Logo

القلم يبكي والحبر يستغيث

من ليس له ماضٍ، ليس له حاضر

الدكتور داهش والداهشيَّة

Archive By Dr. Mohamad Younis

قصصٌ غريبة وأساطيرٌ عجيبة

الكوكب فومالزاب -

      واقترب الكوكب فومالزاب من الكرة الأرضية التي يقطنها البشر، وأصبح على مسافة عام من النور(1) منها. وهذا الكوكب بلغ من الحضارة الشأو الأعلى.وهو يقترب من الأرض كل مليار عام.ويمكث بمركزه الجديد عاماً كاملاً ثم يعود إلى مركزه السابق.

      وقد أمر إمبراطور الكوكب أن تجهز السفن الكونية الثلاث لتذهب إلى الأرض. فالكوكب عندما تنتهي مدة اقترابه من كوكب الأرض ويعود إلى مركزه الكونيّ،تحتاج المركبة التي تسير بسرعة النور لتصل إليه ملياراً ونصف مليار عام. وفي كل مليارين من الأعوام يعود فيقترب من كوكب الأرض فيصبح على بعد عام من النور عنه.

      وجهزت المراكب الثلاث. فالأولى تحمل على متنها 200 رجل. والمركبة الثانية وضعت بداخلها الآلات الإلكترونية التي يمكن أن يتصل بواسطتها رجال السفينة بكوكبهم الحبيب،كما يستطيعون أن يشاهدوا بعضهم بعضاً بأثناء المخابرة الكونية.كما وضعت بها آلات مُعقدة تُستَخدم لدكّ الجبال وترديمها،إذ لزم الأمر، ولحفرِ أعماقٍ سحيقة. وغيرها من الآلات الصغيرة بحجمها الكبير بفعلها، فهي تستطيع أن ترفع أثقالاً هائلة بينما هي بعيدة عن هذه الأثقال، إذ تكفي لمسة على الجهاز العجيب ليتمُّ رفع تلك الأثقال لإرتفاعات شاهقة.

      أما المركبة الثالثة فقد وضعت فيها الأجهزة التي تصنع بها الأطعمة بمختلف أنواعها. فهذه الآلات العلمية الدقيقة بإمكانها أن تحيل ما يوضع في داخل الأوعية من قشورٍ ونفاياتٍ لطعامٍ لذيذٍ بدقيقةٍ واحدة. إذ تتحوَّل النفايات إلى كتلةٍ كالعجين يكيّفها الجهاز لأرغفة جاهزة للطعام تتَّخذ طعماً لذيذاً للغاية. كما يستطيع هذا الجهاز الإلكتروني أن ينوّع مذاق الأطعمة حسبما يُراد لها أن تكون. وقد ثُبِّت بهذه المركبة أيضاً جهاز يجعل الطقس حاراً أو بارداً،كما يستطاع أن يبقي الطقس صحواً أو ممطراً. وكذلك وُضع فيها جهاز كعربة تستوعب ستة رجال كوكبيين، وتسير بهم بسرعة على الأرض أو الماء أو بالفضاء.

      وجهزت المركبات الفضائيَّة الثلاث، وأديرت مُحركاتها دون أن يصدر عنها صوت وكلٌّ منها بطوابق ستة.

      وقد اجتمع عليَّة القوم والمسؤولين من رجال الحكم ليودعوا الراحلين. وانطلقت المركبات بسرعة هائلة وإذا بها تغيب عن الأنظار.

      وكلّ مركبة كونيَّة يقودها أربعة قباطنة، إذ هي مستطيلة كالقلم، لكن داخلها لولبيّ. فيجلس القائد وهو مُمسك بعصا القيادة، وكذلك بنهاية المركبة قائد آخر، وعلى جانبيها الأيمن والأيسر القائدان الآخران. وأمام كلّ منهم نافذة عليها مادَّة شفَّافة لا يستطيع الرصاص أو ما هو أشدّ مفعولاً منه أن يخترقها، ومنه يشاهد القادة طريقهم.

      إذاً المركبة يقودها أربعة رجال، ولكن بانتظام. فالقائد الأساسي هو احدهم. وإذا لزم الأمر أن تتجه المركبة إلى الناحية اليمنى، فمن الصعوبة أن يتمَّ اتجاهها وهي تسير بسرعة النور، فبمحاولتها للإتجاه إلى الناحية اليمنى تكون قد قطعت مئات الآلاف من الأميال وأصبحت بعيدة عن هدفها. فوالحالة هذه، يُضاء نورٌ بنفسجيٌّ أمام القائد الذي يجلس على الميمنة، فيقودها فوراً لاتجاهها الصحيح. وإذا كان الهدف الناحية اليسرى، أُضيء النور البنفسجي أمام الجالس من تلك الناحية فيقودها فوراً، بينما تُطفأ محركات الرأس الأمامي والخلفي والجانب الأيمن. وإذا أريد أن تسير المركبة باتجاه معاكس لتبلغ هدفها، تعطى إشارة الضوء البنفسجي للقائد الجالس هناك فيقودها لهدفها.

      كان الرجال المئتان يصغون لموسيقى كوكبهم المشنِّفة للآذان وهم يشاهدون البرنامج أيضاً.بينما سفينتهم تسير بسرعتها الخارقة التي تعجز عنها اختراعات الأرض.

      الرجال أقزام. فارتفاع الطويل منهم 35 سنتيميتراً. لكن لديهم طاقة مُذهلة.فالقزم منهم يستطيع أن يرفع أثقالاً يعجز عنها عشرة رجال من رجال الأرض!

      أما حديثهم فيتمُّ بواسطة النفخ. فعندما يتحدثون ينفخون حيناً بأفواههم وحيناً بأنوفهم، وهذه النفخات تؤلف لغتهم الكوكبية. ومنها الصفير المتنوع فهو تتمَّة اللغة الفومالزابية.

      أما عيونهم فحجمها كرأس المسمار، وسرعتهم بالركض والقفز خارقة، وآذانهم مستطيلة، وبقدرِ استطالة الأذن يكون ذكاء المرء أو عدمه. فمن تستطيل أذنه حتى تبلغ الأرض-رجلاً كان أم امرأة-فذكاؤه عجيب، وهو محترمٌ للغاية.

      امرأة واحدة فقط رافقتهم، وهي زوجة رئيس الحملة، وقامتها 30 سم. وهي تعتبر من المُلسنات، فحديثها النفخي لا يجارى، وهي مُثقَّفة رغم صغر سنها، فهي في عامها الألفي، أي في ربيع عمرها وزهرة صباها فسكان فومالزاب يعمّر كل منهم 6000 عام. ومديدو الحياة-وهم قلَّة-تمتدُّ أعمارهم حتى السبعة آآلاف من الأعوام.

      والمرأة بطبيعتها تحب الزينة. لهذا كانت زوجة قائد الحملة تنفث بفمها من جهاز صغير بطول الإصبع، فتخرج منه مادَّة تتَّخذ شكل دائرة تستطيع أن تشاهد فيها وجهها. ثم تذوب هذه الدائرة في الفضاء وتتلاشى المرآة.

      أما زوجها فعمره 2000 عام وهو أقلّ ثقافة منها. وقد حاول منعها من مرافقته، ولكنه لم يستطع أن يفرض إرادته عليها، فهو متأكد أن الرجال يستميتون في سبيلها، وكلٌّ منهم يتمنَّى أن تكون زوجة له إذا انفصل عنها، والسعيد منهم من تختاره. ولهذا رضخ لرغبتها، فرافقت الحملة. وكان جميع من في المركبة ينفذون رغباتها فوراً والسرور يغمرهم إذ أسرتهم بأنوثتها البادية للعيان.

      عاماً كاملاً أمضته السفن وهي تقطع محيطات الفضاء وأوقيانوساته بسرعة النور. وكانوا بأجهزتهم الدقيقة المذهلة يشاهدون الأرض وما يجري فيها من خيرٍ وشر.

      كما كانت أجهزتهم العلمية الخارقة تتيح لهم أن يأخذوا نسخاً عن الصحف اليومية والأسبوعية والكتب التي تصدرها المطابع. وكان جهاز الكتروني يترجمها للغة كوكبهم فومالزاب. فيطالعون ما خطَّته أقلام أهل الأرض، وهو لا يضارع آدابهم الرفيعة وثقافتهم العالية.

      وكانت سافاليا زوجة رئيس الحملة تقضي أكثر أوقاتها في الحديقة حيث تجلس بين ورود كوكب فومالزاب العجيبة الأشكال تقطف منها باقة عطرة، وتشبك وردة بشعرها لتشبع غرورها النسائي. وكانت الحديقة تضمُّ عدداً كبيراً من أشجار الكوكب الغريبة المنظر والعطرية الرائحة. وكانت سافاليا تصغي لتغريد طيور زرقاء وكحلية وإسمانجونية وقوس قزحية، وكان صدحها وكأنه موسيقى تعزفها السماء. وفي أحد الأيام استخفَّها الطرب وهي تجلس بين الأزهار بحديقة المركبة الكونية،كانت بلابل الكوكب ذات الألوان المتعدِّدة تغرِّد أغاريد البهجة وهي تتنقل على الأغصان الملوَّنة أيضاً، فأنشدت سافاليا النشيد التالي:

أنا سافاليا الجميلة

تحملني المركبة ياتانيا منطلقةً بي بسرعة النور

وانا أجلس في جنَّةٍ مُصغَّرة تمثل جنَّات فومالزاب كوكبي المفدَّى،

تحيط بي مجموعة من ورود وأزهار جمالها عجيب غريب.

وبلابل كوكبي ينشدنني أغاريدهنّ العذبة،

تشاركهنّ طيور بلادي التي اشتقت إلى ربوعها المُذهلة الفتنة.

وأنا اودُّ ان أبلغ كوكب الأرض،

لأشاهد عالماً غير عالمي العظيم،

جائبة رحابه طاوية سهوله، مخترقة جباله،هابطة أوديته.

ثم يحدوني الشوق للعودة إلى مدينة أحلامي فومالزاب

فأطير إليها بخيالي، ثم تحلّق بي ياتانيا،

عائدة بي إلى وطني الحبيب،

حيث ولدت وحيث سأموت وأدفن بربوعه المقدَّسة.

      كان الإتفاق قد تمَّ على المكان الذي سيهبطون فيه، وقد اقتربوا منه وكانوا على ارتفاع عشرين مليوناً من الأميال فوقه. وإذ ذاك أوقف القائد محركات السفينة وكذلك السفينتين الأخريين، وأشعلوا محركات أخرى سرعتها عادية، وابتدأوا بالهبوط.أخيراً، استقرُّوا في سهلٍ ممتد المسافات.

      وصادف دقيقة هبوطهم مرور قافلة من الجمال، ففغر رجال القافلة أفواههم عجباً مما شاهدوه، واقتربوا من مكان المركبات، وإذا بهم يتطايرون بالفضاء.

      وشاهدوا رجالاً قصار القامة ينفخون باستمرار بقوة وعصبية، وفهموا من نفخهم وإشاراتهم اليدوية أنهم يطلبون منهم الابتعاد فوراً. فولوا الأدبار، والخوف قد هزهم هزاً.

      وتوقفت المحركات، وضغط قائد المركبة الأم على جهاز داخليّ، وإذا بقبةٍ كالخيمة من المعدن تظلِّل المركبة، وكذلك فعل الفائدان الآخران بمركبتيهما.

       وتجمهر أهل القرية لمشاهدة أعجب ما يمكن أن تشاهده العيون، والدهشة مرسومة على وجوههم. وذهب عدد من رجال السفينة إلى غابة تبعد عن مكان استقرارهم، نصف ساعة. ورافقتهم جماهير من أهل القرية. وقد ارتقى رجال الكوكب الأشجار، وامتشقوا أوراقها وطلبوا بالإشارة من الجمهور أن يفعل فعلهم. فصعدوا الأشجار وجرَّدوا الأغصان من أوراقها، ووضعت الاوراق ضمن اوعية عميقة. ثم سلّط الأقزام عليها أشعة خضراء من آلة صغيرة، فتحوَّلت أوراق الأشجار إلى عجين قُطِّعَ كأرغفة. فأكلوا منها وأطعموا أهل القرية الذين ذُهلوا من هذه الخارقة، كما استطابوا ما أكلوه للغاية.

      أما الماء فكانوا يضعون الوعاء، ويسلطون عليه أشعة صفراء، فيمتلئ بماءٍ صافٍ مذاقه كماء الينابيع الجبلية. وبإمكان هذا الجهاز أن يدع الماء بارداً جداً أو في غاية السخونة.

وكان كل قزم يحمل بيده عصا طولها 31 سم، وثخانتها 20 سم، وبأعلاها فتحة صغيرة وفي أسفلها ثبتت عجلات ككلل الأولاد. وهذه العصيّ المعدنية مجوفة. وقد دخل كل قزم في عصاه، فإذا بهذه العصي تسابق الريح، فهي مراكب عجيبة غريبة، وعادوا بها حيث تقف مركباتهم الفضائية مخلفين أهل القرية والعجب الشديد قد استبدَّ بهم أيَّما استبداد.

      واختار رجال الكوكب فومالزاب سهلاً شاسعاً في تلك القرية. وركزوا آلاتهم الالكترونية، ثم باشروا في الأسبوع الأول من وصولهم إلى كوكب الأرض، بناء هيكل عظيم تخليداً لزيارتهم للأرض. وقد حوَّلوا أكواماً من تلالِ الرمال والحجارة إلى معجونة بواسطة آلاتهم الالكترونية. ثم قطَّعوها بقياساتٍ مختلفة اختاروها ونفَّذوا فكرتهم فجعلوا منها أعمدة ضخمة للغاية، ومنها حجارة مختلفة الأحجام. ورفعوا هذه الأعمدة بآلاتهم العجيبة، فإذا هي مُنتصبة شامخة تناطح السحاب. وثبَّتوا على قمة كل عمود منها تاجاً حجرياً هائل الضخامة والثقل.

    ثم سقفوه بحجارة متداخلة بعضها ببعض، فأصبحت كأنها قطعة واحدة لا انفصام فيها.كما أقاموا سوراً مرتفعاً حول الهيكل العظيم، ووضعوا أعلاه بضعة حجارة هائلة الطول والعرض، وتركوا حجراً ضخماً للغاية من المعجونة التي صيغت من الرمال والحجارة، وأبقوه بمكانه، وهو يعرف الآن بحجر الحامل، إذ لا يزال مُلقى منذ ذلك العهد السحيق. وقد أنهوا بناء الهيكل بخلال شهر. فآلاتهم الإلكترونية تقوم بالعجائب والخوارق.

      كذلك تزوج عدد منهم من بنات الأرض.وبعد رحيلهم ولد لهم بنون وبنات.

      وبعد مضي ستة أشهر على وصولهم صعد الرجال الأقزام إلى مركباتهم الفضائية الكونية واجتمع أهل القرية بأكملها لوداعهم وكانوا قد تعلموا طريقة حديثهم النفخي لكثرة الاستمرار.كما تعلم رجال الكوكب بضع كلمات أرضيَّة.

      واشتعلت محركات المركبات الكونية، وبلمحةٍ خاطفة اعتلت الفضاء، ولسرعتها الهائلة غابت عن الأنظار.

      ذهبوا عائدين إلى كوكبهم الموغل في الأبعاد اللانهائيَّة مُخلفين وراءهم قلعة بعلبك الشهيرة شامخة تتحدَّى الزمان، وهي كشاهد على زيارتهم لكوكبنا الأرضي.

نيويورك الساعة 2 و 25 دقيقة

بعد ظهر 29/3/1977

 

 

إقرأ أكثر

مُختارات

سلام -

سلامٌ على ذلك العالم الروحيّ المُضيء الخالد!

سلامٌ على تلك الأنوار الدائمة السطوع!

سلامٌ على ذلك المجد الإلهيّ الفائق البهاء!

سلامٌ على تلك الديار التي احنُّ إليها أبداً!

سلامٌ على ذلك الملأ السرمديّ الطاهر!

سلامٌ على قاطنيه الأبرار، المعاينين  انواره الباهرة السنيّة!

سلامٌ على العالم المجهول الذي لا خباء له و لا افول!

سلامٌ على تلك الأماكن الأرجة العبير!

سلامٌ على من مكَّنتهم قدسيتهم

من ولوج ذلك المكان الحصين الامين!

سلامٌ على من اضُّطهدوا و عذِّبوا في سبيل عقيدتهم الثابتة الحقَّة!

سلامٌ على من ذاقوا الهوان، و شربوا كأسه المريرة حتى ثمالتها!

سلامٌ على أرواحهم السعيدة من الأزلِ إلى الأبد!

سلامٌ أنثره على هذا الطرس

من قلبٍ كسيرِ خافقٍ، حزينٍ مكلومٍ ممزق!

سلامٌ على عالمٍ غير عالمنا الماديِّ المرذول!

سلامٌ عبقٌ فوَّاحٌ عطري، لا ماديٌّ موبوء قذر!

سلامٌ أبديّ إلى أحكامه العادلة النافذة!

سلامٌ من عالمي الحقير هذا،

أرسله إلى ذلك العالم العظيم السامي!

سلامٌ من مسكينٍ ملأ الكون بآثامه،

وهو يضرع إلى الله أن يغفرَ له آثامه تلك، و أن يسعَه بمراحمِه التي شملت الكائنات و طغت عليها.

نعم، سلامٌ، سلامٌ، سلام!

باريس، في 23 نيسان 1935

 

إقرأ أكثر

أدب

“الأخوّة والوحدة الإنسانية” -

 

نداء الرسل والمصلحين عبر الأزمان

 

“فقال الربّ لقايين: «أين هابيل أخوك؟» فقال: «لا أعلم! أحارس أنا لأخي؟» فقال: «ماذا فعلت؟ صوت دم أخيك صارخ اليّ من الارض.) سفر التكوين، اصحاح 4: 9-10(

 

  حوارٌ بسيط يختصر مأساة الإنسان منذ بدء الوجود وحتى هذه اللحظات التي نعيشها. الله يسائل الإنسان عن حال أخيه، والإنسان يتنصّل ويتنكّر لمسؤوليته المقدسة، مفضّلاً ذاته على الآخرين، ساعياً وراء مصالحه أوّلاً ولو كان الثمن عذاب وقهر وموت أخيه الإنسان.

 

ويتتابع نداء الله بعد الطوفان العظيم: “ومن يد الإنسان أطلب نفس الإنسان، من يد الإنسان أخيه.” ) سفر التكوين، اصحاح 9: 5 (معلناً بجهوريّة الحق الإلهي أن الإنسان أخ الإنسان، وأنّ العائلة الإنسانية واحدة جمعها الله في محبته وفي وجدانه وفي ضميره، ناهياً أفرادها عن إيذاء وقتل بعضهم البعض.

 

ثم تأتي الوصايا العشر المقدسة) سفر الخروج، اصحاح 20(، والتي رغم عدم تعدّيها بضعة سطور، جسّدت طلب الله من أبنائه مجدداً: لا تقتلوا بعضكم، لا تسرقوا بعضكم، لا تحسدوا بعضكم، لا تكذبوا على بعضكم، لا تشتهوا ما لغيركم. وصايا لو طبّقها الإنسان منذ فجر الخليقة، لاستحالت الأرض نعيماً مقيماً وافراً بخيراته التي لا تحصى ولا تعدّ، ولكنّ الإنسان طغى وبغى، فتكبّر ثم تجبّر على أخيه الإنسان، قاتلاً، سارقاً، حاسداً، كاذباً، مشتهياً كل ما يملكه غيره، محيلاً فردوس الأرض جحيماً مخيفاً برهبوت ظلامه وعذاباته. 

 

وتمرّ السنون بطيئةً سريعةً، والإنسان على حاله من حب ذاته وتفضيلها على ذات أخيه الإنسان، خالقاً طبقيّةً مقيتةً يعظّم فيها ذاته على حساب الآخرين، حتى ظهر المُصلح المُلهَم بوذا(563 – 483 BCE) زاهداً مستنيراً ومعلّماً مبادئ الحق والأخوّة الإنسانية والمساواة والمحبة هاتفاً بصوتٍ ملهمٍ مقدّس: “لا توقف الكراهية الكراهية، بل يوقفها الحب فقط، هذه هي القاعدة الخالدة”.

 

وأتى سيّد المجد، يسوع المسيح، كلمة الله وروحه، وتغيّرت معه لغة الخطاب النبوي من “لا تقتل” أخاك إلى “أحبّ” أخاك، فكانت تعاليمه المقدّسة نبراس نور داعٍ إلى الاخوّة والمحبّة والتسامح بين الأفراد والشعوب. وعبر تضحياته الجسام، ربط جميع البشر برباطٍ روحي مقدس وجب فيه على الإنسان التضحية من أجل أخيه الإنسان، وأصبح فيه “من لا يجمع معي يفرّق” )إنجيل متى،  12: 30(. وأصبح الأمل الحقيقي في الخلاص والهدف الأسمى “ليكون الجميع واحداً” )انجيل يوحنا، 17: 21(. ولم يكتف المسيح بالدعوة إلى الوحدة الإنسانية بين البشر، بل جعلها وحدةً مع ذاته، عسى من خلال تلك التعاليم يؤمن البشر أخيراً أنهم واحد على اختلاف جنسيّاتهم وأعراقهم ودياناتهم، فتزول عندها الفوارق وتضمحلّ الانقسامات ويعمّ السلام، فيقول: 

 

“لأنّي جعت فأطعمتموني. عطشت فسقيتموني. كنت غريباً فأويتموني. عرياناً فكسوتموني. مريضاً فزرتموني. محبوساً فأتيتم اليّ. فيجيبه الأبرار حينئذٍ: يا رب متى رأيناك جائعاً فأطعمناك او عطشانا فسقيناك؟ ومتى رأيناك غريباً فأويناك او عرياناً فكسوناك؟ ومتى رأيناك مريضاً او محبوساً فأتينا اليك؟ فيجيب الملك: الحق أقول لكم: بما أنكم فعلتموه بأحد اخوتي هؤلاء الاصاغر فبي فعلتم.

 ثم يقول أيضاً للذين عن اليسار: اذهبوا عني يا ملاعين الى النار الابدية المعدة لإبليس وملائكته لأنّي جعت فلم تطعموني. عطشت فلم تسقوني.  كنت غريباً فلم تأووني. عرياناً فلم تكسوني. مريضاً ومحبوساً فلم تزوروني. حينئذٍ يجيبونه هم ايضاً: يا رب متى رأيناك جائعاً، او عطشاناً او غريباً او عرياناً او مريضاً او محبوساً ولم نخدمك؟  فيجيبهم: الحق أقول لكم: بما أنكم لم تفعلوه بأحد هؤلاء الاصاغر فبي لم تفعلوا”.)انجيل متى، 25: 35-45(

 

وأرسل الله رسوله الأمين، النبيّ العربيّ الكريم، محمّداً (صلى الله عليه وسلّم) مبشّراً بتعاليم الحق الإلهي الداعي إلى الوحدة بين المؤمنين وبين جميع البشر، هاتفاً بكلماتٍ خالداتٍ داعياتٍ إلى الأخوّة الحقّة وإلى التحاب: “لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا”; “لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه”، رابطاً بين فعل الإيمان وبين محبة الإنسان لأخيه الانسان بغضّ النظر عن الاختلافات الوهمية، وبلسان كتاب الله المنزل :  ” إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ”. )سورة الحجرات: 10 (

 

ولكن رغم جمال ونقاء هذه الوصايا الالهية والتعاليم السماوية، ورغم بلوغ الإنسان عصر النور والعلم والتطور بأعظم وجوهه، كيف عساه أن يوصَفَ حالُ الأرض بغير هذه الكلمات: القتل وسفك الدماء وسطوة القوي على الضعيف هم الغالبون. انعدمت الإنسانية بين الشعوب، فإذا بالعنف هو اللغة السادة التي يفهمها الحميع، وإذا بالتعصّب الديني والطائفي يطغى على معاني التسامح والتعاطف، فشهد القرن الماضي حربين عالميّتين أودت بحياة الملايين، وما زالت حتى يومنا هذا تمتدّ الصراعات والحروب بإسم الدين تارةً وبإسم الوطنية تارةً أخرى. 

وقد جاهد المهاتما غاندي (1869- 1948) والدكتور مارتن لوثر كينج (1929- 1968) جهاد الابطال والرسل في نشر مبادئ السلام والأخوّة معتمدين مبدأ اللاعنف والمحبة اتجاه حتى ظالميهم ومضطهديهم، راسمين ملحمةً بطولية في التسامح والأخوّة والوحدة الدينية والإنسانية، مبرهنين أن التعامل بين الإنسان وأخيه الإنسان لا يرتكز على لغة الانتقام بل على لغة المحبة، فهي وحدها كفيلةً أن تضع حداً لخلافات البشر ومآسيهم بعد أن يؤمنوا أنهم عائلةً روحيةً واحدة. وغاندي هو القائل: “العمل بمبدأ العين بالعين ينتهي بجعل العالم كله أعمى”.

 

كما هتف مارتن لوثر كينج بأقوالٍ خالدة: “الظلام لا يمكنه أن يبدّد الظلام، الضوء وحده يمكنه ذلك.. والكراهية لا يمكنها أن تنقذ الكراهية، فالحبّ وحده يمكنه ذلك”؛ “المحبّة هي القوّة الوحيدة القادرة على تحويل عدوّ إلى صديق”.

 

وفي عام 1942 , أسّس الدكتور داهش ((1984-1909 العقيدة الداهشية الملهمة داعياً من خلال تعاليمها ومبادئها وبشكلٍ علني وواضحٍ وضوح الشمس في رابعة النهار: الأديان كلّها واحدٌ، والعائلة الإنسانية هي عائلةٌ روحيةٌ واحدة، وجميع البشر، بل جميع الكائنات ما هم إلا روحٌ واحدة في قلب الله؛ فدعا إلى الوحدة الدينية الجوهريّة، شاجباً الطائفية والتعصّب المقيتين، وكل أنواع العنف والإقتتال والحروب بين الإنسان وأخيه الإنسان.

 

 وقد بشّر بحقيقةٍ روحيةٍ حان بزوغ فجرها: كل ما نفعله بالآخرين نفعله بأنفسنا، فالكائنات جميعها مرتبطةٌ إرتباطاً روحياً خالداً، وما نظنّه اختلافات بيننا ما هو إلا وهمٌ وتجربةٌ بين ذاتٍ واحدة ظنّت أنّها ذوات متعدّدة. فالهدف الأساس هو توحّد البشر والكائنات لتعود روحاً واحدة تحيا وتندمج في قلب الله.

فوحدها المحبة والأخوّة والتسامح والترفّع عن رغبة الإنتقام والإنقسام تحرّر الإنسان من عبودية الوجود ووهم الواقع المرير. 

 

وقد عبّر الدكتور داهش عن هذه الأفكار السامية في العديد من كتبه وكتاباته. ويصف حال الإنسان في هذا العصر في قطعة “كلمتي لعام ١٩٨٢”: 

 

” إنَّ الحياة انكفأت رأسًا على عقب، فلم تَعُدِ المحبَّةُ هي السائدة، بل البغضة والتفرقة، وأصبح القتل هو الوسيلة الوحيدة، بها يتعامل الجميع؛ فالقوي يفترس الضعيف بشراسةٍ وعُنفٍ هائلين.

في عصرنا الحالي لا تسمع إلا بالنظم الديمقراطية، والدكتاتورية، والرأسمالية والاشتراكية، وسواها وسواها من المضحكات المبكيات على اختلاف أشكالها وألوانها واتجاهاتها. وقد سلبت من الإنسان روح إنسانيته، بعدما أوقعته في شباكها اللعينة الكاذبة، وأسرته، فإذاه آلةٌ مُسيَّرة غير مخيرة. لقد أصبح خالياً من التعاطف والتَّوادُ والتراحم والشعور الإنساني المتبادل بين الإنسان وأخيه الإنسان” 1.

 

 

 

كما وضع لبّ مبادئه وتعاليمه عن الوحدة الإنسانية والأخوّة العالمية وعن إثم الحرب والبغض والاقتتال بين الشعوب على لسان أبطال كتابه “مذكرات دينار” داعياً إلى بناء عالمٍ واحد يعمّه السلام والمحبة بعيداً عن التفرقة والانقسام:

 

“إِنَّ على سَاسَةِ العالم ، في أربعة أقطار المعمور ، أن يبنوا ( عَالَماً واحداً ) ، إِذا رَغَبُوا فِي أَنْ يَسُودَ السلام العام أرجاء هذهِ الكُرَةِ اللعينة .فالاتفاق العام بينَ زُعَماءِ المَمَالكِ الكُبرى ، ومُلُوكِ الدُّوَلِ القوية ؛ وإجماع الآراء المخلصة ، لا المزيفة ، حول هذا الموضوع البَالِغ في خَطَرِهِ وجَلال قَدْرِهِ وشأنه ؛ وطرح الأطماع جانباً من الجميع ، في سبيل سعادةِ الأسرة الإنسانية ؛ وعَدَمُ التكالب على المادَّةِ بجَشَعِهم الجارف الخطير ؛ وبُنيانهم قانوناً عالميًّا شاملا ، يُدخِلُونَ فيه الدُّولَ الصُّغرى التي تَنقَادُ إلى آرائهم ؛ وتوحيد أهدافهم السامية ومثلهم العليا . هُوَ ما يُؤَدِّي إلى السلام العام” 2.

 

كما ناجى ذلك اليوم السحري المبارَك الذي يحلّ فيه العدل ويعمّ فيه السلام بين الدول والشعوب، فيحقّق عندها البشر ذلك الهدف المنشود الذي من أجله خُلقوا وعبره سيخلصوا.

 

“إنَّ الحرب إِثْمٌ رَهِيبٌ فادِح لا يَغفُرُ اللَّهُ لِمَنِ ارتكب جريمته. 

والسلام العالمي هو حُلْمي الذي أنشده..

فيوم يُحلِّقُ مَلاكُ السَّلام في أجواء هذا الكَوْنِ الشَّاسِع المسافات؛

ويَومَ يَبسط عدالته في ربوع هذا الكَوْنِ الغارق في تعاسته الفائقة؛

 ويَومَ يضَعُ سَاسَةُ العالم ودُولِهِ المتشعّبة الرغبات أيديهم في أيدي بعضهم الآخر،

 ويُطرَحُونَ أطماعهم المخيفة وراءَ ظُهُورهم؛

ويَومَ يُقسِمُونَ على القَنَاعَةِ

التي لَنْ يَسُودَ السَّلامُ دون أن تكون هي السائدة؛

 ويوم يتحقَّقُ هذا الحُلمُ الذي يُراودني في ساعاتي الأخيرة هذه ….

إذ ذاك، تغتبط رُوحي..!

 وأتأكَّدُ أَنَّ حُلُمَ البشرية الضالَّةِ في شعاب أطماعها قد تحقق،

 فَتَسعدُ رُوحي، وتَنتَشِي نَفسي بغبطتها …” 3.

 

وفي حوار أرواح من سقطوا في ساحات الوغى بعد تحرّرهم من عبودية الجسد ونيلِهم نعمة المعرفة الروحية، يوضِح الدكتور داهش حقيقة وهم الوجود ويسقط القناع عن أوهام البشر فيمن يظنوّنهم أعداء بينما هم جميعاً في حقيقتهم عائلةٌ روحية واحدة:

 

 

“إنّنا، مَعْشَرَ الأرواح الذين بتنا في مَلأ عُلوي شفّاف، من كافة الجنسيات التي جَعَلتِ الأطماع الدنيوية منا أعداء الدَّاء، قد اجتمعنا هنا، ونزعنا من أرواحنا أدران الأرض وخباثاتها .

وكم كانتْ دهشتنا، عندما تكشفت لنا الحقيقة، وذعرنا كيف كنا عبيد غاياتنا، ورُوِّعنا بكيفية قبولنا الاعتداء على بعضنا البعض، وكيف كنا أعداء، دون أن يكون هنالك سبب معقول؛ ولكنها الغاياتُ تُعْمي البصائر والأبْصَار!

لقد اجتمعنا هنا، وكوّنا أسرة روحيَّةً واحدة. فأعداء الأمس، الذين كانت تغمر قلوبهم الكراهية، أصبحوا أصدقاء اليوم، تعمرُ أرواحهم المحبَّةُ الحقيقية.

 فالألماني والبريطاني والفرنسي والتركي والبلجيكي واليوغوسلافي والبلغاري والروسي والزنجي والأميركي والاسترالي وغيرهم، من مختلف الجنسيات التي فَرَضَتها غايات الأرض فَرْضاً على الأمم، أَصْبَحَتِ، الآن، تنتمي إلى جنسية روحية واحدة، بعد أن نَبَذَتْ أضاليل الأرض، وسَخافات الحياة.

فهنا لا سائدٌ ولا مَسُود، لأنَّ قانون السماء قد وحّد بين الجميع.” 4

 

 

المراجع

 

(1): )الرحلات الداهشية حول الكرة الأرضية، الرحلة 18  (الدار الداهشية للنشر). نيويورك 1994 , ص. 401(

(2): “مذكرات دينار” للدكتور داهش، الدار الداهشية للنشر، نيويورك 1986، ص. 108

(3): “مذكرات دينار” للدكتور داهش، الدار الداهشية للنشر، نيويورك 1986، ص. 117-118

(4): “مذكرات دينار” للدكتور داهش، الدار الداهشية للنشر، نيويورك 1986، ص. 128

 

إقرأ أكثر
error: Content is protected !!