” لا يمكن القول بأنّ وجود الدكتور داهش في الأراضي اللبنانيّة هو خطر على الأمن ما لم يرتكب جرما أو يكن ممّن اعتادوا الجرائم ويخشى أن يكرّروها . وفخامة رئيس الجمهوريّة لم يقل ، في مرسوم الابعاد ، انّ الدكتور داهش قد ارتكب جرما أو أنّه من المجرمين المخيفين . ولكنّه قال :” انّ وجوده في الأراضي اللبنانيّة من شأنه احداث اضطراب واخلال في السكينة العامّة ،” دون بيان ايّ سبب كان يحمل على التسليم بصحّة هذا الزعم .
ولا يسع فخامة رئيس الجمهوريّة أو غيره ان يقول بأنّ الدكتور داهش قد اقترف جرما أو أتى حركة مخلّة بالنظام أو الأدآب الاّ اذا اعتبرت مناجاة الأرواح جريمة او عملا مخلاّ بالنظام أو الآداب ، وعوقب بالابعاد لأنّه وسيط روحانيّ يتّصل بالأرواح . وهذا ما لا يمكن التسليم به .”
لم تستطع الحكومة اللبنانيّة أن تقول ، بواسطة ممثّلها القانونيّ في ردّها على هذا التحدّي الصريح الوارد في الدعوى المذكورة أعلاه ، انّ الدكتور داهش قد اقترف جرما ما أو انّه أتى حركة مخلّة بالنظام أو الآداب ، وهذا كاف بحدّ ذاته لدحض جميع الافتراءات والتخرّصات المغرضة التي ملأ بها خصوم الدكتور داهش صفحات جرائدهم الصفراء . والغريب أنّ الحكومة اللبنانيّة اعترفت في ردّها ذاك بأنّ مبرّر ابعاد الدكتور داهش عن لبنان هو ممارسته لما تسمّيه ” مناجاة الأرواح ” وبالتالي فغاية الابعاد لم تكن الاّ منعه من اجراء ظاهراته الروحيّة في الأراضي اللبنانيّة . والحكومة اللبنانيّة باعترافها هذا انّما تعترف بمخالفتها لأحكام قانون 9 أيّار 1939 ، المتعلّقة ب” مناجاة الأرواح ” و” كلّ ما له علاقة بعلم الغيب “، ذلك القانون الذي عجزت عن اتّهام الدكتور داهش بمخالتفه ، كما تعترف في الآن نفسه بمخالفتها للمبدأ – القاعدة في النّظم الديمقراطيّة الحديثة ، ألا وهو مبدأ شرعيّة الجرائم والعقوبات . فالحكومة اللبنانيّة بابعادها للدكتور داهش بحجّة ممارستها لما تسمّيه ” مناجاة الأرواح ” تكون قد أنزلت به عقوبة من دون محاكمة ومن أجل أعمال يبيحها القانون ولا يعاقب عليها الاّ اذا كانت غايتها الكسب المادّيّ ، وهو ما لم تستطع اتّهامه به أو تقديمه للمحاكمة من أجله . ولا يمكن اعتبار المرء مخلاّ بالنظام العامّ اذا كان يمارس حقوقه وحرّيّاته القانونيّة في حدود القانون وأحكامه .
الحقيقة
هذه هي حقيقة مسألة ” مناجاة الأرواح ط في القانون اللبنانيّ ، وحقيقة الدوافع والأسباب لاثارتها في قضيّة الدكتور داهش . واذا كان محامو الدكتور داهش أو بعض أصدقائه ومريديه قد لجأوا الى تذكير الحكومة اللبنانيّة بموقف الحكومات ، في الدول الديمقراطيّة المتقدّمة ، من البحوث النفسيّة والروحيّة ، وباطلاقها الحرّية لها ، وبأنّ هناك علماء مرموقين اهتمّوا بالبحث في ميدان الشؤون النفسيّة والروحيّة الماورائيّة وبدراسة الظاهرات الروحيّة و” مناجاة الأرواح ” ، فما ذلك الاّ لايقافها عن متابعة اضطهاد الدكتور داهش والظاهرة الروحيّة الداهشيّة ، وبالتالي حفاظا على حقّ الدكتور داهش وحرّيّته في اجراء ظاهراته الخارقة في اطار القانون ، وتأمينا لحقهم وحقّ كلّ باحث عن الحقيقة في دراسة هذه الظاهرات الروحيّة الداهشيّة الخارقة .ولا ينتقص من حجّة أنصار الدكتور داهش أو محبيّه ، اذا كان بعضهم يؤمن حقّا بامكان ” مناجاة الأرواح ” التي تنفيها العقيدة الداهشيّة نفيا قاطعا ، أو يعتقد فعلا بوجود علم صحيح اسمه علم ” مناجاة الأرواح ” ، اذ انّ المسألة المطروحة لم تكن مسالة صحّة ” مناجاة الأرواح ” بشكل عامّ أو صحّة وجود علم صحيح اسمه علم ” مناجاة الأرواح ” بل المسألة المطروحة هي مسألة حقّ الدكتور داهش المشروع باجراء ظاهراته الروحيّة الخارقة في ظلّ التشريع المعمول به . والأمر المهمّ أنّ الحكومة عجزت بتحقيقاتها المتكرّرة عن تقديم الدليل على مخالفة الدكتور داهش لقانون 9 أيّار 1939 ، أو أيّ نصّ قانونيّ قضائيّ آخر ، لأنّ الظاهرة الروحيّة الداهشيّة لا تقع تحت قبضة القواني السارية ، وهي ظاهرة واقعيّة ملموسة . أمّا أمر تفسيرها وتحديد مصدرها ، فمتروك للباحث ولمدى تجرّده ، يمارس في ذلك حقّه ، في اطار الحريّة المعترف له بها قانونا بموضوعيّة ومن دون الانحدار الى السفاسف وتفاهات التهجّم الرخيص والآراء الاعتباطيّة التي لا تستند الى دليل ، والتي قد تعبّر عن عمى تعصّبيّ أو مركّبات نقص وأمراض نفسيّة متأصّلة لدى بعض الحاقدين .”
المرسومان 1822 و1842 والمخالفة الصارخة
يتابع المحاميان خليل وفارس زعتر مطالعتهما القانونيّة في قضيّة الدكتور داهش معتبرين انّ تجريده من الجنسيّة اجراء تعسّفيّ أقدمت عليه السلطة اللبنانيّة آنذاك ، اذ قام الرئيس بشاره الخوري باصدار المرسوم رقم1822 في أيلول 1944 ، وقضى فيه باسقاط الجنسيّة اللبنانيّة عن داهش وابعاده خارج الحدود ، مغتصبا بذلك مبدأ الفصل بين السلطات ، ضاربا بالسلطة التشريعيّة عرض الحائط ، وكذلك بالدستور اللبنانيّ وبالمادّة السادسة التي تنصّ على الجنسيّة اللبنانيّة وطريقة اكتسابها وحفظها وفقدانها ، فيقولان : ” ما يؤكّد أنّه لم يعتقل الاّ لتنفيذ مؤامرة لتجريده من جنسيّته وتشريده خارج لبنان هو أنّ معاملة التجريد من الجنسيّة بدأت بصورة سرّيّة بتاريخ القاء القبض عليه في 28 أب 1944 . وعندما صدر قرار البعاد بصورة سرّيّة أيضا ، استردّت مذكّرة التوقيف في 9 أيلول 1944 . الاّ أنّ قرار استردادها لم يعرف به الدكتور داهش أو ممثّلاه القانونيّان ، بل سلّم الى رجال البوليس الذين حضروا في الساعة العاشرة ليلا الى ” سجن الرمل ” ، فأتّخذوا الدكتور داهش تنفيذا لاخراجه من البلاد .
وخلاصة الأمر أنّ الرئيس بشاره الخوري أصدر في 6 أيلول 1944 المرسوم رقم 1822 الذي يعطي ، بموجبه مثلما جاء في نصّه حرفيّا : ” لرئيس دوائر النفوس أن يشطب القيود المدرجة بغير حقّ بعد اجراء التحقيق وأخذ موافقة وزير الداخليّة .” ومع انّ المراسيم التي لها شكل المراسيم العامّة لا تنفّذ ، وبالتالي لا تصبح سارية المفعول الاّ بنشرها في الجريدة الرسميّة ، ومن تاريخ هذا النشر ، فانّ المرسوم 1822 الذي صدر بتاريخ 6 أيلول 1944 ” بصيغة ” المراسيم العامّة لم ينشر في الجريدة الرسميّة الاّ في 13 أيلول 1944 ، ومع ذلك فقد طبّقه رئيس دوائر النفوس على الدكتور داهش في اليوم التالي لصدوره ، أي في 7 أيلول 1944 ، قبل ستّة أيّام من نشره ونفاذه . هذا التطبيق الباطل قانونا لمرسوم باطل شكلا وأساسا يؤكّد أنّ المرسوم 1822 قد صدر ليطبّق خصّيصا على الدكتور داهش .
وفي اليوم التالي مباشرة لتطبيق رئيس دوائر النفوس في 7 أيلول 1944 للمرسوم 1822 ، الصادر في 6 أيلول 1944 ، أصدر الرئيس بشاره الخوري المرسوم 1842 ، بتاريخ 8 أيلول 1944 ، يأمره فيه باخراج الدكتور داهش من ” أراضي الجمهوريّة اللبنانيّة “. وفي 9 أيلول 1944 ، وهو اليوم التالي مباشرة لصدور مرسوم الاخراج من البلاد ، رقم 1842 ، تاريخ 8 أبلول 1944 ، استردّت مذكّرة توقيف الدكتور داهش بالقرار رقم 940 /235 ، وسلّمت مذكّرة الاسترداد الى عناصر الشرطة المكلّفين بتنفيذ مرسوم الاخراج من البلاد . فحضروا ليلا الى ” سجن الرمل ” – باستيل لبنان – وبمخالفة صريحة لقوانين السجون وأمكنة التوقيف ، أخذوا الدكتور داهش لا ليطلقوا سراحه عملا بقرار استرداد مذكّرة التوقيف ، بل لاخراجه من البلاد وتشريده عملا بمرسوم الاخراج رقم 1842 . ومع أنّ هذا المجال ليس المجال المناسب لاجراء دراسة قانونيّة للاجراءات المذكورة أعلاه ، لا بدّ لنا ، توخّيا للفائدة ، من الادلاء ببعض الملاحظات الايضاحيّة على سبيل المثال لا الحصر :
مخالفة المبادىء والقوانين
أ – انّ المرسوم 1822 ، تاريخ 6 أيلول 1944 ، مخالف بصورة صريحة للمادّة السادسة من الدستور اللبنانيّ التي هي أولى مواد الفصل الثاني من الدستور المتعلّق بحقوق اللبنانيّن وواجباتهم ، والتي تنصّ :
المادّة 6 : انّ الجنسيّة اللبنانيّة وطرقة اكتسابها وحفظها وفقدانها تحدّد بمقتضى القانون .”
فالمرسوم 1822 ليس قانونا ، بل هو مرسوم تنظيميّ ، من حيث الشكل على الأقل . وهو بنصّه على طريقة لفقدان الجنسيّة اللبنانيّة يكون مخالفا للمادّة 6 من الدستور .
ب – المرسوم 1822 مخالف لمبدأ فصل السلطات ، ويشكّل اغتصابا لصلاحيّة السلطة الاشتراعيّة ولمبادىء أساسيّة في الدول الحديثة تجعل حقوق المواطنين وحرّيّاتهم في حمى القانون والقضاء ، وهذا ما أكّده مجلس شورى الدولة في قراره رقم 29 ، تاريخ 12 حزيران 1945 ، في هذه القضيّة .
ج – المرسوم 1822 مخالف للمبادىء القانونيّة العامّة وللقوانين والأنظمة التي ترعى مناعة قيود سجلاّت الاحصاء والأحوال الشخصيّة ، والتي بموجبها يحظّر على الادارة أن تغيّر في قيود السجلاّت التي تمثّل حقوقا مكتسبة لأصحابها الاّ بواسطة أحكام قضائيّة تصدر وفق الأصول والاجراءات القضائيّة المرعيّة ، وبعد تأمين جميع الضمانات لأصحاب العلاقة .
د –انّ صدور المرسوم 1822 في 6 أيلول 1944 ، وتطبيقه في اليوم التالي لصدوره ، أي في 7 أيلول 1944 ، من قبل رئيس دوائر النفوس على الدكتور داهش ، قبل ستّة أيّام من تاريخ نشره في الجريدة الرسميّة ، ونفاذه في 13 أيلول 1944 – كلّ ذلك يؤكّد أنّه قد صدر ” مرسوم عامّ ليطبّق على الدكتور داهش ، أي انّه عمل فردي تحت ستار مرسوم عامّ ، الأمر الذي يشكّل اساءة فاضحة لاستعمال السلطة .
ه – انّ الهدف من معاملة التجريد الاعتسافيّ من الجنسيّة عن طريق اصدار المرسوم 1822 ، ومن تطبيقه في اليوم التالي ، قبل نشره وسريانه قانونا ، على الدكتور داهش ، هو تحقيق اخراج الدكتور داهش من الأراضي اللبنانيّة ، اذ لا يمكن اخراج المواطن من وطنه عملا بالقوانين الداخليّة والدوليّة التي تحظّر ذلك . ولذلك كان ضروريّا ازالة العقبة التي تقف دون تحقيق الرغبة باخراج الدكتور داهش من لبنان ، والمتمثّلة بجنسيّته اللبنانيّة . ولو لم تكن جنسيّة الدكتور داهش ثابتة ، ولا ريب فيها ، لما لجأ بشاره الخوري الى مخالفة الدستور واغتصاب سلطة تشريعيّة والى مخالفة كلّ القواعد العامّة والقوانين والأنظمة المشروعة التي تكفل حماية الجنسيّة ومناعة قيود السجلاّت المتعلّقة بها ، وذلك باصدار للمرسوم 1822 ليطبّق خصيّصا ، في اليوم التالي لصدوره ، رغم عدم نفاذه ونشره ، على الدكتور داهش ، وليسارع في اليوم التالي لتطبيقه الى اصدار مرسوم الاخراج من البلاد ( المرسوم 1842 ، تاريخ 8 أيلول 1944 ).
و – انّ هذه الأعمال ( أي المرسوم 1822 ، تاريخ 6 أيلول 1944 ، وقرار رئيس دوائر النفوس ، تاريخ 7 أيلول 1944 ، والمرسوم 1842 ، تاريخ 8 أيلول 1944 ) صدرت بصورة سرّيّة تامّة ، ونفّذت بصورة سرّيّة تامّة أيضا ، ولم يعلم بها الاّ المشتركون باصدارها وتنفيذها . وقد أكّد مجلس الشورى أنّ صاحب العلاقة ، الدكتور داهش ، لم يعلم بها قبل تنفيذها بحقّه . فهل هناك أفظع من ذلك : أن يجرّد انسان بشطحة قلم من أقدس حقوقه ، ويشرّد ، فيجد نفسه بدون جنسيّة وبدون ملجأ ، بعيدا عن بلاده وأهله وأصدقائه ، وذلك من دون أن يعلم بالاجراءات المتّخذة بحقّه الاّ بعد تنفيذها !
ز – والأسوأ من كلّ ذلك هو أنّ الحكومة رفضت اعطاء صورة أو نسخة عن قرار رئيس دوائر النفوس الى وكلاء الدكتور داهش في لبنان لتقديم القرار مع اعتراضهم عليه الى مجلس شورى الدولة . وقد رفعوا الشكوى من ذلك صراحة في لوائحهم أمام مجلس شورى الدولة عبثا . وعدم اعطاء نسخة عن قرار رئيس دوائر النفوس هو موقف اعتسافيّ خطير يعبّر أبلغ تعبير عن عدائيّة انتقاميّة ، وهو مخالف لأبسط مبادىء القانون . فمن حقّ الدكتور داهش ووكلائه القانونيّين أن يطّلعوا على هذا القرار لممارسة حقوقهم المشروعة في الطعن به أمام مجلس شورى الدولة ، ومن واجب رئيس دوائر النفوس أن يعطيهم نسخة عن القرار ، كما من واجب الحكومة ومجلس الشورى أن يأمرا بتقديم نسخة عنه . ومن قرار مجلس شورى الدولة ، رقم 29 ، تاريخ 12 حزيران 1945 ، يتبيّن بوضوح أنّ قرار رئيس دوائر النفوس لم يقدّم الى مجلس الشورى . وموقف الادارة المتعنّت هذا الذي لا مبرّر له على الاطلاق تنكشف أسبابه بجلاء تامّ لدى الاطلاع على معاملة الشطب . فمن الاطلاع عليها يظهر ما يلي :
انّ قرار ( أو مطالعة ) رئيس دوائر النفوس ( الاحصاء والأحوال الشخصيّة ) الذي ارتأى بموجبه شطب قيود الدكتور داهش وعائلته من سجلاّت اللبنانيّين ونقلهم الى سجلاّت الأجانب ، وهو القرار الصادر بتاريخ 7 أيلول 1944 ، لم يقترن بموافقة وزير الداخليّة الاّ في 14 أيلول 1944 . أمّا معاملة الشطب فلم تجر الاّ بتاريخ 22 أيلول 1944 .
وبالتالي ، فانّ الدكتور داهش كان ، حتّى من الواجهة الشكليّة ، ما زال لبنانيّا استنادا الى قيود سجلاّت المقيمين اللبنانيّين عندما صدر مرسوم اخراجه من لبنان ( المرسوم 1842 ) ، بتاريخ 8 أيلول 1944 ، وعندما نفّذ هذا المرسوم بتاريخ 9 أيلول 1944 . وبتعابير أخرى ، فانّ مرسوم الابعاد ، رقم 1842 ، يكون قد صدر في 8 أيلول 1944 بحقّ مواطن لبنانيّ ، ونفّذ في 9 أيلول 1944 بحقّ هذا المواطن البنانيّ أيضا .
المرسوم الباطل
وبما أنّ صحّة الأعمال الاداريّة ومشروعيّتها تقدّران بتاريخ صدورها ، فانّ المرسوم 1842 وتنفيذه بحقّ مواطن يعتبران عملين غير مشروعين وباطلين . وهذا سبب ومصدر اضافيّان من أسباب ومصادر لا مشروعيّة مرسوم الابعاد وتنفيذه ، ما كان بامكان مجلس الشورى تجاهلهما . ولذلك تمنّعت الادارة بتعنّت وتعسّف عن اعطاء نسخة عن قرار الشطب ، لأنّ من شأنه أن يكشف عن الكيفيّة التي تمّت فيها معاملة الشطب وعن تاريخ اتمامها ، مع ما يترتّب على ذلك من نتائج وآثار . ولذلك لم يذكر مجلس الشورى أيضا في قرار رقم 29 ، تاريخ 12 حزيران 1945 ، أنّه اطّلع عليه . وتعميما للفائدة ، نورد فيما يلي نصّ ” قرار الشطب ” بالمعاملة رقم 1543 :
قرار الشطب بالمعاملة رقم 1543
بناء على المرسوم رقم 1822 تاريخ 6 أيلول 1944 . بناء على تحقيقات مفوّض الأمن تحت رقم 1206، تاريخ 7 /9/1944 .
بناء على مطالعة رئيس الاحصاء والأحوال الشخصيّة تاريخ 7 /9/1944 .
بناء على موافقة مدير الداخليّة ووزير الداخليّة رئيس مجلس الوزراء تحت رقم 10471 تاريخ 14/9/1944.
تمّ شطب اسم سليم موسى العشّي وعائلته من سجلاّت المقيمين ونقلوا الى سجلّ أجانب المصيطبة برقم 1063 /3071 ، من التابعيّة الفلسطينيّة بالمعاملة رقم 1543 ، تاريخ 22/9 /1944 .
واذا كان شرّ البليّة ما يضحك ، فانّ ممّا يضحك في قرار الشطب هو عدم الاكتفاء بتجريد الدكتور داهش وعائلته من الجنسيّة اللبنانيّة عن طريق شطب قيودهم من سجلاّت المقيمين ( اللبنانيّين ) ، بل اعتبارهم من التابعيّة الفلسطينيّة ونقلهم الى سجلّ أجانب المصيطبة من التابعيّة الفلسطينيّة . لقد اعتبرتهم الادارة الجانية من التابعيّة الفلسطينيّة تغطية لمسؤوليّتها وتستّرا عليها حتّى لا ينكشف للرأي العامّ بالعين المجرّدة أنّ الدكتور داهش قد جرّد بهذه الطريقة الاعتسافيّة غير المشروعة من جنسيّته الوحيدة التي هي الجنسيّة اللبنانيّة ، وترك بدون جنسيّة ، وشرّد خارج الأراضي اللبنانيّة .
فالادارة المرتكبة لهذه الجناية كانت تعلم علم اليقين انّ ما دوّنته بشأن التابعيّة الفلسطينيّة المزعومة للدكتور داهش غير صحيح ، مثلما كانت تعلم أنّ تجريده من جنسيّته لا يرتكز على واقع أو قانون .
المنشورات السوداء
ويضيف الأخوان زعتر : لم يقف الدكتور داهش ولا الداهشيّون مكتوفي الأيدي ازاء هذه الجريمة . فالدكتور داهش عاد الى لبنان ، بعد أن أنقذته العناية الالهيّة ، وشنّ مع الداهشيّين حملة ساحقة في محكمة الرأي العامّ ، فطبعوا ونشروا 66 كتابا أسود ، و165 منشورا أسود ، عرضوا فيها على الرأي العامّ وقائع هذه القضيّة وابطالها وأسبابها ومسبّباتها ودوافعها . ولم يكتفوا بذلك ، بل كشفوا سلسلة الارتكبات والفضائح التي غصّ بها عهد بشاره الخوري . وقد بذل الداهشيّون في طبع هذه الكتب والنشرات وتوزيعها أموالهم ووقتهم وراحتهم ، وتحمّلوا أقصى الاضطهادات دون أن يلينوا ، لأنهم كانوا على يقين من أنّهم يدافعون عن قضيّة الحقّ والحريّة في قضيّة الدكتور داهش .وعندما صدرت الكتب والنشرات السوداء ،كان بشاره الخوري في أوج سلطانه ، وكانت أكبر الهامات تنحني له في لبنان .وقد اكّد الداهشيّون المرّة تلو المرّة في هذه المنشورات السوداء أنّ الحقّ يؤخذ ولا يستجدى ، وأنّ جنسيّة الدكتور داهش ستعود اليه بقوّة الحقّ وبقوّة البأس أيضا . وعلى سبيل المثال ، فقد جاء في الصفحة 8 من النشرة السوداء ” أطلب محاكمتي “التي صدرت عامّ 1945 ، باسم ماري حدّاد ما يلي :
” ولكنّني أؤكّد لهنري فرعون بأن الجنسيّة ستعود بالرّغم منه وبالرّغم من محاولاته الشائنة ومحاولات من يلف لفّه . والمستقبل الآتي سيريه صدق أقوالي .” وفي الكتاب الأسود ” كشف الستار وفضح أسرار العصفوريّة وما يرتكب فيها من جرائم رهيبة باسم العطف على البؤساء والمنكوبين ” لماري حدّاد ، الصادر عام 1946 ، بيروت ، جاء في الصفحة 2 منه ما يلي :
” وليعلم هؤلاء الكذبة المراؤون ، بل ليتأكّد لهم أنّ جنسيّة الدكتور داهش ستعاد اليه بقوّة الحقّ وبقوّة البطش أيضا . فمن أخذ بالسيف فبالسيف يؤخذ . والعبد الذليل هو من يرضخ ويحني الهامة بمذلّة معيبة . “
وجاء دوام هذه الحالة من المحال . وانّ فوضى الحكم التي أصبح لبنان يتخبّط بها بفضل بشاره الخوري وأساليبه سيكون لها شأن خطير ، وستظهر نتائجه قريبا ، فلينتظروها .
وأخيرا ، انّ لكلّ أمر غاية ، ولكلّ بداية نهاية . وعندما تأتي بدايتنا تتمّ نهايتهم ، فتقوّض آرائك حكمهم ، ويردّ كيدهم الى نحرهم .”
استعادة الجنسيّة
بعد سقوط عهد بشاره الخوري ، عرضت قضيّة الدكتور داهش على رئيس الجمهوريّة المنتخب ، كميل شمعون، وعلى مجلس الوزراء . وبناء على دراسة قانونيّة أعدّها القاضي الدكتور أنطوان بارود ممثّلا دائرة القضايا والتشريع في وزارة العدل ، بتاريخ 30 كانون الأوّل 1952 ، بيّن فيها لامشروعيّة الاجراءات المتّخذة بحقّ الدكتور داهش ، أصدر مجلس الوزراء اللبنانيّ ، في 6 شباط 1953 ، قرارا ألغى بموجبه قرار رئيس مصلحة الاحصاء والأحوال الشخصيّة الذي قضى بشطب قيد الدكتور داهش من سجلّ المصيطبة ونقله الى سجلّ الأجانب ، بموجب المعاملة المؤرّخة في 22 أيلول 1944 ، رقم 1543 . وأمر مجلس الوزراء بقراره ” اعادة قيد ” الدكتور داهش وعائلته الى ما كان عليه واعتبارهم من الجنسيّة اللبنانيّة مثلما جاء حرفيّا في قرار مجلس الوزراء .
وبعد الغاء قرار الشطب واعادة الجنسيّة أصدر رئيس الجمهوريّة ، الأستاذ كميل شمعون ، بتاريخ 24/3/1953، مرسوما يحمل الرقم 1453 ألغى بموجبه مرسوم الابعاد رقم 1842 الذي أصدره بشاره الخوري بتاريخ 8 أيلول 1944 ؛ وقد نشر هذا المرسوم في ملحق العدد 13 من الجريدة الرسميّة ، أوّل نيسان 1953 .
وبعد استعادة الدكتور داهش لحقوقه السليبة في أوائل عام 1953 ، بقي مقيما اقامة دائمة مستمرّة في وطنه لبنان حتّى العام 1976 ، اذ غادره في تلك السنة الى الولايات المتّحدة الأمريكيّة ، ثمّ عاد اليه في العام 1978 ، وبقي فيه حتّى العام 1980 . وطوال هذه المدّة كان منزل الدكتور داهش في بيروت مقصدا للشخصيّات والمثقّفين والعامّة وللصحفيّين الذين قابلوه وعاينوا ظاهراته الروحيّة ، وصوّروها بأثناء حدوثها ، وكتبوا التقارير عن زياراتهم وأحاديثهم ومشاهداتهم في الصحف والمجلاّت التي يعملون فيها .”
من يعيد سمعة داهش ؟
في كتابه ” جريمة القرن العشرين ” تناول المحامي خليل زعتر قضيّة الدكتور داهش معتبرا أنّ اعادة الجنسيّة للدكتور لا تكفي لأنّها حقّه الطبيعيّ . ولكن يتسائل المحامي زعتر هل استعادة داهش لجنسيّته هي ردّ لاعتباره خصوصا بعدما تعرّضت سمعته للاغتيال عبر الاشاعات الملفّقة التي خصّص عهد الرئيس بشاره الخوري معظم وقته في سبييلها .
” صحيح أنّ الجنسيّة اللبنانيّة أعيدت الى الدكتور داهش بعد أن أبطل مجلس الوزراء برئاسة الأمير خالد شهاب الاجراءات التعسّفيّة التي اتخذها الشيخ بشاره الخوري ، وأظهر عدم قانونيّتها استنادا الى دراسة القاضي أنطوان بارود القيّمة .
وصحيح ، أيضا ، أنّ داهش عاد الى لبنان معزّزا مكرّما بعد أن خلع الشعب اللبنانيّ بشاره الخوري عن أريكة حكمه ، هذا الرئيس الذي أصبح اسمه مرادفا لكلّ أنواع الفضائح والتجاوزات والظلم والفساد .
ولكن ، هل يكفي هذا ؟ هل تعتبر اعادة الجنسيّة الى الدكتور داهش نهاية المطاف ؟ وهل استردّ الدكتور داهش حقّه كاملا غير منقوض ؟
ما أراه هو أنّ وجها من وجوه قضيّة الدكتور داهش قد تحقّق ، وهو الوجه السلبيّ المتمثّل بردّ الجنسيّة اليه ، وعودته الى لبنان بابطال مرسوم الابعاد الذي أصدره بشاره الخوري . ولكن تبقى لهذه القضيّة وجوه أخرى لم يتحقّق منها شيء ، مع أنّها أمور أساسيّة جوهريّة ، وفي الوقت نفسه بديهيّة ، وذلك بالرغم من بعض ” العقبات”.الاّ أنّها عقبات غير مستعصية ، بل يمكن تذليلها والتغلّب عليها باصدار تشريع خاصّ من المجلس النيابيّ يجيز اعادة النظر قضائيّا في قضيّة الدكتور داهش ، واجراء محكمة جميع المشتركين والمحرّضين والمساهمين في جريمة تشريده وابعاده ، وذلك بصورة علنيّة أمام جميع أفراد الشعب . ومن ثمّ تعلن مسؤوليّتهم ، ويشهّر بهم ، ويحكم للدكتور داهش بالتعويضات المعنويّة والمادّيّة عن العذاب والتنكيل والاضطهاد ابّان حكم بشاره الخوري . هكذا ، فقط ، يكون الدكتور داهش قد وصل الى بعض حقوقه . وهكذا ، فقط ، نكون قد أزلنا بعض آثار تلك الجريمة النكراء .
قد يقول قائل :” ولماذا اعادة المحاكمات ما دامت اجراءات بشاره الخوري أصبحت باطلة وفي مطاوي العدم ؟”
وعليه أجيب :” صحيح أنّ اجراءات الخوري أبطلت ، انّما الرأي العامّ ما زال متأثّرا بالدعايات المغرضة ، وما برح عالقا في ذهنه بعض صور الماضي السوداء، صور تشويه سمعة الدكتور داهش في المجالس العامّة والخاصّة وعلى صفحات الجرائد . فاذا أعيدت المحاكمات بشكل مجرّد ونزيه أمام الرأي العامّ ، يظهر بطلان الاجراءات وعسفها قضائيّا ، كما أبطلها مجلس الوزراء بشكل اداريّ .
واذ ذاك ، ينشر الحكم الذي يصدره القضاء بكافّة وسائل الاعلام ، ونعيد بعض الاعتبار الى الدكتور داهش ، ونفيه بعض حقّه …”
وقد يقول قائل :” ولماذا اعادة النظر واعادة المحاكمات ما دام الزمن قد طوى هذه الجريمة ، ولفّها النسيان ، وأصبحت في ذمّة التاريخ ؟”
كالاcallas ودريفوسdreyfus وفوVaux
ويضيف زعتر :” انّ العدالة توجب الاقتصاص من المجرمين ، والتاريخ يحوي ، في طيّاته وبين صفحاته ، جرائم – وان لم تبلغ جسامتها جسامة الجريمة النكراء التي ارتكبها بشاره الخوري – أعيدت المحاكمات فيها ، وظهرت براءة أصحابها على الملا ، حتّى بعد أن غيّتهم وضمّهم الثرى ، وأعيد الاعتبار اليهم ، وحوكم خصومهم ، من جديد ، وحكم عليهم .
والتاريخ الحديث حافل بمحاكمات من هذا النوع أشير الى بعضها باختصار ، مع لفت النظر مجدّدا الى أنّ الدكتور داهش لم يحاكم ، ولم يصدر بحقّه أيّ حكم أو عقوبة ، بل اعتقل وأوقف مدّة ثلاثة عشر يوما حتّى صدر مرسوم الابعاد . أمّا القضايا التي سأعرضها ،فقد جرت فيها محاكمات ، وان كانت صوريّة ، أو اعتورتها الأخطاء ، ورافقتها الاجراءات التعسّفيّة لغايات أملتها السياسة الغاشمة أو مصلحة الدولة أو التعصّب الدينيّ الأعمى . ومن تلك القضايا ، قضيّة جان كالا ( 1761 )j callas
اتّهم جان كالا زورا ، وحكم عليه بالسجن المؤبّد . وقد حمل لواء الدفاع عنه الكاتب الفرنسيّ الكبير فولتير الذي اثار هذه القضيّة في جميع الأوساط ، وأصدر فيها كتابا دعاهL affaire callas هاجم فيه الطريقة التي جرت فيها المحاكمة والاجراءات التعسّفيّة ، والحكم الذي صدر فيها بعيدا عن مقتضيات العدالة ، لأنّه مجرّد من الأسباب التي تبرّره . ونتيجة لهذه المساعي ، أعيدت محاكمة جان كالا بعد سنتين ، وأحيلت القضيّة على محكمة التمييز التي أعلنت بالاجماع ، في 9/3/1765 ، براءة المتّهم . وأقرّ الملك للعائلة مبلغا من المال كتعويض عادل عمّا لحقها من أذى وضرر وعذاب .
وثمّة قضيّة أخرى هي قضيّة بيار فوp vaux ، الذي حكم عليه بالأشغال الشاقّة المؤيّدة رغم كونه بريئا ،وزجّ في السجن ، وتوفّي فيه . ولكن أحد أولاده تابع حمالاته لاظهار براءة والده . واستطاع ، بعد مرور خمس وأربعين سنة ، أن يعيد المحاكمة حتّى ظهرت براءة والده . وأعيد الاعتبار للضحيّة ، رغم مرور خمس وأربعين سنة ، لأنّ الضمير يأبى على الانسان أن يقبل باستمرار حكم الظلم ، ولا يني يحرّك الطاقة البشريّة للعمل على رفعه .
ومن أشهر القضايا التي أعيدت فيها المحاكمة ، في العصر الحديث ، قضيّة الضابط الفرنسي ألفرد دريفوس الذي حكم عليه المجلس الحربيّ الفرنسيّ بالسجن ، وجرّد من رتبته العسكريّة ، نتيجة محاكمة سرّيّة لم تتأمّن فيها الضمانات اللازمة لحقّ الدفاع . وصدر الحكم استنادا الى وثائق سرّيّة مزوّرة لم توضع موضع المناقشة العلنيّة ،كما تقتضي الاصول القانونيّة ، وذلك بتاريخ 11 كانون الأوّل 1894 . وبعد الحكم ، ظهرت عناصر ودلائل جديدة كلّها تشير الى براءة دريفوس ، والى ضلوع بعض الضبّاط الكبار في الجريمة المنسوبة اليه .فتطوّع الكاتب الشهير اميل زولا ( 1840 – 1902 ) للدفاع عنه . وأطلق قنبلته في كتاب رفعه الى رئيس الجمهوريّة عنوانه :” أنا أتّهم “، ارتفع فيه من مستوى التوسّل الى مرتبة النصح والارشاد والاتّهام . وقد نشرت جريدة ” لورور “l aurore الفرنسيّة هذا الكتاب بتاريخ 13 كانون الثاني 1898 . وممّا جاء فيه :
” اسمحوا لي ، يا فخامة الرئيس ، وأنا أسير الرعاية التي شملتموني بها يوم استقبالكم ايّاي أن أكون غيّورا على مجدكم ، وأن أقول لكم ، بكلّ صراحة ، انّ نجمكم السعيد ، لغاية الآن ، قد أصبح مهدّدا بأفظع لطخة عار لا يمكن أن تمحى . وسيذكر التاريخ أنّ مثل هذه الجريمة الاجتماعيّة تّمت في في عهدكم .
” واذا كان المجلس الحربيّ قد تجرأ على ذلك ، فأنا أيضا أتجرأ لأقول الحقيقة ، طالما يتغاضى القضاء عن الحكم بالعدل ، لأنّ واجبي يلزمني الكلام لئلاّ أكون مشتركا في الجريمة ،وتكون لياليّ المقبلة مشغولة بطيف ذلك الرجل البريء الذي يعاني ، في سجنه البعيد ، ألوان العذاب عن جرم لم يقترفه .
” ومتى تمّت المأساة التي تتمثّل بادانة بريء وبتبرئة مجرم ، فقل : سلام على مجتمع أصبح في طور الانحلال .”
الى أن يقول :
” وما حركتي هذه سوى وسيلة ثوريّة في سبيل الحقيقة والعدل . وانّ أمنيتي الوحيدة أن تتجلّى الحقيقة باسم البشريّة المتألمة المتعطّشة لمناهل السعادة ، والتي تعي ندائي الملتهب الصارخ من أعماق النفس .فلتتجرّ ا السّلطة على ملاحقتي لكي يجري التحقيق في وضح النهار . انّي أنتظر …”
وعلى الأثر أحيل زولا على المحاكمة بتهمة تحقير رئيس الجمهوريّة والجيش . وحكم عليه بسنة سجن . ولكنّ الرأي العامّ الفرنسيّ ضجّ وثار ، الأمر الذي دفع وزير العدل الى مطالبة النيابة العامّة باعادة النظر في قضيّة دريفوس ، وكانت نتيجة المحاكمة الجديدة اعلان براءته في 12 تمّوز 1906 ، بقرار من محكمة التمييز ( الغرف مجتمعة ) ، فاستعاد دريفوس كرامته وكرامة عائلته ، ومحا العار الذي لحقه . والساحة التي شهدت حفلة تجريده من رتبته العسكريّة شهدت من جديد حفلة اعادة الاعتبار اليه وتقليده وسام الشرف العسكريّ .
زولا في ” البانتيون “
وفي اليوم التالي لبراءة دريفوس ، اجتمع البرلمان الفرنسيّ ، وأصدر فانونا خاصّا بنقل رفات اميل زولا الى مقبرة ” البانتيون ” ليدفن فيه الى جانب عظماء فرنسا ، فارتفع ، بدفاعه عن بريء مظلوم ، الى مرتبة الخلود .
فهل يجتمع مجلس النوّاب اللبنانيّ ، رأس السلطة التشريعيّة ، ويصدر تشريعا خاصّا لاعادة النظر في قضيّة الدكتور داهش ومحاكمة المسؤولين عنها ؟
وهل يثور رجال الفكر والقانون والقضاة وأساتذة الحقوق مطالبين بالاقتصاص من المجرمين ، ومصادرة أموالهم التي جمعوها وثمّروها من استغلال المناصب وعلى حساب مصلحة الشعب ، وضمّها الى أموال الخزانة العامّة أو انشاء مشاريع خيريّة بها لمساعدة المحتاجين والمصابين من أبناء الوطن الذي كانت نكبته الكبرى في الحرب الأهليّة التي اندلعت في 13 نيسان 1975 نتيجة لأعمال أولئك الذين ائتمنهم على مقدّراته في العهد الاستقلاليّ الأوّل ، وهؤلاء الذين ساروا على خطاهم فيما بعد .
انّ السلطة التشريعيّة اليوم مدعوّة الى الاعتراف بخطأ السلطة التشرعيّة في عهد بشاره الخوري لاهمالها التامّ اثارة موضوع الجريمة المرتكبة بحقّ الدكتور داهش والداهشيّين ، وعدم مساءلته عنها وعن سواها من الجرائم والمفاسد الكثيرة التي تمّت ، والتي تمتدّ خيوطها بطريقة أو بأخرى اليه ، والى من تعاون وأسهم معه فيها .”
ويختتم زعتر : ” انّ حكومات العالم ، من شرقيّة وغربيّة ، تعيد النظر اليوم بأخطاء وجرائم ارتكبتها الحكومات السابقة أثناء الحرب العالميّة الثانية وما قبلها وما بعدها ، وتقدّم الاعذار ،وتقدّم حتّى التعويضات الماديّة التي، مهما بلغت ، تكون رمزيّة ، لضحايا تلك الأخطاء والجرائم أو لورثتهم .
هل سيدرك المسؤولون والمثقّفون أهميّة قضيّة الدكتور داهش وارتبطها الوثيق بحياة هذا الوطن ومستقبله ؟
انّ اليوم الذي سيفتح فيه مجلس النوّاب ملفّ هذه القضيّة ، واليوم الذي فيه سيعلن المجلس الظلم الفادح الذي ارتكب بحقّ الدكتور داهش ، ذاك اليوم سيكون ولادة حقيقيّة جديدة للبنان ، لأنّه في ذاك اليوم يكون قد انتصر الحقّ والقانون – حمى الجميع مهما اختلفت أراؤهم – على التعصّب الطائفيّ الأعمى وما يرتبط به من عصبيّات حزبيّة ظلاميّة . في ذلك اليوم تتكسّر وتتحطّم الروح الرجعيّة التي تولّد عنها اضطهاد الدكتور داهش ، وتولّدت عنها محنة لبنان في حربه المدمّرة الدامية .
وبدون تحطيم هذه الروح الكامنة وراء جميع مشاكل لبنان وأمراضه في كافّة النواحي ، فمن العبث الخلاص ، أو التقدّم نحو مستقبل حضاريّ بالفعل .
هل هذا سيحصل ؟ ” انّنا ننتظر …”
الأديب مسّوح ودفاعه عن داهش
يتابع المحامي خليل زعتر نظرته القانونيّة في مسألة اضطهاد داهش معتبرا أنّ هذه القضيّة ليست قضيّة فرد ، بل هي في جوحرها قضيّة الحريّة والديمقراطيّة والدستور في لبنان ، خصوصا وأنّ السلطات آنذاك استغلّت القانون في سبيل الفساد والرشاوي وتزوير الانتخابات في 25 أيّار 1947 . انّ عهد بشاره الخوري هو العهد الذي ارتكب جريمة اغتيال الزعيم أنطوان سعاده عبر المحاكمة الصّوريّة ، المهزلة – المأساة عام 1949 .
لم تكن الجريمة الرهيبة التي اقترفت بحقّ الدكتور داهش جريمة آنيّة ، بل كانت جريمة مستمرّة امتدّت فصولها المتّصلة الحلقات على مدى عشر سنوات ( 1942 – 1952 ) ، وتألّفت من مؤامرة جرميّة ، ومن أفعال جرميّة تمّت مساهمة فيها وتنفيذا لها .وما تزال ذيولها الوخيمة المروّعة وانعكاساتها السلبيّة على الدكتور داهش وعلى حياة لبنان والرأي العامّ فيه تتفاعل حتّى اليوم . ولم تكن هذه الجريمة عاديّة اقترفها فرد أو عدّة أفراد عاديّين بحقّ فرد أو عدّة أفراد أيضا ، بل كانت جريمة غير عاديّة ، اقترفها رأس السّلطة التنفيذيّة الممثّلة برئيس الجمهوريّة بشاره الخوري .
ولم تتمّ هذه الجريمة بوسائل اعتياديّة ، بل كانت اساءة لاستعمال السلطة ، أو بالأحرى السلطات – عبر الحنث بالأقسام الدستوريّة والقانونيّة ، وتهشيم الدستور ودوس القوانين ، ومخالفة أبسط مبادىء حقوق الانسان والمواطن ، فتحوّلت السلطات بيد المؤتمنين عليها الى وسائل لخرق مباشر وصريح لموادّ الدستور والقوانين
التي تحمي الانسان والمواطن وحريّاته الأساسيّة . وهذا يشكّل خيانة كبرى تؤدّي في البلدان الديمقراطيّة الراقية الى اسقاط الرؤساء والاطاحة بالحكومات ، ومحاكمة المسؤولين ، والاّ ثار الشعب ثورة عارمة وجرف في سخطه المتقاعسين عن محاسبتهم على حدّ سواء .
ولم يقتصر الاشتراك في هذه القضيّة على متسلّمي زمام السّلطات العامّة من الشخصيّات الرسميّة ومن انقاد لهم من الموظّفين والقضاة ورجال الأمن ، ولم تكن الصحافةاللبنانيّة ، في هذه القضيّة ، أمينة على رسالتها التاريخيّة بانارة الرأي العامّ ، ومراقبة السّلطات ومتسلّمي زمامها ، وكشف تجاوزاتها ، وانتقادها ، بل على العكس من ذلك ، فانّ وسائل الاعلام اشتركت هي أيضا في هذه الجريمة ، ولم تتطوّع صحيفة واحدة لشجبها . وقد أكّد الدكتور داهش في مقدّمة كتابه ” مختارات ” أنّ جميع الصّحف من يوميّة وأسبوعيّة وشهريّة راحت تهاجمه مهاجمة شعواء ، وتحاول النيل منه بوسائلها المقيتة . كما أكّد :” وبأسف عظيم …لم يبرز الى الميدان – في لبنان –رجل واحد يدافع عن الحقّ الهضيم ، وينافح عن العدالة تدوسها سنابك الباطل “.
ولا يستطيع أيّ من المسؤولين أو المشتغلين في الحقل العامّ ، أو من قادة الرأي العامّ ، ممّن عاصروا هذه الجريمة النكراء المستمرّة على مدى عشر سنوات متواصلات ، أن يدفع التبعة عنه ، لأنّ الجريمة المقترفة بحقّ الدكتور داهش واضحة ، والاجراءات التي تمّ تنفيذها بواسطتها مخالفة فادحة فاضحة لنصوص دستوريّة وقانونيّة صريحة ولأبسط مبادىء القانون والحقوق والحريّات الأساسيّة التي اعترفت بها حتّى الشعوب الهمجيّة منذ أقدم العصور . هذا من جهة ؛ ومن جهة ثانية ، فانّ الدكتور داهش نفسه أذاع ونشر وقائع ودقائق هذه القضيّة بواسطة 66 كتابا أسود و165 منشورا أسود وزّعت مجّانا على الجمهور وعلى المسؤولين والصحافيّين والكتّاب، والمعتمدين الدبلوماسيّين في لبنان ، والسفارات والقنصليّات اللبنانيّة في الخارج ، وعلى المنظّمات الدوليّة والاقليميّة ، كمنظّمة الأمم المتّحدة والجامعة العربيّة ، ورؤساء الدول والأمراء والملوك .
وعليه ، فقضيّة الدكتور داهش لم تكن فرد وحسب ، بل كانت في حقيقتها الجوهريّة قضيّة الحريّة المقدّسة في الفكر والاعتقاد والتعبير ، قضيّة الديمقراطيّة والدستور والقانون في لبنان .
قضيّة كلّ فرد
عندما تخون أعلى سلطة في البلاد أمانة المحافظة على الدستور والقوانين وحقوق المواطنين وحرّيّاتهم ، وتستغلّ سلطتها ، وتسيء استعمالها ، وتسخّرها لمآربها وأغراضها الشخصيّة ، وترتكب بواستطها الجرائم ، عند ذاك من العبث القول انّ القضيّة هي قضيّة فرد معتدى عليه ، بل انّها تصبح ، وبالضرورة الحتميّة ، قضيّ كلّ فرد من أفراد المجتمع ، وخاصّة قضيّة متسلّمي زمام السّلطات والصحافة وقادة الرأي العام فيه .
ولأنّ القضيّة هي قضيّة اضطهاد حرّيّة الفكر والعقيدة ، فانّ الجريمة لا تقع فقط على الفرد المضطهد داهش ، بل انّها تطال أيضا ، ومن هذه الزاوية ، المجتمع بأسره الذي حرمته الجريمة من حقّ البحث المجرّد عن الحقيقة ، ودراسة ما يدعوا اليه هذا الفرد المضطهد ، كما انّ الجريمة تطال الأجيال القادمة أيضا . وقد أشار الى ذلك الفيلسوف الانكليزيّ جون ستيوارت ميل في كتابه الرائع ” الحرّيّة ” ( ترجمة طه باشا السباعي ) حيث كتب :
” …انّ المضرّة الناشئة عن اخماد الرأي لا تقتصر على صاحبه ، بل تتعدّاه الى جميع الناس حاضرهم وقادمهم . وما هي في الحقيقة الاّ سلب النوع البشريّ برمّته وحرمان الانسانيّة بأسرها من شيء فائدته لعائبيه ورافضيه أوفر منها لمؤيّديه وقابليه . ذلك انّ الرأي ان كان صوابا ، فقد حرم الناس فرصة نفيسة يستبدلون فيها الحقّ بالباطل ، ويبيعون الضلالة بالهدى . وان كان خطأ ، فقد حرموا كذلك فرصة لا تقلّ عن السابقة نفاسة وفائدة ، وهي فرصة الازدياد من التمكّن في الحقّ والرسوخ في العلم على أثر مصادمة الحقّ بالباطل ، ومقارنة الخطإ بالصواب .” لقد تفرّد الصحافيّ المهجريّ النبيل جبران مسّوح ، صاحب جريدة ” المختصر ” الصادرة في بونس أيرس بالأرجنتين ، بادراك أهميّة قضيّة الدكتور داهش وخطورتها ونتائجها وذيولها الوخيمة ، ليس فقط على تاريخ لبنان ، بل أيضا على مستقبل الحرّيّة في الشرق كلّه . وقبل أن يبدأ حملته الصحافيّة بنشر أنباء القضيّة المروّعة في ” سلسلة مقالات ناريّة “، بعث برسالتين تاريخيّتين : الأولى بتاريخ 2 أيلول ( سبتمبر ) 1946 الى رئيس الجمهوريّة بشاره الخوري ، والثانية بتاريخ 10 أيلول ( سبتمير) الى رئيس مجلس الوزراء رياض الصلح . وقد جاء في مطلع رسالته الى بشاره الخوري ما يلي :
معالي الرئيس المكرّم ،
وصلتني في هذا الاسبوع رزمة فيها أوراق ومنشورات ووثائق تتعلّق بقضيّة الدكتور داهش . وكنت أنتظر مثل هذه المعلومات من مدّة طويلة لأصل الى أعماق هذه المسألة التي هي أهمّ حادث جرى في الشرق في هذا الجيل . ومن رأيي أن تتناوله أقلام الكتّاب بشيء من الصراحة والغيرة على الحقّ ليكون خطوة الى الأمام في كلّ الأقطار العربيّة . أمّا اذا لم يقم المفكّرون بواجبهم نحوه ، فهو بدون شكّ خطوة الى الوراء . ومعلوم أنّ كلّ خطوة من هذا النوع – سواء كانت الى الأمام أم الى الوراء – تجرّ وراءها خطوات من جنسها .
أمّا الرسالة الثانية التي أرسلها الأستاذ مسّوح الى رئيس مجلس الوزراء رياض الصلح فقد جاء فيها :
سعادة رياض بك الصلح الأفخم ،
وصلت إليّ في المدّة الأخيرة منشورات ووثائق تقع في 792 صفحة تتعلّق بحادث نفي الدكتور داهش . والذي يطالع هذه الأوراق جميعها يشعر أنّ هناك جرما لا تستطيع قوّة أن تغطّيه .
وطبيعيّ أن هذا الحادث كان صدمة هائلة لما كنّا نقيمه من الآمال في مستقبل أوطاننا بعد أن نالت حرّيّتها واستقلالها . والأوساط الأدبيّة هنا اهتمّت بالأمر . وسوف نصدر كتابا عن المسألة نشرح فيه الحادث كما هو ، ونبيّن الخطر الذي فيه على روح العدالة وحرّيّة الكلام واحترام العقيدة ، وأنّه قد يكون خطوة الى الوراء لكلّ الاقطار العربيّة ، لأنّ الفساد شديد العدوى اذا لم تؤخذ ضدّه الاحتياطات ، بينما يمكن أن يكون خطوة الى الأمام اذا روعي الحقّ فيه ، وأعيدت الى داهش حرّيّته ، وأخذ الحقّ مجراه في الاقتصاص من المجرمين .
في اعتقادي أنّ هذه المسألة هي أعظم حادث جرى من هذا النوع في الشرق كلّه في هذا الجيل . ويجب أن نضع لها تاريخا صادقا ليعرف الآتون بعدنا كيف يجب أن تكون الحكومات ، وما هي نتيجة مثل هذه الجريمة على تاريخ البلاد كلّها وعلى سمعتها بين بقيّة الشعوب .
اغتيال الزعيم أنطون سعاده
انّ السنوات أثبتت صحّة كلمات الأستاذ جبران مسّوح الملهمة هذه وصوابيّتها . فجريمة اضطهاد الدكتور داهش بدأها بشاره الخوري والمشتركون الرئيسيّون معه قبل وصوله الى سدّة الرئاسة الأولى ، واستأنفها بعيد انتخابه مباشرة مثلما جرى عرضه في الكتاب. ولو كان في لبنان من وقف منذ البداية في قضيّة الدكتور داهش الى جانب الدستور والقانون والحقّ والعدالة لما كان لبنان عانى وكابد سنوات حكم بشاره الخوري السوداء الملأى بالفضائح والمفاسد والرشاوى والجرائم واستغلال المناصب ونهب أموال الأمّة وسرقة لقمة عيش الفقراء والكادحين ، ولربّما كان – وعلى سبيل المثال- انتهى عن تزوير انتخابات 25 أيّار 1947 الشهيرة ، وعن ارتكاب جريمة قتل الزعيم أنطون سعاده بواسطة المحاكمة الصّوريّة ، المهزلة – المأساة ، سنة 1949 .
انّ قوى التعصّب الطائفيّ الأعمى المتحالفة مع الفئات الاقطاعيّة الفاسدة الحاكمة التي أرست قواعد الدولة – المزرعة هي المسؤولة عن اضطهاد الدكتور داهش لأنّ نهجه الأبيّ الحرّ ومبادئه الاصلاحيّة المنفتحة هي النقيض لها جميعها . ونتيجة لانقياد المسؤولين وقادة الرأي لبشاره الخوري ، فانّ قوى التعصّب وطرق الفساد ترسّخت وتجذّرت في تربة المؤسّسات والمجتمع في ذلك العهد الاستقلاليّ الأوّل الذي كان يجب أن يكون مثالا وقدوة عليه ترسو لأسس الاصلاح ، وعليه تبنى تطلّعات الأجيال ومستقبلها . وما الحرب الأهليّة اللبنانيّة المدمّرة التي ذرّ قرنها سنة 1975 الاّ ثمرة شجرة التعصّب والفساد والاجرام التي ترعرت جذورها المقيتة في العهد الاستقلاليّ الأوّل .
أجل ، انّ القوى نفسها ، والروحيّة الاجراميّة المتعصّبة الكريهة ذاتها التي قامت بالمجازر الطّائفيّة البغيضة أثناء الحرب الأهليّة ، والتي ستبقى وصمة عار أبديّة عليها ، هي هي القوى والروحيّة نفسها المسؤولة عن اضطهاد الدكتور داهش . فحبّذا لو تنبّه المسؤولون وقادة الرأي ، آنذاك ، لخطورة ما كان يقترف بحقّ الدكتور داهش ، ولنتائجه على تاريخ البلاد .حبّذا لو حاربوا روح التعصّب الأعمى ، والفساد ، والعبث بالقوانين ، وبحقوق العباد في قضيّة الدكتور داهش ، اذا لكانوا قضوا عليها وهي في بدايتها ومهدها ، ولكان مسار تاريخ لبنان تغيّير حتما ، ولما كانت الحرب الأهليّة الدامية المدمّرة لتقع فيه .
ومثلما حذّر السيّد المسيح – له المجد – الشعب اليهوديّ من وخيم عواقب اضطهاده بتدمير أورشليم والهيكل فيها وتشتّتهم ، هكذا أيضا حذّر الدكتور داهش بشاره الخوري والمسؤولين عن الجريمة من العاقاب الالهيّ الذي سيطالهم هم وذراريّهم ، كما حذّر الرأي العامّ اللبنانيّ والعالميّ من كارثة دامية كبرى تصيب لبنان ، وتتجاوز حدوده ، اذا لم تحلّ قضيّة جريمة اضطهاده حلاّ عادلا .
ففي رسالة بعثت بها السيّدة ماري حدّاد الى المستشرق الانكليزيّ دانيال أوليفر ، مدير مدرسة رأس المتن ، في شباط 1946 ، ونشرتها في الكتاب الأسود ” ميشال شيحا المغرور ” سنة 1946 ، صفحة 26 وما يليها ، كتبت ماري حدّاد ما يلي ( صفحة 28 ) :
” ….وكن على ثقة ، أيّها العزيز ، بأنّنا سنطالب بها ( أي بحقوقنا ) حتّى نحصل عليها كاملة غير منقوصة . وأنت تعلم بعد الاختبار كيف تتمّ نبوءات الدكتور داهش .وأنا أعرف منذ زمن بعيد أنّ هذه القضيّة ستّتسع حتّى تصبح عالميّة . وانّني عالمة أنّ سيلا من الدماء سيهرق اذا تشبّثوا في جريمتهم بدل من أن يكفّروا عنها .
” وانّني لا أرغب في أن أسرد هنا جميع ما أعرفه . ولكنّي أعلم بأنّ المستقبل مشؤوم ورهيب جدّا عليهم اذا لم يندموا ويكفّروا .
” وقد أنذرتهم بذلك مرارا وتكرارا ، فأبوا أن يصغوا الى نصيحتي . ومن أجل هذا سيتحمّلون نتائج أعمالهم .”
نبوءة خراب لبنان
وفي عدد 4 كانون الثاني سنة 1948 من جريدة ” الحياة ” البيروتيّة نشر الشاعر حليم دمّوس نبوءة للدكتور داهش مفادها انّ الدمار سيعمّ لبنان من أقصاه الى أقصاه اذا لم تحلّ قضيّة الدكتور داهش حلاّ عادلا .
وفي شهر تشرين الأوّل من سنة 1948 ، أرسل الدكتور داهش الى الجمعيّة العامّة للامم المتّحدة المنعقدة في قصر ” شايو ” في باريس عريضة طويلة باللغة الفرنسيّة ، وتحت توقيع السيّدة ماري حدّاد الظاهريّ نظرا لظروفه الخاصّة آنذاك ، وفيها شرح وقائع الجريمة بحقّه وبحقّ الداهشيّين . وتجاوزها الى انتهاكات حقوق الانسان وفضائح عهد بشاره الخوري . وطلب من الامم المتّحدة ، بصفتها محكمة عالميّة عليا ، التدخّل لاحقاق الحقّ في قضيّته ، وضمّن نداءه التحذير الآتي :
” انّ الداهشيّين يطالبون باعادة جنسيّة الدكتور داهش اليه . وهم اذ يقومون بذلك بواجب الزاميّ ، يلجأون الى محكمتكم العليا ، ويحضّونها على دراسة هذه القضيّة التي تتجاوز حدود لبنان بدقّة . وبذلك تكون محكمتكم قد قامت بعمل من أعمال العدالة والانسانيّة ، لأنّها تكون قد منعت هذا النزاع من التطوّر أكثر .وانّني أؤكّد لكم أنّ هذا النزاع يهدّد ، عمّا قريب ، بصبغ لبنان بالدماء مثلما جرى في فلسطين .كلّ ذك سيتمّ اذا لم تؤدّي هذه العريضة الاتّهاميّة الى أيّة نتيجة .” وفي شهر تشرين الثاني من السنة نفسها 1948 ، أرسل الدكتور داهش الى لجنة الامم المتّحدة للشؤون الاجتماعيّة والانسانيّة والثقافيّة ، المولّجة بصياغة الشّرعة العالميّة لحقوق الانسان ، رسالة أخرى باللغة الفرنسيّة أيضا ، وتحت توقيع السيّدة ماري حدّاد . وقد ضمّن هذه الرسالة التحذير ذاته المذكور آنفا والذي تضمّنته عريضته الى الجمعيّة العامّة للامم المتّحدة في شهر تشرين الأوّل 1948 .
وممّا لا شكّ فيه أنّه لم يصغي اللبنانيّون ، ولا العالم الممثّل في الامم المتّحدة ، الى هذه التحذيرات . كما انّه لم تجر أيّة محاولات لرفع الظلم عن الدكتور داهش وحلّ قضيّته حلا ّ عادلا .وفضلا عن ذلك ، فانّ موقف القوى المتعصّبة في لبنان من الداهشيّة لم يتغيّر ، والنيّات الخبيثة والأفكار السوداء تظهر بين الحين والحين بأفعال وأقوال يسجّلها التاريخ عليها وعلى من يأتونها في سجلّ العار الأبديّ. ومن كلّ ذلك يبدوا أنّ القوم لم يتّعظوا ، ولم يتوبوا . وكيف يتّعظون ويتوبون وأعمالهم المتجليّة في هذه الحرب اللبنانيّة القذرة تشهد عليهم أنّهم مجرمون، بل شياطين متجسّدون !
أجل . انّ الحرب الأهليّة اللبنانيّة هي غضب الهيّ . انّما هذا الغضب الالهيّ لم يكن افتراء من العناية الالهيّة ، بل انبثق من النفوس التي ضلّت سبيل الرشاد ، ومسخت التعاليم السماويّة في الأديان المنزلة ، وسخّرتها لمآربها للوصول الى المال والجاه والسلطان الدنيويّ الكاذب الزائل .
حتّى الكتّاب والمعلّقون والصحافيّون الأكثر عقلانيّة لم يروا بدّا من أن يعلنوا في كتاباتهم ، أثناء استمرار الحرب المدمّرة وفشل جميع الحلول في وقفها ، انّ هناك لعنة الهيّة . واذا كانت الشعوب شرقا وغربا تعيد النظر بتاريخها ، وتعترف بأخطائها ، لتستفيد منها في تقويمها وفي عدم معاودتها ، فانّه على اللبنانيّين أيضا أن يعيدوا النظر في تاريخهم ، وفي هذه القضيّة بنوع خاصّ ، فيدركوا انّ خلاص وطنهم من محنته ، وتأمين مستقبلهم واستقرارهم فيه ، يتمّ عندما يرجع الجميع الى القيم الروحيّة والانسانيّة السامية ، فيقلعون عن الشرور والمظالم ، وعن العصبيّة المذهبيّة البغيضة ، ويقنعون بأخوّتهم بعضهم لبعض ، محترمين حقّ كلّ فرد منهم في الفكر والعقيدة وسواها من الحقوق والحرّيّات ، نابذين الانقياد الأعمى لتقاليد رجعيّة بالية ، ومنفتحين على الأفكار الاصلاحيّة الجديدة بشجاعة وثقة بالنفس وبالغد .
ويوما بعد يوم ، سيدرك اللبنانيّون أنّه كما كان الحكم الظالم على سقراط العظيم جريمة عصره ، وكذلك محاكمة السيّد المسيح والحكم عليه ، فانّ جريمة اضطهاد الدكتور داهش انّما هي : ” جريمة القرن العشرين .”
الدكتور داهش