Logo

القلم يبكي والحبر يستغيث

من ليس له ماضٍ، ليس له حاضر

الدكتور داهش والداهشيَّة

Archive By Sleiman Jomaa

قصصٌ غريبة وأساطيرٌ عجيبة

الكوكب فومالزاب -

      واقترب الكوكب فومالزاب من الكرة الأرضية التي يقطنها البشر، وأصبح على مسافة عام من النور(1) منها. وهذا الكوكب بلغ من الحضارة الشأو الأعلى.وهو يقترب من الأرض كل مليار عام.ويمكث بمركزه الجديد عاماً كاملاً ثم يعود إلى مركزه السابق.

      وقد أمر إمبراطور الكوكب أن تجهز السفن الكونية الثلاث لتذهب إلى الأرض. فالكوكب عندما تنتهي مدة اقترابه من كوكب الأرض ويعود إلى مركزه الكونيّ،تحتاج المركبة التي تسير بسرعة النور لتصل إليه ملياراً ونصف مليار عام. وفي كل مليارين من الأعوام يعود فيقترب من كوكب الأرض فيصبح على بعد عام من النور عنه.

      وجهزت المراكب الثلاث. فالأولى تحمل على متنها 200 رجل. والمركبة الثانية وضعت بداخلها الآلات الإلكترونية التي يمكن أن يتصل بواسطتها رجال السفينة بكوكبهم الحبيب،كما يستطيعون أن يشاهدوا بعضهم بعضاً بأثناء المخابرة الكونية.كما وضعت بها آلات مُعقدة تُستَخدم لدكّ الجبال وترديمها،إذ لزم الأمر، ولحفرِ أعماقٍ سحيقة. وغيرها من الآلات الصغيرة بحجمها الكبير بفعلها، فهي تستطيع أن ترفع أثقالاً هائلة بينما هي بعيدة عن هذه الأثقال، إذ تكفي لمسة على الجهاز العجيب ليتمُّ رفع تلك الأثقال لإرتفاعات شاهقة.

      أما المركبة الثالثة فقد وضعت فيها الأجهزة التي تصنع بها الأطعمة بمختلف أنواعها. فهذه الآلات العلمية الدقيقة بإمكانها أن تحيل ما يوضع في داخل الأوعية من قشورٍ ونفاياتٍ لطعامٍ لذيذٍ بدقيقةٍ واحدة. إذ تتحوَّل النفايات إلى كتلةٍ كالعجين يكيّفها الجهاز لأرغفة جاهزة للطعام تتَّخذ طعماً لذيذاً للغاية. كما يستطيع هذا الجهاز الإلكتروني أن ينوّع مذاق الأطعمة حسبما يُراد لها أن تكون. وقد ثُبِّت بهذه المركبة أيضاً جهاز يجعل الطقس حاراً أو بارداً،كما يستطاع أن يبقي الطقس صحواً أو ممطراً. وكذلك وُضع فيها جهاز كعربة تستوعب ستة رجال كوكبيين، وتسير بهم بسرعة على الأرض أو الماء أو بالفضاء.

      وجهزت المركبات الفضائيَّة الثلاث، وأديرت مُحركاتها دون أن يصدر عنها صوت وكلٌّ منها بطوابق ستة.

      وقد اجتمع عليَّة القوم والمسؤولين من رجال الحكم ليودعوا الراحلين. وانطلقت المركبات بسرعة هائلة وإذا بها تغيب عن الأنظار.

      وكلّ مركبة كونيَّة يقودها أربعة قباطنة، إذ هي مستطيلة كالقلم، لكن داخلها لولبيّ. فيجلس القائد وهو مُمسك بعصا القيادة، وكذلك بنهاية المركبة قائد آخر، وعلى جانبيها الأيمن والأيسر القائدان الآخران. وأمام كلّ منهم نافذة عليها مادَّة شفَّافة لا يستطيع الرصاص أو ما هو أشدّ مفعولاً منه أن يخترقها، ومنه يشاهد القادة طريقهم.

      إذاً المركبة يقودها أربعة رجال، ولكن بانتظام. فالقائد الأساسي هو احدهم. وإذا لزم الأمر أن تتجه المركبة إلى الناحية اليمنى، فمن الصعوبة أن يتمَّ اتجاهها وهي تسير بسرعة النور، فبمحاولتها للإتجاه إلى الناحية اليمنى تكون قد قطعت مئات الآلاف من الأميال وأصبحت بعيدة عن هدفها. فوالحالة هذه، يُضاء نورٌ بنفسجيٌّ أمام القائد الذي يجلس على الميمنة، فيقودها فوراً لاتجاهها الصحيح. وإذا كان الهدف الناحية اليسرى، أُضيء النور البنفسجي أمام الجالس من تلك الناحية فيقودها فوراً، بينما تُطفأ محركات الرأس الأمامي والخلفي والجانب الأيمن. وإذا أريد أن تسير المركبة باتجاه معاكس لتبلغ هدفها، تعطى إشارة الضوء البنفسجي للقائد الجالس هناك فيقودها لهدفها.

      كان الرجال المئتان يصغون لموسيقى كوكبهم المشنِّفة للآذان وهم يشاهدون البرنامج أيضاً.بينما سفينتهم تسير بسرعتها الخارقة التي تعجز عنها اختراعات الأرض.

      الرجال أقزام. فارتفاع الطويل منهم 35 سنتيميتراً. لكن لديهم طاقة مُذهلة.فالقزم منهم يستطيع أن يرفع أثقالاً يعجز عنها عشرة رجال من رجال الأرض!

      أما حديثهم فيتمُّ بواسطة النفخ. فعندما يتحدثون ينفخون حيناً بأفواههم وحيناً بأنوفهم، وهذه النفخات تؤلف لغتهم الكوكبية. ومنها الصفير المتنوع فهو تتمَّة اللغة الفومالزابية.

      أما عيونهم فحجمها كرأس المسمار، وسرعتهم بالركض والقفز خارقة، وآذانهم مستطيلة، وبقدرِ استطالة الأذن يكون ذكاء المرء أو عدمه. فمن تستطيل أذنه حتى تبلغ الأرض-رجلاً كان أم امرأة-فذكاؤه عجيب، وهو محترمٌ للغاية.

      امرأة واحدة فقط رافقتهم، وهي زوجة رئيس الحملة، وقامتها 30 سم. وهي تعتبر من المُلسنات، فحديثها النفخي لا يجارى، وهي مُثقَّفة رغم صغر سنها، فهي في عامها الألفي، أي في ربيع عمرها وزهرة صباها فسكان فومالزاب يعمّر كل منهم 6000 عام. ومديدو الحياة-وهم قلَّة-تمتدُّ أعمارهم حتى السبعة آآلاف من الأعوام.

      والمرأة بطبيعتها تحب الزينة. لهذا كانت زوجة قائد الحملة تنفث بفمها من جهاز صغير بطول الإصبع، فتخرج منه مادَّة تتَّخذ شكل دائرة تستطيع أن تشاهد فيها وجهها. ثم تذوب هذه الدائرة في الفضاء وتتلاشى المرآة.

      أما زوجها فعمره 2000 عام وهو أقلّ ثقافة منها. وقد حاول منعها من مرافقته، ولكنه لم يستطع أن يفرض إرادته عليها، فهو متأكد أن الرجال يستميتون في سبيلها، وكلٌّ منهم يتمنَّى أن تكون زوجة له إذا انفصل عنها، والسعيد منهم من تختاره. ولهذا رضخ لرغبتها، فرافقت الحملة. وكان جميع من في المركبة ينفذون رغباتها فوراً والسرور يغمرهم إذ أسرتهم بأنوثتها البادية للعيان.

      عاماً كاملاً أمضته السفن وهي تقطع محيطات الفضاء وأوقيانوساته بسرعة النور. وكانوا بأجهزتهم الدقيقة المذهلة يشاهدون الأرض وما يجري فيها من خيرٍ وشر.

      كما كانت أجهزتهم العلمية الخارقة تتيح لهم أن يأخذوا نسخاً عن الصحف اليومية والأسبوعية والكتب التي تصدرها المطابع. وكان جهاز الكتروني يترجمها للغة كوكبهم فومالزاب. فيطالعون ما خطَّته أقلام أهل الأرض، وهو لا يضارع آدابهم الرفيعة وثقافتهم العالية.

      وكانت سافاليا زوجة رئيس الحملة تقضي أكثر أوقاتها في الحديقة حيث تجلس بين ورود كوكب فومالزاب العجيبة الأشكال تقطف منها باقة عطرة، وتشبك وردة بشعرها لتشبع غرورها النسائي. وكانت الحديقة تضمُّ عدداً كبيراً من أشجار الكوكب الغريبة المنظر والعطرية الرائحة. وكانت سافاليا تصغي لتغريد طيور زرقاء وكحلية وإسمانجونية وقوس قزحية، وكان صدحها وكأنه موسيقى تعزفها السماء. وفي أحد الأيام استخفَّها الطرب وهي تجلس بين الأزهار بحديقة المركبة الكونية،كانت بلابل الكوكب ذات الألوان المتعدِّدة تغرِّد أغاريد البهجة وهي تتنقل على الأغصان الملوَّنة أيضاً، فأنشدت سافاليا النشيد التالي:

أنا سافاليا الجميلة

تحملني المركبة ياتانيا منطلقةً بي بسرعة النور

وانا أجلس في جنَّةٍ مُصغَّرة تمثل جنَّات فومالزاب كوكبي المفدَّى،

تحيط بي مجموعة من ورود وأزهار جمالها عجيب غريب.

وبلابل كوكبي ينشدنني أغاريدهنّ العذبة،

تشاركهنّ طيور بلادي التي اشتقت إلى ربوعها المُذهلة الفتنة.

وأنا اودُّ ان أبلغ كوكب الأرض،

لأشاهد عالماً غير عالمي العظيم،

جائبة رحابه طاوية سهوله، مخترقة جباله،هابطة أوديته.

ثم يحدوني الشوق للعودة إلى مدينة أحلامي فومالزاب

فأطير إليها بخيالي، ثم تحلّق بي ياتانيا،

عائدة بي إلى وطني الحبيب،

حيث ولدت وحيث سأموت وأدفن بربوعه المقدَّسة.

      كان الإتفاق قد تمَّ على المكان الذي سيهبطون فيه، وقد اقتربوا منه وكانوا على ارتفاع عشرين مليوناً من الأميال فوقه. وإذ ذاك أوقف القائد محركات السفينة وكذلك السفينتين الأخريين، وأشعلوا محركات أخرى سرعتها عادية، وابتدأوا بالهبوط.أخيراً، استقرُّوا في سهلٍ ممتد المسافات.

      وصادف دقيقة هبوطهم مرور قافلة من الجمال، ففغر رجال القافلة أفواههم عجباً مما شاهدوه، واقتربوا من مكان المركبات، وإذا بهم يتطايرون بالفضاء.

      وشاهدوا رجالاً قصار القامة ينفخون باستمرار بقوة وعصبية، وفهموا من نفخهم وإشاراتهم اليدوية أنهم يطلبون منهم الابتعاد فوراً. فولوا الأدبار، والخوف قد هزهم هزاً.

      وتوقفت المحركات، وضغط قائد المركبة الأم على جهاز داخليّ، وإذا بقبةٍ كالخيمة من المعدن تظلِّل المركبة، وكذلك فعل الفائدان الآخران بمركبتيهما.

       وتجمهر أهل القرية لمشاهدة أعجب ما يمكن أن تشاهده العيون، والدهشة مرسومة على وجوههم. وذهب عدد من رجال السفينة إلى غابة تبعد عن مكان استقرارهم، نصف ساعة. ورافقتهم جماهير من أهل القرية. وقد ارتقى رجال الكوكب الأشجار، وامتشقوا أوراقها وطلبوا بالإشارة من الجمهور أن يفعل فعلهم. فصعدوا الأشجار وجرَّدوا الأغصان من أوراقها، ووضعت الاوراق ضمن اوعية عميقة. ثم سلّط الأقزام عليها أشعة خضراء من آلة صغيرة، فتحوَّلت أوراق الأشجار إلى عجين قُطِّعَ كأرغفة. فأكلوا منها وأطعموا أهل القرية الذين ذُهلوا من هذه الخارقة، كما استطابوا ما أكلوه للغاية.

      أما الماء فكانوا يضعون الوعاء، ويسلطون عليه أشعة صفراء، فيمتلئ بماءٍ صافٍ مذاقه كماء الينابيع الجبلية. وبإمكان هذا الجهاز أن يدع الماء بارداً جداً أو في غاية السخونة.

وكان كل قزم يحمل بيده عصا طولها 31 سم، وثخانتها 20 سم، وبأعلاها فتحة صغيرة وفي أسفلها ثبتت عجلات ككلل الأولاد. وهذه العصيّ المعدنية مجوفة. وقد دخل كل قزم في عصاه، فإذا بهذه العصي تسابق الريح، فهي مراكب عجيبة غريبة، وعادوا بها حيث تقف مركباتهم الفضائية مخلفين أهل القرية والعجب الشديد قد استبدَّ بهم أيَّما استبداد.

      واختار رجال الكوكب فومالزاب سهلاً شاسعاً في تلك القرية. وركزوا آلاتهم الالكترونية، ثم باشروا في الأسبوع الأول من وصولهم إلى كوكب الأرض، بناء هيكل عظيم تخليداً لزيارتهم للأرض. وقد حوَّلوا أكواماً من تلالِ الرمال والحجارة إلى معجونة بواسطة آلاتهم الالكترونية. ثم قطَّعوها بقياساتٍ مختلفة اختاروها ونفَّذوا فكرتهم فجعلوا منها أعمدة ضخمة للغاية، ومنها حجارة مختلفة الأحجام. ورفعوا هذه الأعمدة بآلاتهم العجيبة، فإذا هي مُنتصبة شامخة تناطح السحاب. وثبَّتوا على قمة كل عمود منها تاجاً حجرياً هائل الضخامة والثقل.

    ثم سقفوه بحجارة متداخلة بعضها ببعض، فأصبحت كأنها قطعة واحدة لا انفصام فيها.كما أقاموا سوراً مرتفعاً حول الهيكل العظيم، ووضعوا أعلاه بضعة حجارة هائلة الطول والعرض، وتركوا حجراً ضخماً للغاية من المعجونة التي صيغت من الرمال والحجارة، وأبقوه بمكانه، وهو يعرف الآن بحجر الحامل، إذ لا يزال مُلقى منذ ذلك العهد السحيق. وقد أنهوا بناء الهيكل بخلال شهر. فآلاتهم الإلكترونية تقوم بالعجائب والخوارق.

      كذلك تزوج عدد منهم من بنات الأرض.وبعد رحيلهم ولد لهم بنون وبنات.

      وبعد مضي ستة أشهر على وصولهم صعد الرجال الأقزام إلى مركباتهم الفضائية الكونية واجتمع أهل القرية بأكملها لوداعهم وكانوا قد تعلموا طريقة حديثهم النفخي لكثرة الاستمرار.كما تعلم رجال الكوكب بضع كلمات أرضيَّة.

      واشتعلت محركات المركبات الكونية، وبلمحةٍ خاطفة اعتلت الفضاء، ولسرعتها الهائلة غابت عن الأنظار.

      ذهبوا عائدين إلى كوكبهم الموغل في الأبعاد اللانهائيَّة مُخلفين وراءهم قلعة بعلبك الشهيرة شامخة تتحدَّى الزمان، وهي كشاهد على زيارتهم لكوكبنا الأرضي.

نيويورك الساعة 2 و 25 دقيقة

بعد ظهر 29/3/1977

 

 

إقرأ أكثر

مُختارات

سلام -

سلامٌ على ذلك العالم الروحيّ المُضيء الخالد!

سلامٌ على تلك الأنوار الدائمة السطوع!

سلامٌ على ذلك المجد الإلهيّ الفائق البهاء!

سلامٌ على تلك الديار التي احنُّ إليها أبداً!

سلامٌ على ذلك الملأ السرمديّ الطاهر!

سلامٌ على قاطنيه الأبرار، المعاينين  انواره الباهرة السنيّة!

سلامٌ على العالم المجهول الذي لا خباء له و لا افول!

سلامٌ على تلك الأماكن الأرجة العبير!

سلامٌ على من مكَّنتهم قدسيتهم

من ولوج ذلك المكان الحصين الامين!

سلامٌ على من اضُّطهدوا و عذِّبوا في سبيل عقيدتهم الثابتة الحقَّة!

سلامٌ على من ذاقوا الهوان، و شربوا كأسه المريرة حتى ثمالتها!

سلامٌ على أرواحهم السعيدة من الأزلِ إلى الأبد!

سلامٌ أنثره على هذا الطرس

من قلبٍ كسيرِ خافقٍ، حزينٍ مكلومٍ ممزق!

سلامٌ على عالمٍ غير عالمنا الماديِّ المرذول!

سلامٌ عبقٌ فوَّاحٌ عطري، لا ماديٌّ موبوء قذر!

سلامٌ أبديّ إلى أحكامه العادلة النافذة!

سلامٌ من عالمي الحقير هذا،

أرسله إلى ذلك العالم العظيم السامي!

سلامٌ من مسكينٍ ملأ الكون بآثامه،

وهو يضرع إلى الله أن يغفرَ له آثامه تلك، و أن يسعَه بمراحمِه التي شملت الكائنات و طغت عليها.

نعم، سلامٌ، سلامٌ، سلام!

باريس، في 23 نيسان 1935

 

إقرأ أكثر

دراسات وأبحاث

أدب الدكتور داهش -

-رؤية جديدة الى العالم

-وجمالية الحقيقة تنبثق مشرقة فيه..

-قراءة سليمان جمعة في أقصوصة

“الكلب الشريد الطريد”

للدكتور داهش

 

النَّص

كان كلباً هزيلاً، يجوب شوارع المدينة ؛واضعا أنفه نحو الارض ليتنسم رائحة طعام ما، دون أن يعثر على لقمة يتبلغ بها.

ويتجول في الأزقة والمنعطفات ،ثم يذهب الى ضواحي المدينة حيث تلقى القمامة ؛فيخوضها عله يعثر على عظمة يمتصها ليسد بها جوعه…ولكنه لا يفوز بطائل.

فيعدو الى المدينة ..ويقوده أنفه الى ملحمة يقف امام بابها ذليلا،منتظرا من صاحبها ان يلقي له شحمة او عظمة ليملأ فراغ بطنه

وكانت الامطار تتساقط بغزارة فتغمر جسده الناحل الذي لا شعر فيه يقيه،نوعا ،هذا المطر الهتان.

ويقترب نحو الباب ليحمي جسده الاجرب من هذه الامطار الغزيرة،واذا بصاحب الملحمة يركله بقدمه بقوة ،ثم ينهال عليه ضربا بعصا غليظة ،فيعوي من الالم الرهيب،ويلوذ بالفرار وهو يتوجع من هذا الضرب المبرح الذي قاساه دون ذنب جناه!…

ويدفعه الجوع الكافر ،بعد قليل، فيعود الى الملحمة عل صاحبها يرحمه فيلقي له بعض العظام.

لكنه ما كاد يصل الى بابها حتى تلقاه صاحبها بهراوة كافرة، ضربه بها بقوة على رأسه فشجه،وتدفقت الدماء منه غزيرة..

وجعل هذا الكلب المسكين يحتضر .

وأخيرا انطلقت روحه لتشكو هذا الكافر الذي انعدمت منه الانسانية ، فاصبح اشبه بالوحش المفترس منه بالانسان.

     #الكلب القتيل اصبح اميرا

كان الامير مالكولم شاباً جميل المحيا، له من العمر اربعة وعشرون عاما؛يملك قصرا فخما في ضواحي روما، تحيط به حديقة غناء فيها اشجار ذات اثمار جنية، تصدح على اغصانها الطيور البهية ؛فيظن المصغي لصداحها انها موسيقى الآلهة تعزفها الملائكة الأبرار.

وكان هذا الامير يحيا حياة بذخ وترف، تحف به كواعب حسان وتطربه القيان ،ويعيش في قصره المنيف بامان،غير عابىء بنوائب الحدثان.

   #قاتل الكلب يتقمص

 كلبا

خرج الامير مالكولم من قصره، ممتطيا صهوة جواده الاشهب؛ ترافقه خطيبته تيتيانا على حصانها الابيض.

وما ابتعدا عن القصر قليلا حتى شاهدا شرذمة من الفتيان وهم يضربون بالعصي والحجارة كلبا هزيلا مقطوع الذيل ،مصلوم الاذنين ، ضامر البطن ، اعمش العينين ،أجرب الجسم.

وكان هذا الكلب التعيس يحاول الهروب ،لكن لا سبيل له الى النجاة لاحاطة الفتيان له احاطة السوار للمعصم.

فنهر الامير الفتيان ،فتفرقوا مذعورين .

اذ ذاك ترجل عن صهوة جواده الاشهب ، وحمل الكلب الجريح .ثم اعتلى صهوة فرسه ، وعاد الى قصره ؛وأمر الخدم أن يضمدوا جراح هذا الكلب المسكين.

وقد دهش الامير عندما شاهد الكلب يذرف دموعه بغزارة !وكان يلعق يد الامير وكأنه يشكره على صنيعه معه!

وعندما غادره الامير انكمش على نفسه ، وأبى ان يتناول الطعام الذي قدم له ، وكانت دموعه تجري بدون انقطاع!

    #الحلم العجيب 

استسلم الامير للرقاد ، بعد سهرة عارمة قضاها مع خطيبته تيتيانا.

وعندما استيقظ في الصباح استدعى والديه وأشقاءه وخطيبته ..وقص عليهم حلما عجيبا تراءى له في نومه.

فذكر لهم انه حلم بانه كان في تقمصه السابق كلبا شريدا طريدا اضر به الجوع فجعل يجوب المدن والدساكر ، باحثا عما يسد به رمقه .

وقادته خطواته الى ملحمة لعل صاحبها يرق له فيرميه بعظمة .ولكنه عوضا عن اطعامه حطم رأسه بهراوة ثقيلة.

فجوزي بتقمصه الحالي ذلك الكلب الذي كان الاولاد يرشقونه بالحجارة ويضربونه بالعصي.وأكمل الامير قائلا:

أما أنا فقد كنت ذلك الكلب الذي قتل بهراوة صاحب الملحمة .

    #المعتدي يجازي

 نفسه

ودهش الجميع لهذا الحلم العجيب الغريب!

واندفعوا حيث الكلب ؛فإذا بجميع المحاولات التي بذلها الخدم لإطعامه قد باءت بالفشل الذريع.

وكانت دموع الكلب ما تزال تجري من مقلتيه الضعيفتين،.

وعندما شاهد الامير هجم عليه ، وراح يلعق يديه ،ويتمرغ تحت قدميه ؛

فذهل الجميع اذ تأكد لهم أن الحلم حقيقة لا شك فيها .

وفجأة اندفع الكلب راكضا نحو درج القصر ، وصعده بسرعة فائقة وركض الامير ومن معه وراءه.

وحينما وصل الكلب الى السطح.، ألقى بنفسه نحو الارض من ذلك العلو الشاهق..فإذا به جثة هامدة!

بيروت الساعة ٦ مساء

تاريخ ١١/١/١٩٧٥

الدكتور داهش.

 

#القراءة

قد نرى الى الخيال انه الواقع،

هذا النص يمتد على حياتين ، أو ولادتين . 

وهو معادل موضوعي لفكرة/نظام التقمص الكوني الذي اتى به الدكتور داهش في ادبه وخاصة في كتابه ” #قصص غريبة واساطير عجيبة ” الذي يقع في اربعة أجزاء .. والاقصوصة التي نقرؤها هي منها ..

قلت انه نظام كوني فقد عبر د.داهش عن ذلك في كتابين ايضا هما النعيم في ٣ اجزاء وجعل في كل جزء خمسين درجة نعيمية وفي الجحيم في٣ اجزاء ايضا جعل في كل جزء منه خمسين دركة جحيمية؛  

وهي عوالم مبثوثة في هذا الكون الرحيب..والارض الدنيا احداها .. 

ويولد فيها من يستحق مستواها الروحي جزاءً وفاقًا لعمله فإن كان خيرا فله درجة نعيمية وان كان شرا فله دركة جحيمية ..

قصتنا” الكلب الشريد الطريد”

هي على مستوى الارض..

اذاً،

فالبنى المعرفية التي شكلت الحياة الثانية هي:

_الامير وحاشيته

_حلم الامير 

الاولاد يرجمون الكلب 

_انتحار الكلب .

يقابلها بنى معرفية شكلت الحياة الاولى “

_الكلب الطريد يجوب المدينة

_الكلب امام ملحمة الجزار

_الجزار يشج بهراوته رأس الكلب 

_الكلب يحتضر حتى الموت. 

الحلم هو القنديل الكاشف للقصة .

اخبر الحلم الامير انه كان في حياته السابقة كلبا هزيلا يجوب شوارع المدينة جائعا ..والجزار تقمص كلبا بهيئة مزرية في حياته اللاحقة ..يرجمه الاولاد..

الحلم ليس كالرؤيا فيحتاج الى تأويل..انما هو كشف لواقع يعجز العقل عن تفسيره ..ويطرح السؤال :

لماذا تسير الامور هكذا؟

 في الحياة الاولى:

  الكلب /الذي تقمص اميرا.. لم ينبر احد من اهل المدينة فيطعمه .. والفصل شتاء وهو اجرب ..جلده لا يقيه المطر.. هذا الحصار كان قاسيا ..:

جوع ومرض واناس غير مبالين.

الكلب اخترق حصاره رجاء ان يقدم له الجزار شحمة او عظمة ولكن الجزار ركله وضربه بالعصا ثم هشم راسه بهراوته.. فمات..

الجزار تحاصره ثقافة القسوة وعدم الاكتراث بحيوان هو مرذول .. بينما في المقابل ..

الامير /الذي كان الكلب المرذول …يتنزه في مدينته مع خطيبته الحبيبة وفي ربيع ..ويخدمه الناس من حاشيته ..

هذا الانتقال من حياة قاسية الى حياة رغيدة 

هي استحقاق لا ندري كنهه لانه من الغيب والاسرار ..يتولى نظام التقمص بالمفهوم الداهشي العمل به ..

ونرى ايضا البيئة التي تحيط بالامير تحمل ثقافة الجزار نفسه .. ونرى الاولاد يرجمون الكلب_الذي كان الجزار الظالم بتأثير ثقافته وبخله .. 

وذلك جزاء ما كان يسلكه في حياته السابقة .

 الامير/الكلب ينتشل الكلب / الجزار من محنته ويحمله معه على حصانه وذلك تكريما له انه يركب ركب امير ..بينما الجزار /الكلب ..قد ركله برجله وضربه بعصاه وشج رأسه بهراوته فقتله..

الامير /الكلب سابقا

يأمر خدمه بتضميد جراح الكلب الجزار سابقا ..

نفس الكلب/الامير ارتقت بعذابها لتُعطى الرفاهية .. ونفس الجزار تسفلت بظلمها فجوزيت ان تكون في بيئة ترجمها..

الكلب /الجزار عرف الامير وماذا فعل معه فأخذ يلعق يده كأنما يطلب العفو والسماح منه فتكلمت دموعه معبرة عن ذلك .. وقرر ان يجازي نفسه فانتحر..

هل انتحاره سيمنحه في تقمص حياة اخرى لها مستوى جميل ؟ لا ندري فذلك سر لا ندركه .  

والحلم اخبر الامير ..

فالمفارقة ان الحيوان يدرك تقمصه السابق والانسان يحتاج الى ما او من يخبره ..

وتعلمنا القصة ان النفس التي تسكن هيكل كائن حيوان قد تسكن هي ذاتها هيكل كائن انسان.. فالتقمص للنفس والهياكل سكناها ..

والهيكل قد لا يدل على مستوى ايهما ارقى روحيا .. انما الفعل هو المعيار ..وقد تسكن النفس هيكل شجرة او فأر او اسد او قصب (كما مر معنا في قراءتي لاقصوصة :”سر سلة القصب” وهي للدكتور داهش..

 التي بينت سر وحدة الرسالات السماوية او ما نطلق عليه “وحدة الاديان…” ..

او تكون في نسيم …

وقد تبقى على الارض وتسكن هياكل هي في الارض .وقد تغادر الى عوالم تستحقها وتسكن الهياكل الخاصة بها باشكال لا نعرفها ولها لغاتها ..وقد جاء ذلك في كتاب .د.داهش ” احياء على سطح القمر “.. و”كوكب فومالزاب “…

اذاً ..

القصة التي امتدت بين حياتين في عصر كان الحصان وسيلة انتقال …تحكي لنا 

ان هذا الوجود الذي نرى كائناته تسكنها نفوس تتقمص تبع نظام كوني دقيق ..والفعل هو الاساس ..فلا عرق افضل من عرق ولا لون يتميز عن لون …. فهويتي هي الانسانية على الارض او النفس الكونية ..التي لها هذا الكون كله..

سليمان جمعة

 

إقرأ أكثر
error: Content is protected !!