قصّة الحقّ الالهيّ
بقلم المحامي فارس زعتر
المحامي فارس زعتر ، وهو أستاذ مساعد في جامعة لونغ – آيلاند في نيويورك يدرّس ” الأنظمة الجنائيّة الدوليّة المقارنة “، تناول القضيّة بدوره قائلا :” يشكّل الاضطهاد الذي تعرّض له الدكتور داهش جريمة كبرى من جرائم القرن العشرين في لبنان . ولا يسع من يطّلع على قضيّة داهش ، اذا كان يتحلّى بحدّ أدنى من المسؤوليّة والانسانيّة وحس العدالة الموضوعيّة ، الاّ أن يثور مستنكرا لها أشدّ الاستنكار .”
ويضيف المحامي زعتر :
” انّ الشعوب العظيمة تؤكّد عظمتها وتثبت جدارتها بالحياة ، وذلك بما تظهره من شجاعة ونزاهة خلقيّة عندما تواجه أخطاءها وتعترف بها ، وتعمل على تقويمها وعدم معاودتها ، محدّدة بذلك ميثاقها مع مثل الحقّ والعدل والحريّة . هذا ما فعلته فرنسا عندما نقلت رفات الكاتب المبدع اميل زولا ، عام 1908 ، الى مثوى عظمائها في مبنى ” البانتيون ” في احتفال رسميّ وشعبيّ ، اعترافا بفضله عليها ، لأنّه تصدّى لطغيان الرأي العام المضلّل وللسلطات الحكوميّة والعسكريّة والقضائيّة في دفاعه التاريخيّ الشهير عن الانسان البريء في قضيّة دريفوس . لقد دافع زولا عن انسان بريء ليس له به أيّة معرفة ، ولا تربطه به أيّة رابطة من روابط القربى أو الدين أو العرق أو العقيدة ، ما خلا رابطة المواطنيّة والانسانيّة ، فبذل في هذا السبيل حياته العائليّة واستقراره وراحته وصحّته وماله ، وواجه الأخطار ، واضطرّ الى نفي نفسه ، متخفيّا في انكلترا ،وتحمّل من العنت والارهاق ضروبا وألوانا . ومع ذلك كان له من نفاذ الرؤية والبصيرة ما جعله يرى أنّ قضيّة دريفوس هي قضيّة فرنسا برمّتها ، وأنّ فرنسا تحكم على نفسها بالزوال كأمّة حضاريّة اذا ارتضت التضحية بانسان بريء على مذهب التعصّب الدينيّ والعرقيّ الأعمى ، حفظا لماء وجه السلطات الضالعة في جريمة الظلم بحقّ دريفوس . كان زولا يعتبر أنّه يدافع عن المبادىء الانسانيّة التي كرّستها الثورة الفرنسيّة في شرعة حقوق الانسان والمواطن ، وكان يقول :” انّ فرنسا ستشكرني يوما على انقاذي لشرفها .” وقد تمّ ما توقّعه ، فشكرته فرنسا باعترافها به عظيما من عظمائها بسبب موقفه البطوليّ في قضيّة دريفوس ، وليس بسبب عبقريّته الأدبيّة . لكن فرنسا لم تزد زولا قيمة ولا عظمة بتكريمها له واعترافها بفضله ، بل انّها بعملها هذا رفعت ذاتها ، وأثبتت عظمتها وجدارتها بالحياة بين الشعوب المتحضّرة الحيّة .” ويضيف فارس زعتر :” فالرئيس الأسبق بشاره الخوري ، مع من مالأه وتكافل معه وانقاد اليه ونفّذ رغباته في قضيّة الدكتور داهش ، ما لجأ الى الطرق غير المشروعة وا ساءة استعمال السلطة باتخاذه لاجراءات مخالفة فاضحة للدستور والقوانين كأدوات للاعتداء على حريّة فرد وتجريده من جنسيّته اللبنانيّة وتشريده ، مع ما رافقها من أعمال بربريّة تشجبها القوانين والأعراف الداخليّة والدوليّة – نقول انّ الرئيس الأسبق ما لجأ الى ذلك الاّ بعد أن تبيّن وتأكّد له ، من خلال التحقيقات العلنيّة والسرّيّة ، أنّ الرجل لم يأت عملا يؤاخذ عليه قانونا ويمكن ، على أساسه ، تجريمه وادانته قضائيّا .
” كان داهش فردا ، مواطنا ، لا يحمل الاّ قلما ودفترا وكتابا وفلسفة وعقيدة لا يرغم عليها أحد . وكان الأفراد النخبة الذين انجذبوا الى أفكاره مواطنين من ذوي الأخلاق الكريمة والمراعين للقوانين والأنظمة ، وكانوا من حملة الأقلام ، لا المدى والخناجر والمسدّسات والبنادق وغيرها من الأسلحة . فلو لم يكن داهش بريئا البراءة كلّها من كلّ تهمة ، بل لو لم يكن هو البراءة بعينها ، لما عجز بشاره الخوري ، رغم تسخيره أجهزة الدولة ، عن اختلاق تهمة ، واختلاق دليل ، يستطيع على أساسهما ادانته .”
ويختم زعتر :” الأقلام الحقّة لم تكن ، في يوم من الأيّام ، ولا يمكنها أن تكون أبدا أداة تطبيل أو تزمير، أو مجامر لحرق البخور استرضاء للحكّام الفاسدين الظالمين ؛ والأقلام المنيرة هي التي تشجب الجريمة لا التي تمتدحها وتحضّ عليها وتبرّرها ؛ هي التي تدافع عن حقّ كلّ انسان ، بدون تمييز ، بالتمتّع على قدم المساواة بالحقوق والحريّات التي كفلها له الدستور والقوانين والأنظمة والأنظمة المشروعة المرعيّة ؛ هي التي تدافع دفاعا مستميتا عن حريّة الفكر والعقيدة حتّى لو اختلفت مع ذلك الفكر وتلك العقيدة ، لا التي تعتدي على تلك الحريّة وتثمل طربا على أشلائها ؛ هي التي تزأر بالحقّ بوجه كلّ من تسوّل له نفسه أن يحنث بأقسامه الدستوريّة والقانونيّة سبيلا للاعتداء على المواطن الذي لم تكن القوانين الاّ لحمايته ؛ هي التي تشهر كالسيف القاطع أو السوط اللاذع بوجه الطغاة البغاة المفتئتين على الحقوق والحرّيّات . الأقلام المنيرة حقّا هي تلك التي تأتمّ بقلم المحرّر العظيم فولتير في دفاعه في قضيّة كالا وتصدّيه للسلطتين السياسيّة والدينيّة ولطغيان الرأي العام المجروف بتيّار التعصّب الدينيّ المقيت ، أو التي تأتمّ بقلم زولا في دفاعه التاريخيّ في قضيّة دريفوس ؛ هي الأقلام التي تتصدّى للطغيان أيّا كان مصدر هذا الطغيان , وسواء أكان طغيان سلطة أو حتّى طغيان مجتمع بأكمله .”
***
ثنائيّ في الدم والمهنة والعقيدة ، و”استثنائيّان” اذا جاز التعبير في الحديث معهما ، الى حدّ يرى فيهما المحاور توأمين على الرغم من الفارق في السن بينهما . انّهما المحامي خليل زعتر وشقيقه فارس زعتر .
التقتهما ” الديار ” في دارتهما في زحلة فاستضافاها على كرم وسخاء ، أكان من زاوية الضيافة التقليديّة أم من زاوية ما تريده من معلومات حول قضيّة الدكتور داهش ، خصوصا وأنّ المحامي خليل له كتاب قيد الطبع حول هذه القضيّة ، بالاضافة الى أنّ المحامي فارس شارك في وضع كتاب ” أضواء جديدة على مؤسّس الداهشيّة ومعجزاته الروحيّة “وتناول في مشاركته الزاوية القانونيّة في هذه القضيّة ، وخصوصا الشقّ المتعلّق بمسألة ” مناجاة الأرواح الواردة في القانون اللبنانيّ . فماذا يقول الأخوان زعتر ؟
بدون مقدّمات ولا أسئلة يتناول المحامي فارس زعتر الموضوع بشكل له وقع في النفس يتجسّد بحركات أصابعه ، وحتّى في تعابير عينيه التي يلتمع فيها بريق الغضب أحيانا والحزن أحيانا أخرى . واذا ما سها عن شيء أسهب خليل في مداخلة بعد استئذانه . فكيف يقدّم الأخوان زعتر للقضيّة الداهشيّة من زاوية قانونيّة بحتة ؟ يقول المحامي فارس زعتر :” قبل الولوج الى الزاوية القانونيّة الصرفة في قضيّة الدكتور داهش ، لا بدّ من الحديث عن الظروف التي أحاطت بهذه القضيّة والتي ولّدت مآسي كموت الأديبة الشابّة ماجدا حدّاد وهي في عامها السابع والعشرين بتاريخ 27 كانون الثاني 1945 .
فماجدا الابنة الكبرى لجورج وماري حدّاد ، كانت أديبة واعدة باللغة الفرنسيّة . وقد آمنت بالعقيدة الداهشيّة مع جميع أفراد أسرتها في شهر أيلول عام 1942 . ولم يكن ايمان هذه الأسرة بالعقيدة الداهشيّة سطحيّا أو عاطفيّا . فأسرتها كانت تنتمي الى الطبقة الصاعدة في لبنان في النصف الأوّل من هذا القرن ، أي طبقة أصحاب النفوذ وذوي رؤوس الأموال المثقّفين ثقافة غربيّة عالية ؛ وهي طبقة يمكن نعتها مجازا بالأرستقراطيّة اللبنانيّة الجديدة . فماري حدّاد هي شقيقة ميشال شيحا ، صاحب جريدة ” لو جورLE JOUR الفرنسيّة الصادرة في بيروت ، ونسيبة الثريّ هنري فرعون ، وشقيقه لور زوجة الرئيس بشاره الخوري . وكلّ مطّلع على تلك الحقبة من تاريخ لبنان الحديث يعلم ما كان يمثّله المثلّث شيحا – فرعون – خوري ، والدور الذي لعبه ، وارتباطاته الداخليّة والدوليّة ، وأثره في ارساء النظام الطائفيّ والتوازنات الطائفيّة في هذا البلد . وفضلا عن ذلك ، فقد كانت السيّدة ماري حدّاد أديبة مرموقة باللغة الفرنسيّة ، وفنّانة على مستوى عالميّ ، أقامت للوحاتها معارض في باريس ولبنان ؛ واحدى لوحاتها معروضة بصورة دائمة في متحف اللوكسبورغ في باريس ، كما كانت رئيسة لنقابة الفنّانين اللبنانيّين آنذاك . أمّا زوجها السيّد جورج حدّاد فقد كان وجيها من وجهاء بيروت ، وتاجرا من تجّارها المعروفين ، وقنصلا فخريّا لرومانيا في لبنان .
ودارة آل الحدّاد الرحبة كانت مقصدا للأدباء والفنّانين والوجهاء ، وفيها عقد اليسوعيّون عام 1941 اجتماع خرّيجيهم السنويّ . وبالتالي ، فقد كانت تلك الأسرة المنتمية الى النخبة والصّفوة في المجتمع اللبنانيّ تتمتّع بجميع معطيات النجاح ، من وعي وذكاء وعلم وثقافة وانفتاح وروابط عائليّة واجتماعيّة . وهذه المعطيات تؤهّلها التأهيل الأمثل لممارسة حقوقها الطبيعيّة والقانونيّة البديهيّة في الفكر والعقيدة والايمان الدينيّ ، وهي حقوق وحرّيّات تكفلها الدساتير والشّرع العالميّة والقوانين بدون تمييز لكلّ فرد ، أيّا تكن قدراته الفكريّة والثقافيّة أو انتماءاته العرفيّة أو الطبقيّة أو الوطنيّة أو سوى ذلك من الفروق ؛ فهي من الحقوق الأساسيّة الجوهريّة البديهيّة التي يتمتّع بها الانسان بحكم كونه انسانا . وهكذا فانّ ايمان أسرة جورج وماري حدّاد بعقيدة روحيّة أتى بها رجل نشأ يتيما ، وكابد في طفولته وفتوّته الضيق والمشقّات المعيشيّة ، وشقّ طريقه في الحياة معتمدا على مواهبه وعبقريّته ، فدرس على نفسه وكوّن ذاته بارادته وتصميمه ، وهو، فوق ذلك ، لا ينتمي الى أسرة لبنانيّة كبيرة أو صغيرة ذات نفوذ ، ولا هو من أصحاب المطامح السياسيّة أو العاملين في الحقل السياسيّ ولا ممّن يعيرون المقاييس أو المعايير الاجتماعيّة الطبقيّة المألوفة أيّ اعتبار ، لأنّ مقاييسه ومعاييره روحيّة خلقيّة بحتة – انّ ايمان أسرة جورج وماري حدّاد بعقيدة أتى بها هذا الرجل الفذّ كان فعل اختيار حرّ واع ، لأنّه اختيار تخطّى الحواجز والموانع الطبقيّة والاجتماعيّة والمذهبيّة الزائفة ، وقام على تقبّل عقيدة روحيّة سامية رأوا فيها حقيقة مخلصة كبرى لخير الفرد والمجتمع .”
قصّة الحقّ الالهيّ
ويضيف المحامي فارس زعتر :” وما درى آل الحدّاد أنّهم ، بممارستهم لحرّيّة طبيعيّة أسبغها الخالق على جميع عباده وأعترفت بها شرع الحقوق العالميّة والدساتير والقوانين لجميع الناس بدون تمييز ، كانوا يقترفون جريمة لا تغتفر في عرف بعض المراجع المذهبيّة وعرف أنسبائهم وأقربائهم . وجريمتهم تكمن في عدم استئذان هؤلاء وأولئك في ايمانهم الجديد ، جريمتهم أنّهم تصرّفوا بشكل طبيعيّ كمواطنين يتمتّعون بحقوق وحرّيّات ، وفي ضوء نور عقولهم ونفوسهم ، ولم يدركوا أنّ هناك قوما ما زالوا يعتبرون أنفسهم أولياء وأوصياء مفروضين فرضا الزاميّا بحقّ الهيّ مطلق على عقول الناس وأفكارهم . ما درى آل الحدّاد انّ ايمانهم بعقيدة اقتنعت بها عقولهم وارتاحت اليها نفوسهم ،وأدخلت الطمأنينة والسعادة الى حناياهم – أنّ ايمانهم ذاك محكّا لأنسبائهم ولسواهم ممّن سيشترك معهم في اضطهاد داهش ، وامتحانا يكشف زيف شعاراتهم السياسيّة المنادية باحترام الدستور والقوانين وحماية الحقوق والحرّيّات ، ويسقط قناع ريائهم الفكريّ ، فيبدون على حقيقتهم الجوهريّة أناسا قبليّين بتفكيرهم واتّجاهاتهم . أجل ، فمن ايمان أسرة جورج وماري حدّاد بالرسالة الداهشيّة ومعارضة أنسبائهم من آل شيحا وخوري وفرعون لهم ، لأسباب مرتبطة بغايات دنيويّة شخصيّة ومصالح سياسيّة متعلّقة بغرض الوصول الى سدّة الرئاسة الأولى وبما يستدعيه ذلك الوصول من ارضاء للقوى المذهبيّة الطائفيّة وكسب لدعمها وتأييدها ، من كلّ ذلك تولّدت الشرارة التي أشعلت نيران اضطهاد الدكتور داهش ، خصوصا بعد وصول بشاره الخوري الى سدّة الرئاسة الأولى ، وهيمنته مع محازبيه وذويه وحاشيته على مقدّرات السلطة في البلاد . ولذلك ، كان لاضطهاد الدكتور داهش وقع هائل بآلامه على أسرة جورج وماري حدّاد لأسباب ، منها أنّ آلهم وذويهم هم المنفّذون لهذا الظلم والجرم ، ولقد اتّخذوا من ايمان آل حدّاد بالداهشيّة مبرّرا لاضطهاد مؤسّسها . ناهيك عن أنّ ما كان يوجّه الى الدكتور داهش كان يطالهم بالضرورة بطريقة أو باخرى ، بصورة مباشرة أو غير مباشرة . كان ألم آل حدّاد مزدوجا ومضاعفا . فمن جهة ، كان يؤلمهم ما ينالهم وينال الدكتور داهش من ضروب الافتراءات والاختلاقات الرخيصة والمظالم . ومن جهة أخرى ، كان يؤلمهم أيضا ويحزّ في نفوسهم ما يرتّبه آلهم وذووهم على أنفسهم من تبعات ومسؤوليّات جسام ، وما تستتبعه أفعالهم من كوارث وفواجع يجلبونها على البلاد وعلى أنفسهم وعلى بيوتهم نتيجة اضطهادهم الظالم .
المؤامرة
وبينما لا يجد أصحاب النفوس الضعيفة غضاضة في تبديل ولاءاتهم وقناعاتهم تبعا لتبدّل اتجاهات رياح مصالحهم بسرعة تفوق سرعة الحرباء في تبديل ألوانها ، غير مفتقرين في ذلك الى اختلاق الأعذار وتمحّل المبرّرات ، خصوصا متى كان ذلك سبيلا للتقرّب من من اصحاب السلطة والنفوذ أملا بمنصب أو جاه دنيويّ أو طمعا بمكاسب ماديّة عن طريق صرف النفوذ أو استغلاله ، فانّ تلك الحال لم تكن حال أسرة جورج وماري حدّاد على الاطلاق ، اذ انّهم هزأوا بالمغريات ، وداسوا المصالح الشخصيّة ، قاطعين صلاتهم بذيهم ، وهؤلاء في أوج سلطانهم ونفوذهم عندما كان القاصي والداني يتمنّى التقرب منهم ونيل حظوتهم ، وفضّلوا أن يتحمّلوا أفدح الخسائر ، وأن يضحّوا بالغالي والنفيس ، من أجل مبدا الحريّة وعقيدة آمنوا بها بصدق واخلاص .
وعندما نفّذ المتآمرون ، بعد القائهم القبض التعسّفيّ على الدكتور داهش ، جريمة تجريده من جنسيّته وتشريده خارج الأراضي اللبنانيّة بطريقة بولوسيّة سرّيّة ، وباجراءات مخالفة للدستور والقوانين والأعراف الداخليّة والدوليّة ، وبأفعال وحشيّة بربريّة ، استفظع آل حدّاد أن يقع كلّ ذلك في بلد دستوريّ ديوقراطيّ ، وأن تبقى الاستكانة مخيّمة على المسؤولين وقادة الرأي العامّ ، فكأنّ هناك مؤامرة صمت رهيبة لفّت الجميع . وقد تملّك نفس ماجدا حدّاد ، من جرّاء ذلك ، يأس جارف من القانون والعدالة في هذا البلد ، فصمّمت على الانتقام ، وعقدة النيّة تحديدا على اغتيال الشيخ بشاره الخوري الذي اعتبرته ، بحكم موقعه وما لعبه من دور أساسيّ في هذه القضيّة ، المؤول الأوّل عن ارتكاب الجريمة في حقّ الدكتور داهش . فاحتازت مسدّسا لهذه الغاية ، وبدأت تترصّد حركات الرئيس ، وكان بامكانها الوصول اليه بسهولة لو أرادت تمحّل عذر ما ، فهو زوج خالتها . ولكن ما ان بلغ الى الدكتور داهش نبأ ما اعتزمت تنفيذه حتّى بادرها فورا برسالة اليها بتاريخ 15 كانون الثاني 1945، ينهاها فيها عن المضيّ قدما في ما خطّطت له وعن ” الاقدام على أيّ عمل عدائيّ ضدّ الشيخ بشاره أو سواه “، مثلما جاء في الرسالة .
لم تستطع ماجدا تجاهل هذه الرسالة ، ولكنّ الحالة النفسيّة والعصبيّة الحادّة التي هي نتيجة تراكميّة مباشرة خلقتها سلسلة حوادث الاضطهاد المتلاحقة على مدى ينيف على سنتين جعلتها تفكّر بطريقة أخرى للانتقام من ذويها المسؤولين عن الاضطهاد ، وذلك بقتل نفسها وتحميلهم مسؤوليّة دمها المهراق احتجاجا على ما يرتكبونه من جرم بحقّ الدكتور داهش والداهشيّين ، وتنبيها للرأي العامّ الى فداحة الظلم والطغيان الممارسين من قبل المسؤولين في هذه القضيّة .وهكذا ، ففي 27 كانون الثاني 1945 أطلقت ماجدا رصاصة على صدغها فسقطت شهيدة الظلم واضطهاد حريّة الفكر والعقيدة في هذا البلد الذي يتغنّى فيه الكتّاب والصحفيّون والسياسيّون كثيرا بحضارته العريقة ، وبالحرص فيه على الحريّة , وبأنّه ملجأ المضطهدين . انّ المسؤولين عن سلسلة الأفعال والاجراءات التعسّفيّة التي تشكّل بمجموعها تنفيذا لمؤامرة اضطهاد الدكتور داهش والداهشيّين هم المسؤولون مسؤوليّة مباشرة عن استشهاد ماجدا , لأنّ الصلة السببيّة بين أعمالهم غير المشروعة والجو الذي خلق هذه الأعمال ، والحالة النفسيّة الحادّة التي أحدثها هذا الجو في الأديبة الشابّة ماجدا ، هي التي أدّت مباشرة الى استشهادها . ومذكّرات ماجدا التي ترجمها الأديب اللبنانيّ الكبير كرم ملحم كرم من الفرنسيّة الى العربيّة ، ونشرها في مجلّته ” ألف ليلة وليلة “، تشرح ذلك بوضوح تامّ.”
الداهشيّة تحت مجهر القانون
كثيرة هي الأسئلة التي دارت حول قضيّة تجريد الدكتور داهش من جنسيّته اللبنانيّة واحالة قيده الى سجلاّت الأجانب ، وحصرا الى التابعيّة الفلسطينيّة . فالام استند الرئيس بشاره الخوري قانونيّا لاصدار مرسومه المشهور؟ ولماذا تمّ ابعاد داهش الى الحدود السوريّة – التركيّة بدلا من ترحيله الى فلسطين عبر الحدود اللبنانيّة – الفلسطينيّة طالما اعتبره الرئيس الخوري من التابعيّة الفلسطينيّة ؟ وماذا كان موقف الداهشيّين ؟ وما هي الظروف التي أحاطت بانتحار ماجدا حدّاد ؟وما هي صحّة الاشاعات في تلك المرحلة ؟هذه الأسئلة حملتها ” الديار” في لقائها مع المحامي فارس زعتر الذي أسهب في الردّ عليها ، وافتتح حديث بالقول :
” قبل الدخول في تفاصيل الصراع بين الرئيس الخوري والدكتور داهش وما نتج عن هذا الصراع من سجن الداهشيّين وانتحار ماجدا حدّاد … لا بدّ من القاء الضوء أوّلا على المسألة الأساسيّة التي اتّخذها الرئيس الخوري وجعل منها ” حصان طروادة ” لارتكاب سابقة لم تعرف في تاريخ لبنان ، وهي تجريد انسان من جنسيّته ونفيه بلا اوراق ثبوتيّة .وهذه المسألة هي قضيّة ” مناجاة الأرواح .” ويضيف المحامي فارس زعتر :” اذن قضيّة ” مناجاة الأرواح ” كانت الجسر الذي استعمله الرئيس الخوري للعبور الى تحقيق مؤامرته ضدّ داهش ، محاولا تغطية ” السماوات بالقبوات “، كما يقولون . من هذه الزاوية سنتناول قضيّة ” مناجاة الأرواح ” وفق القانون اللبنانيّ ، مع العلم أنّ الداهشيّة لا تسلم بوجود علم صحيح اسمه علم ” مناجاة الأرواح ” ، ولا تعتقد بوجود أشخاص يتمتّعون بمزايا أو مواهب طبيعيّة تمكّنهم من اخضاع قوانين الطبيعة لارادتهم أو الاتّصال بالأرواح أو الاتيان بأعمال خارقة لقوانين الطبيعة المعروفة .فالظاهرات الروحيّة الخارقة لا تتمّ الاّ باذن وارادة الهيّين ، ولا تجريها الاّ قوّة روحيّة علويّة على يدي فرد من الناس تختاره المشيئة الالهيّة ليؤدّي رسالة روحيّة لأبناء البشر . فالأرواح ، بالمفهوم الداهشيّ ، ليست من أمر الانسان ولا تخضع لأرادته ، بل العكس تماما ، اذ هو من يخضع لسلطانها ويعمل ويتصرّف وفق ارشاداتها وتوجيهاتها ، لأنّها كائنات قديرة نقيّة الهيّة ، وهي تحيا في عوالم روحيّة أزليّة أبديّة لا يشوبها دنس ولا ضعف ولا تخالطها أيّة مادّة . لكنّ الناس يذهبون مذاهب شتّى في تفسير الظاهرات الروحيّة الخارقة وتأويلها ، حتّى لو ثبت حدوثها بالبراهين والأدلّة القاطعة الحاسمة ، وذلك تبعا لميولهم ورغباتهم ومستوياتهم الروحيّة والفكريّة وتكوينهم النفسيّ والخلقيّ والعقليّ والثقافيّ ، وسوى ذلك من المعالم التي تدخل في تشكيل درجة صفاء الرؤية أو مدى نفاذ الادراك والوعي . والقاعدة العامّة التي لا يبدو أنّ لها استثناء في التاريخ المعروف هي أنّ جميع المصلحين ، بمن فيهم الأنبياء والمرسلون والهداة ، لاقوا مقاومات عنيفة ظالمة ، خصوصا في مطلع عهد دعوتهم . ولم يسلم أيّ رسول أيّدته العناية الالهيّة باجتراح الخوارق والمعجزات من شتّى التّهم الحقيرة ، بما فيها تهم السحر والشعوذة والكفر ، الاّ أنّ الغلبة في النهاية كانت دائما للحقيقة : ( فأمّا الزبد فيذهب جفاء ، وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) ” سورة الرعد : 17.”
قانون
يمنع امتهان التنجيم ومناجاة الأرواح
وقراءة الكفّ وقراءة ورق اللعب والتنويم المغنطيسيّ
أقرّ مجلس النوّاب ، ونشر رئيس الجمهوريّة القانون الآتي نصّه :
المادّة الأولى : يمنع في أراضي الجمهوريّة اللبنانيّة امتهان التنجيم ومناجاة الأرواح وقراءة الكفّ وقراءة ورق اللعب والتنويم المغنطيسيّ وجميع المهن التي لها علاقة بعلم الغيب على اختلاف أسمائها والوسائل المستخدمة فيها .
المادّة الثانية : كلّ مخالفة لهذا القانون يعاقب مرتكبها بالحبس من أسبوع الى ستّة أشهر وبجزاء مقداره مائتا ليرة لبنانيّة سوريّة أو باحدى هاتين العقوبتين .
بيروت في 9 أيّار 1939 الامضاء : اميل ادّه ، صدر عن رئيس الجمهوريّة
الوسطاء الروحيّون
ويضيف زعتر :” وتجدر الاشارة في هذا المجال الى ما يأتي :
أوّلا : انّ نطاق تطبيق قانون 9 أيّار 1939 واسع جدّا . فهو لا يقتصر على أعمال معيّنة فيه بشكل محدّد ، بل يشمل أيضا ، عملا بصرح نصّه ، ” جميع المهن التي لها علاقة بعلم الغيب على اختلاف أسمائها والوسائل المستخدمة فيها .” يضاف الى ذلك أنّ تعبير ” مناجاة الأرواح “، وان كان يتعلّق بما كان شائعا في القرن التاسع عشر والنصف الأوّل من القرن العشرين ، خصوصا في الغرب من زعم أناس – اطلق عليهم اسم ” الوسطاء الروحيّين “- أنّهم يستطيعون الاتّصال بالأرواح في ” جلسات روحيّة ” مزعومة كانوا يعقدونها ، فانّه تعبير واسع يمكن استخدامه ليشمل أيّ اتّصال بالعالم الروحيّ الخفيّ المجهول وأيّة ظاهرة روحيّة خارقة ، لأنّ الظواهر الخارقة – أي المعجزات – لا تتمّ الاّ بتدخّل روحيّ وعبر اتّصال روحيّ الهيّ . وفي نهاية المطاف ليس الأنبياء والمرسلون والهداة الروحيّون الاّ وسطاء – بمعنى الواسطة والوسيلة – بين العالم الروحيّ العلويّ وعالمنا ، اذ بواسطتهم ومن خلالهم تبلّغ العناية الالهيّة كلماتها ورسالاتها لأبناء البشر . ولكنّ مفهوم هذه الواسطة أو الوساطة الروحيّة هو مفهوم دينيّ يختلف اختلافا جذريّا بيّنا عن مفهوم ” الوساطة الروحيّة ” في ما هو متعارف عليه في مذاهب ” مناجاة الأرواح ” المعروفة .
ثانيا : انّ القانون اللبنانيّ ، 9 أيّار 1939 ، أو المادّة 768 من قانون العقوبات ، على حدّ سواء ، لا يمنع تعاطي ” مناجاة الأرواح ” أو كلّ ما له علاقة بعلم الغيب أو سوى ذلك من الأعمال المذكورة رغم أنّها من أعمال الشعوذة والدجل المعروفة ، بل يمنع فقط ” امتهان ” هذه الأعمال ، أي تعاطيها قصد الربح ( لقاء بدل ) .
ثالثا : انّ الظاهرات الداهشيّة الروحيّة الخارقة لا تدخل في عداد الأعمال المنصوص عليها في قانون 9 أيّار 1939 ، لأنّ القوّة التي تجريها هي قوّة روحيّة علويّة مستمدّة من الخالق عزّ وجلّ ، والغاية التي ترمي اليها هي غاية سامية تهدف الى اعادة الايمان النقي بالله تعالى الى النفوس ، وبما يبشّر به الأنبياء والمرسلون جميعا . لكنّ الذين لا يستطيعون أو يرفضون الاقرار بالمصدر الروحيّ الالهيّ لهذه الظاهرات الخارقة ، وخصوصا اذا كانوا من مناوئي الدكتور داهش ، قد لا يرون حرجا على الاطلاق ، من خلال منظورهم الخاصّ ، في تصنيف هذه الظاهرات الروحيّة الداهشيّة الخارقة في عداد الأعمال المنصوص عليها في قانون 9 أيّار 1939 ، وفي ادخالها ضمن نطاق ” مناجاة الأرواح ” المزعومة ، مثلا ، أو ضمن نطاق الأعمال التي ” لها علاقة بعلم الغيب.”
ويضيف زعتر : نجح مناوئو الدكتور داهش ، وبينهم ميشال شيحا وهنري فرعون والشيخ بشاره الخوري ، في المرحلة السابقة لانتخاب هذا الخير رئيسا للجمهوريّة اللبنانيّة بتاريخ 21 أيلول من عام 1943 ، وهم على ما هم عليه من مكانة ماليّة واجتماعيّة وسياسيّة – نجحوا ، عن طريق استعمال نفوذهم في ظلّ حملة صحافيّة جانية ، في حمل المسؤولين على تحريك النيابة العامّة التي أمرت بفتح تحقيقات سريّة بحقّ الدكتور داهش ، الغاية منها التحقّق ممّا يقوم به وهل يقع تحت قبضة القوانين الجزائيّة ، وخصوصا هل كانت أعماله مخالفة لقانون 9 ايّار 1939 . وأجريت التحقيقات التي شملت مراقبة منزل الدكتور داهش بصورة سريّة ، ولكنّ نتائج جميع هذه التحقيقات المتعاقبة جاءت سلبيّة لتؤكّد أنّ الدكتور داهش لم يأت عملا يؤاخذ عليه قانونا .”
افادة ماري حدّاد أمام المحقّق
يتابع المحاميان خليل وفارس زعتر مطالعتهما القانونيّة في قضيّة الدكتور داهش ومسألة مناجاة الأرواح فيقولان :
” مع تسلّم الرئيس بشاره الخوري الحكم اثر انتخابه رئيسا للجمهوريّة في 21 أيلول 1943 ، فتح ملفّ الدكتور داهش مجدّدا ، فأرسلت له الأديبة ماري حدّاد ، وهي شقيقة زوجة لور ، رسالة احتجاجيّة على التحقيقات السريّة تدعوه فيها الى وضع حدّ لها بولوج المحاكم المشرعة الأبواب . وهذا بعض ما جاء في رسالة الأديبة حدّاد : د
” انّ حرّيّة الين وحرّيّة نشره حقّان معترف بهما في الدستور اللبنانيّ الذي تخضعون ونخضع نحن له . فها انّ السنّيّ والبروتستنتيّ والشيعيّ والكاثوليكيّ والدرزيّ والأرثوذكسيّ وسواهم يعيشون في هذه البلاد ، ولم يخطر على بال أيّ رئيس حكومة ان يضطهد ايّا منهم لأنّهم لا ينتمون لعقيدته الدينيّة . وها انّ الدعاية البروتستنتيّة منتشرة في طول البلاد وعرضها ، ولم يجرؤ ايّ من رؤساء الحكومة اللبنانيّة الكاثولوليكيّة على منعها ، اذ انّ هؤلاء الرؤساء يعرفون انّ هذا التعدّي يكون اهانة لبلادهم وصفعة في وجه القانون .
” وانّ الداهشيّة ستعيش وتنمو في لبنان وخارج لبنان رغم جميع المحاولات لقمعها والوقوف دون انتشارها ، فيجب أن تعلموا ذلك !
” واذا كانت يد الأقدار قد اجلستكم على كرسيّ الرئاسة لوقت معيّن ، فاعلموا أنّه من الخطأ الظنّ بأنّ الرئاسة أعطيت لكم لتتصرّفوا كما تشاؤون لاشباع الضغينة التي في قلبكم ضدّ الدكتور داهش . فانّ الدستور يحمي المعتقدات ، ونحن من الذين يجاهرون بفاعليّة القانون ، ويطالبون بتطبيقه بالحرف الواحد .
” فانّ للدكتور داهش ولأتباعه ، من أفراد وجماعات ذوي مكانة اجتماعيّة ، هدفا دينيّا نبيلا هم أحرار في اعتناقه ونشره ، وليس لأحد سلطة عليهم البتّة ما داموا سائرين في دائرة الحقّ والعدل ، وما دام القانون يضمن حريّة المعتقدات والأديان اليوم وغدا والى ما شاء الله .
” فكفى استجوابات سريّة ومحاولات فاشلة . فان كان لكم على الدكتور داهش أيّ لوم ، فها انّ المحاكم مفتوحة ، والقانون صريح ، والحقوق مصونة ، ولا داعي للاستجوابات الغافلة بين الجدران الصامته .”
يضيف زعتر : ” التحقيقات الجديدة تولاّها مدير البوليس العدليّ ، ادوار أبو جودة ، بنفسه ، ورغم أنّ غايتها لم تكن مختلفة عن غاية سابقاتها ، الاّ أنّها كانت أكثر اتّساعا ، وكادت تتناول حياة الدكتور داهش ونشاطاته بجوانبها كافّة . ولكنّ نتيجتها ، مع ذلك ، لم تأت مختلفة عن النتيجة التي اقترنت بها التحقيقات السابقة . وبالتالي فهي لم تؤدّ الى ما كان يامل ويتمنّى محرّكوها أن يحصدوه منها . ونكتفي ، فيما يلي ، بعرض نصّ الافادة التاريخيّة التي أعطتها السيّدة ماري حدّاد ردّا على اسئلة مدير البوليس العدليّ ، ادوار أبو جودة :
افادة السيّدة ماري حدّاد الداهشيّة
” حدّثنا بعض الثقات بأخبار الدكتور داهش وأخبار معجزاته ، فقمنا بزيارته .
” ولقد كان يتجاذبني الايمان والارتياب في الوقت نفسه .
” أمّا الايمان ، فلأنّ كلّ ما في الحياة ، اذا نظرنا فيه قليلا ، معجزة : الحبّة النامية ، والكهرباء صنيعة العلم ، والولادة ، والحياة ، والموت ….
” وأمّا الارتياب ، فلأنّه ( أي الارتياب ، وهو تقدير الشرّ قبل الخير ) حصيلة الاختبار الطبيعيّة والضروريّة .
” فهل في هذا العصر الذي يسوده فيه المال العالم ، ويتمتّع أخسّ الناس ، اذا كان غنيّا ، باحترام الجميع – هل فيه من يتعالى عن المال والمكانة الاجتماعيّة وما اليهما ؟ هذا ما أجهله .
” يبدو المنحى الروحيّ في الحياة ، بل أيّ مثل أعلى ، موضع ازدراء ، فلا يتّصف به الاّ أناس مفتقرون الى العقل السليم . ولكن ، ها انذا أمام حدث فريد .
” ذلك أنّ الدكتور داهش ظاهرة تتحدّى هذا العصر . فهو يعيد القيم الى منازلها ؛ وهذا أمر غريب غير متوقّع ، ولكنّه ثابت .
” يعتمد الدكتور داهش على الانجيل ، بل هو الانجيل مجسّدا .
” كنّا ، ولا ريب ، نعرف هذا الكتاب ، ونعدّه عملا الهيّا فذّا رائعا . لكنّ معرفتنا به لم تكن كافية لتجعل حياتنا موافقة له . ولذلك نحن موقنون بأنّ الدكتور داهش رجل الانجيل .
” ثمّ سرعان ما نجد أنفسنا امام قوّة تفوق الطبيعة ، فنشاهد المعجزات الانجيليّة تحصل ثانية : تحويل الماء الى خمر ( وهو معجزة يسوع الأولى ، وبسببها آمن بها الجميع ) ، وتكثير الخبز والسمك .
” لقد شاهدنا شتّى أنواع التكثير ، كما شاهدنا معجزات شفاء ، وتحقّق نبوءات .
” ثمّ انّه لا شيء ، ههنا ، بخاف : لا الفكر ، ولا الحاضر ، ولاالمستقبل .
” وما ثمّة مسافات ، ولا صناديق حديديّة مقفلة .
” وقد شاهدنا كيف تحلّ الرزايا بمن يفترون عليه .
” كما شاهدناه يتحكّم بعناصر الطبيعة تحكّمه بالموت والحياة .
” لقد عرفنا الدكتور داهش بما يقوله ، وما يكتبه ، وما يؤلّفه ، وما يأتيه من معجزات ، وما يقيمه مع الناس من صلات .
” اذا تكلّم ، انهارت الحجج أمام حجّته . فقد شاهدته في لفيف من الجهابذة والأدباء والصحافيّين والمتبحّرين في الثقافة ، فاذا كلّهم معجب به ، وصغير جدّا في حضرته . كانوا يطلبون الاستنارة بشروحه ، فكان يمدّهم بها في بساطة غاية في الاتّضاع والكمال .
” انّه ، في سموّ مقاصده وما يتّصف به فكره من نبل وصفاء ، أسمى تعبير عن العبقريّة . والى ذلك ، فلا يمكن أن يكون في الناس من يفوقه موضوعيّة وواقعيّة عمليّة ، ذلك أنّه يجعلنا نعرف ونقدّر الأمور ؛ وهي أمور خالدة، لا فانية .
” وهو ، في ما يعلّمنا ايّاه ، انّما يدعنا نلمس حقيقة الروح لمس اليد ، فيشرع لنا نافذة عريضة على العالم الثاني الذي يتعذّر حتّى الآن ارتياده .
” واذا نحن آمنّا به ، فلأنّ في متناولنا البراهين الملموسة القاطعة على صحّة رسالته ؛ والاّ فما بالنا لا نكتفي بالكهنة والأحبار ، وهم أيضا يدّعون الاعتماد على الانجيل !
” بيد أنّ هذا الحجاب ، على جماله ، لن يستر أكاذيبهم وأعمالهم المخالفة لدعوة السيّد المسيح .
” انّنا لم نألف التجرّد من المكاسب المادّيّة ، اذ انّ كلّ شيء مدفوع ثمنه ، وبخاصّة في كنيسة روما ، كغفران الخطايا ، والألقاب ، والتحليلات في مختلف أنواعها .
“اذا ، عندما نعرف شخصيّة الدكتور داهش ، تسقط شتّى المحاذير والشكوك والظنون من تلقاء نفسها ، ويعترينا الخجل ممّا يراودنا ، في هذا السبيل ، من أفكار خبيثة .
” انّما الدكتور داهش معجزة هذا العصر . فما من تجسّد انسانيّ في مثل هذه العظمة منذ عهد السيّد المسيح .
” لقد قضى بضعة أشهر من حياته فقط في مدارس وضيعة ، في غزير وصيدا ، فلم يحصّل تعليما ؛ فهو على حدّ قوله ، ابن الحياة .
” ومع ذلك ، فانّ مؤلّفاته تناهز التسعين . وهي صرح عظيم يفي بشرح شخصيّته . ألّفها في سرعة مذهلة ؛ وأنا عاينته في ساعات الهامه ويراعته كأنّها تطير على الطّرس .
” لقد كنّا شهودا لحياته اليوميّة ؛ وعددنا كبير . فقد خبرناه ، ودرسناه فاطّلعنا في شأنه على كلّ شيء منذ ساعة مولده .
” فالمعجزات لم تفارقه قطّ . وكلّ ما يتّصل به مدوّن منذ عامه الثاني عشر ؛ مدوّن يوما فيوما ، في كلّ دقيقة .
” أمّا تعاليمه ، فحصيلتها انتفاء الشكّ والسكينة النفسيّة واليقين بما ينتظرنا بعد الموت . واذا بنا نرتفع فوق كلّ الصغائر ، وما كان بالأمس ذا شأن عندنا ينقلب لا شأن له . فما ثمّة هموم ، بل حياة سعيدة – اذا صحّ أنّ في الأرض سعادة .
” أمّا اذا انتقلنا الى حيّز العلم ، فالدكتور داهش هو المعهد الحقيقي الوحيد . فلقد تأتّى لنا على يديه وحي في شتّى ميادين العلم : في التاريخ منذ أصل الأرض ، وفي علم النجوم ، وفي الطبّ وأسباب الأمراض وأسباب شفائها ، وفي أسرار الحياة والموت – وهي أسرار لا يمكن أن تراود فكرنا . بيد أن ساعة نشر ذلك كلّه لم تحن بعد .
” فلو كانت حكومتنا حكومة مستنيرة ، لأدركت انّ في شخص الدكتور داهش طاقات لا تقدّر ولا تحدّ أبعادها ، ولسعت الى الانتفاع بها من قبل أن تسبقها أمم ناهضة الى تجديد قواها بتلك القوّة الخارقة التي لم تكن متوقّعة حتّى الأمس القريب ، تلك القوّة التي ينحني أمامها كلّ شيء ، كلّ شيء بلا استثناء ، لأنّها قوّة الله .
” على أنّني لا أرثي فقط لمن يفترون عليها ، بل لمن يقفون منها موقف الحياد ، فلا يسلكون في ركبها . ولكن اذا صحّ اليوم ألاّ نبيّ في وطنه ، فانّنا لمكذّبون يوما هذا القول .
” واذا سألتني كيف يعيش الدكتور داهش ، أجبتك أنّني رأيت عنده من الأموال أكداسا اكداسا ، وربّما عزّ على أيّ مصرف أن يحوز مثلها .
” وقد رأيته يسخو على الفقراء ، ولكنّه يقتصد على نفسه .
بيروت 23 شباط ( فبراير ) 1944
ماري حدّاد
مواقف النوّاب من قضيّة داهش
عجزت السلطات اللبنانيّة عن ايجاد ايّ مخالفة قانونيّة ارتكبها الدكتور داهش ، كما يقول الأستاذ فارس زعتر ، في مرحلة الأربعينيّات . وعندما وجد الرئيس الخوري نفسه على واجهة الافلاس ، أصدر مرسومه الظالم بنفي الدكتور داهش من لبنان مخالفا جميع الشرائع المعمول بها في جميع الدول والبلدان في العالم . ويضيف زعتر :
” افادة السيّدة ماري حدّاد أوضحت بجلاء كلّيّ حقيقة الظاهرات الداهشيّة الروحيّة الخارقة ، وماهيّة القوّة الروحيّة التي تجريها ، ومصدرها العلويّ الالهيّ ، وغايتها السامية ، وأنّ القضيّة هي قضيّة روحيّة ومعتقد ومدرسة فكريّة اصلاحيّة جديدة ، وأنّها أرفع كثيرا وأبعد ما تكون تفاهة وسخافة ما كان مناوئو الدكتور داهش يأملون تحقيقه عن طريق التحقيقات المزعومة .
أدرك رئيس الجمهوريّة بشاره الخوري والمتحالفون معه في هذه القضيّة انّ التحقيقات التي كانوا وراءها ، والتي شارفت منتهاها ، مصيرها كمصير سابقاتها ، وانّها أدّت الى عكس النتيجة التي كانوا يأملونها ويرجونها . كما أدركوا أنّه لا يمكن النّيل من الدكتور داهش بواسطة الاجراءات القانونيّة أو القضائيّة ، مهما أسيء استعمالها ، في حالة التشريع اللبنانيّ الساري والأنظمة المشروعة النافذة . وبما أنّ غايتهم لم تكن أبدا دراسة الظاهرة الروحيّة الداهشيّة ، ولا تفهّم حقيقتها ، ولا احترام حرّيّة الناس وحقّهم المشروع بدراستها والتعرّف عليها ،أو حريّة الدكتور داهش وحقّه في الفكر والعقيدة والتعبير ، بل كانت غايتهم الحقيقيّة منع الظاهرة الروحيّة الداهشيّة،
وقمع انتشارها تحت ستار شرعيّ ، لذلك ، بعد أن تأكّد لهم أنّه من المستحيل امكان التوصّل الى تجريم الدكتور داهش في ظلّ التشريع السائد المعمول به ، عمدوا الى اقتراح مشروع قانون يعدّل أحكام قانون 9 أيّار 1939 ، ويستبدل بها أحكاما تجعل الأعمال المنصوص عليها فيه محظّرة تحظيرا مطلقا مهما كانت الغاية من اجرائها ، سواء أكانت ” ببدل أو بغير بدل “. وقد أحال رئيس الجمهوريّة ، بشاره الخوري ، مشروع القانون الذي أقرّه مجلس الوزراء الى المجلس النيابيّ بموجب المرسوم رقم 790 ، تاريخ 1/3 /1944 ، وعرض على لجنة العدليّة لدراسته واقراره قبل عرضه على المجلس النيابيّ في جلسة علنيّة . وفيما يلي نصّ مشروع القانون المذكور المؤلّف من ثلاث مواد :
المادّة الأولى : يمنع في أراضي الجمهوريّة اللبنانيّة امتهان التنجيم ومناجاة الأرواح وقراءة الكفّ وقراءة ورق اللعب والتنويم المغنطيسيّ وجميع المهن التي لها علاقة بعلم الغيب على اختلاف أسمائها سواء كان هذا الامتهان ببدل أو بغير بدل .
المادّة الثانية : كلّ مخالفة لهذا القانون يعاقب مرتكبها بالحبس من شهر الى ثلاث سنوات ، وبجزاء نقديّ من مئتي ليرة الى ألفي ليرة أو باحدى هاتين العقوبتين .
اذا رافق هذا الامتهان أعمال تمسّ بالآداب والأخلاق ، فلا يمكن أن يكون الحدّ الأدنى اقلّ من سنة حبس ، فضلا عن العقوبة المنصوص عنها في قانون الجزاء لمثل هذه الأعمال .
المادّة الثالثة : ألغيت جميع الأحكام المخالفة لهذا القانون والتي لا تتّفق مع مضمونه ، وبصورة خاصّة القانون الصادر في 9 أيّار سنة 1939 .
لم يكن القصد الحقيقي من وراء مشروع القانون هذا سرّا خفيّا على أحد ، بل كان معلوما لدى الجميع ، داهشيّين وغير داهشيّين ، أنّه يستهدف الدكتور داهش بعد أن أثبتت التحقيقات المتعاقبة أنّه لا يبتغي ربحا ولا يتقاضى بدلا من اجرائه لأعماله الروحيّة الخارقة ، وبالتالي فقد كان مستحيلا اتّهامه أو توقيفه أو محاكمته أو الحكم عليه أو منعه من اجراء ظاهراته الخارقة في ظلّ قانون 9 أيّار 1939 . ولذلك فقد وسّع مشروع القانون الجديد نطاق المنع وجعله عامّا مطلقا بنصّه على منع تعاطي ” مناجاة الأرواح ” وكلّ ما له علاقة بعلم الغيب والأعمال الأخرى المعيّنة فيه سواء كان تعاطيها ط ببدل أو بدون بدل ،” مثلما جاء حرفيّا في نصّه ، إضافة الى تشديده العقوبة .والنتيجة العمليّة الوحيدة لمشروع القانون هذا ، في حال أنّ المجلس النيابيّ وافق على اقراره ، هو منع الظاهرة الروحيّة منعا تامّا ، مهما كانت الغاية التي تهدف اليها ، حتّى لو أجري لأشرف الأهداف وأسماها كالتنقيب العلميّ مثلا ، أو الاصلاح الخلقيّ والروحيّ ، أو اثبات الحقائق الروحيّة التي شغلت الفلاسفة والحكماء والعلماء والمفكّرين منذ أقدام العصور ، اذ يكفي أن تعتبر السلطة ، أو متسلّم السلطة ، أو الموظّف صاحب الصلاحيّة ، أنّ الظواهر الروحيّة الخارقة التي تتمّ على يدي الدكتور داهش مثلا تدخل في نطاق ” مناجاة الأرواح ” أو في نطاق الأعمال التي ” لها علاقة بعلم الغيب “- وفق فهم المسؤول لهما أو تبعا لما يريد أن يفهم – لكي يلقي القبض عليه بتهمة ارتكاب جرم تعاطي هذه الأعمال ، مهما كانت الغاية من تعاطيها .”
الأنبياء والاتّهامات
ويضيف زعتر :” فضلا عن ذلك ، وعلى سبيل المثال لو افترضنا جدلا أنّ مشروع القانون المذكور الذي أحاله الرئيس بشاره الخوري الى مجلس النوّاب بموجب المرسوم 790 /44 كان قانونا ساريا ومعمولا به زمن السيّد المسيح ، فهل كان هيرودس ومن ورائه هيروديا وأرهاط رجال الدين اليهوديّ المناوئين للسيّدالمسيح ، والمعنيّين بالمحافظة على سلطاتهم ، والمتقوعين في تعصّبهم ، والمحمومين بعدائيّتهم لابن السماء ، المصلح العظيم ، واللذين لم يتردّدوا عن اتّهامه بالسحر وبأنّه بروح رئيس الشياطين يخرج الشياطين ، وبمعاشرة الزناة والخطأة ، وبمخالفة وصايا موسى النبيّ والتجديف والكفر – هل كانوا يتردّدون لحظة واحدة عن اتّهام السيّد المسيح ، إضافة الى اتّهاماتهم الأخرى ، بجرم مخالفة القانون الذي يمنع مناجاة الأرواح وكلّ ما له علاقة بعلم الغيب ، واعتبار ظاهراته الروحيّة الخارقة امّا من قبيل ” مناجاة الأرواح ” أو من قبيل الأعمال التي لها علاقة بعلم الغيب ؟ فلو كانوا يؤمنون بأنّ مصدر معجزاته وعجائبه قوّة روحيّة علويّة مستمدّة من الله عزّ وجلّ لما اضطهدوه ، ولما عذّبوه وحكموا عليه بعقوبة الاعدام صلبا كمجرم مع المجرمين . فيا للعار ويا للمهزلة !
من جهة أخرى , بالإضافة إلى أنّ مشروع القانون هذا مخالف لمبادئ أساسيّة في الدّول الدستوريّة الديموقراطيّة تتعلّق بالحرّيّة الشخصيّة وحريّة الفكر والاعتقاد وحريّة البحث والتنقيب العلميّين في جميع المجالات , بما فيها المجال الروحيّ , كما هو مخالف لمبدإ افتراض حسن النيّة في الأعمال حتّى إثبات العكس مّمن يدّعيه , فإنّ اللجوء إلى سنّ قانون ليكون أداة لمعاقبة فرد والانتقام منه يعتبر من أبشع صور الطغيان والديكتاتوريّةالمقيتة المخالفة لروح التشريع والغاية منه .
زافق إحالة مشروع القانون إلى المجلس النيابيّ تحريك حملة صحافيّة جانية من الافتاءات والأكاذيب بحقّالدكتور داهش غايتها خلق حاجة مصطنعة لإقرار المشروع والضغط على النوّاب للقيام بذلك .
وبالمقابل, قامت جماعة من أصدقاء الدكتور داهش ومحبيّه بتقديم عريضة احتجاجيّة الى المجلس النيابيّ ضدّ المشروع المذكور , محذ ّرين فيها من اعتماده بسبب مخالفته أبسط المبادئ الديمقراطيّة في حريّة البحث والفكر والاعتقاد , ولأنّه لا يستهدف إلاّ فردا واحا هو الدكتور داهش . وجرى توزيع هذا الاعتراض على النوّاب . وقد أحدث مشروع القانون ضجّة في صفوف النوّاب , فقام رئيس المجلس النيابيّ , آنذاك , السيّد صبري حماده , يرافقه النائب أديب الفرزلي , بزيارة الدكتور داهش في 23 آذار 1944 , وكانت دارته تغصّ بجمهور من الشخصيّات والنوّاب الآخرين . وفي تلك الزيارة شاهد المجتمعون ظاهرات روحيّة خارقة لقوانين الطبيعة .
ورغم الضغوط الشديدة التي لا بدّ من ان يكون مقدّمو مشروع القانون قد مارسوها على النوّاب ، فانّ هؤلاء امتنعوا عن مماشاتهم لأنّ لا منطقيّة المشروع الصارخة وهدفه المفضوح يجعلات من اقراره فضيحة ، ومن الموافقين عليه اضحوكة . وربّما كان الانتقاد العنيف الذي وجّهه اليه النائب جبرائيل المرّ معبّرا عن الجوّ العامّ لدى النوّاب ، اذ قال :” انّ مشروع قانون منع قراءة الأفكار ومناجاة الأرواح والتنويم المغنطيسيّ مشروع سخيف لا يمكن اقراره ، اذ لا المجلس النيابيّ ولا القوّات البشريّة يمكنها أن تقف أمام العلم وأمام تطوّره الروحاني .”
وبالنتيجة ، لم يخرج مشروع القانون من دائرة لجنة العدليّة ، بل ظلّ عالقا فيها عدّة أشهر ، الأمر الذي اضطرّ الحكومة أخيرا الى سحبه . وبذلك ، حصد الرئيس بشاره الخوري والمتحالفون معه في هذه القضيّة خيبة مريرة ، وأصيبوا بهزيمة لم يكونوا يتوقّعونها . يمثّل اقتراح مشروع القانون المعروض أعلاه المحاولة القصوى التي لجأ اليها خصوم الدكتور داهش في مخطّط منع الظاهرة الروحيّة الداهشيّة الخارقة من خلال تسخير القانون واستخدامه أداة قمعيّة لمآربهم وغاياتهم الشخصيّة .فمشروع القانون هذا هو مرآة تعكس بوضوح كلّيّ نيّاتهم ومقاصدهم وتعرّيها تعرية تامّة . وبفشل هذه المحاولة لم يبق أمامهم ، تحقيقا لما لم يستطيعوا تحقيقه تحت ستار التغطية القانونيّة مهما كانت واهية ، الاّ ولوج الطرق غير المشروعة بشكل سافر حتّى لو كانت التغطية لها غير مشروعة بحدّ ذاتها ولا تستند حتّى ظاهريّا الى أيّ قانون . وكان منهم ، في تلك المرحلة من القضيّة ، من لم يتورّع عن الدعوة الصريحة ، على صفحات الجرائد ، الى خرق القانون ومخالفته اذا كان ذلك ضروريّا للنيل من الدكتور داهش . فهل هناك احتقار أكبر للدستور والقانون ولارادة الشعب اللبنانيّ ولجميع القيم الديمقراطيّة من تلك الدعوة التي تظلّ في مطلق الأحوال أقلّ خطورة من أعمال المسؤولين الذين تصرّفوا وفقا لها ،فتمّ ما تمّ من اعتداء على الدكتور داهش واعتقال اعتسافيّ له ، وهو الضحيّة بينما ترك الجناة احرارا ، ثمّ جرّد سرّا من جنسيّته اللبنانيّة وشرّد بوسائل مخالفة للدستور وللقوانين والأعراف الداخليّة والدوليّة ولأبسط المبادىء الانسانيّة والقانونيّة ، بل حتّى لمبادىء العدالة الطبيعيّة البديهيّة ، وبوحشيّة لم يسبق لها مثيل ، على ما سنوضّحه في الفصل التالي ؟
في دعوى الابطال لتجاوز حدّ السلطة التي قدّمها وكلاء الدكتور داهش القانونيّون الى مجلس شورى الدولة اللبنانيّ ، بتاريخ 4 تشرين الثاني 1944 ، ضدّ الحكومة اللبنانيّة طعنا بمرسوم اخراجه من الأراضي اللبنانيّة ( المرسوم رقم 1842k تاريخ 8/9/1944 ، ) وجّه هؤلاء الوكلاء اتّهاما صريحا ومباشرا الى الحكومة اللبنانيّة مفاده أنّها ” عندما لم تنجح باستصدار القانون الذي فكّرت باستصداره ، وهو مشروع قانون منع مناجاة الأرواح الذي لم يكن المقصود منه سوى منع الدكتور داهش من اجراء ظاهراته الروحيّة الخارقة ، لجأت الى وسائل أخرى مخالفة للقانون للوصول الى هذه الغاية ،” مثلما جاء حرفيّا في الصفحة الأولى من استدعاء الدعوى . وبعد أن بيّن وكلاء الدكتور داهش أوجه اللامشروعيّة التي تعتور مرسوم الابعاد ، والكافية بحدّ ذاتها لابطاله ، مضوا على سبيل الاستطراد والافاضة في البحث الى التأكيد في صفحة 5 من استدعاء الدعوى بأنّه :
” لا يمكن القول بأنّ وجود الدكتور داهش في الأراضي اللبنانيّة هو خطر على الأمن ما لم يرتكب جرما أو يكن ممّن اعتادوا الجرائم ويخشى أن يكرّروها . وفخامة رئيس الجمهوريّة لم يقل ، في مرسوم الابعاد ، انّ الدكتور داهش قد ارتكب جرما أو أنّه من المجرمين المخيفين . ولكنّه قال :” انّ وجوده في الأراضي اللبنانيّة من شأنه احداث اضطراب واخلال في السكينة العامّة ،” دون بيان ايّ سبب كان يحمل على التسليم بصحّة هذا الزعم .
ولا يسع فخامة رئيس الجمهوريّة أو غيره ان يقول بأنّ الدكتور داهش قد اقترف جرما أو أتى حركة مخلّة بالنظام أو الأدآب الاّ اذا اعتبرت مناجاة الأرواح جريمة او عملا مخلاّ بالنظام أو الآداب ، وعوقب بالابعاد لأنّه وسيط روحانيّ يتّصل بالأرواح . وهذا ما لا يمكن التسليم به .”
لم تستطع الحكومة اللبنانيّة أن تقول ، بواسطة ممثّلها القانونيّ في ردّها على هذا التحدّي الصريح الوارد في الدعوى المذكورة أعلاه ، انّ الدكتور داهش قد اقترف جرما ما أو انّه أتى حركة مخلّة بالنظام أو الآداب ، وهذا كاف بحدّ ذاته لدحض جميع الافتراءات والتخرّصات المغرضة التي ملأ بها خصوم الدكتور داهش صفحات جرائدهم الصفراء . والغريب أنّ الحكومة اللبنانيّة اعترفت في ردّها ذاك بأنّ مبرّر ابعاد الدكتور داهش عن لبنان هو ممارسته لما تسمّيه ” مناجاة الأرواح ” وبالتالي فغاية الابعاد لم تكن الاّ منعه من اجراء ظاهراته الروحيّة في الأراضي اللبنانيّة . والحكومة اللبنانيّة باعترافها هذا انّما تعترف بمخالفتها لأحكام قانون 9 أيّار 1939 ، المتعلّقة ب” مناجاة الأرواح ” و” كلّ ما له علاقة بعلم الغيب “، ذلك القانون الذي عجزت عن اتّهام الدكتور داهش بمخالتفه ، كما تعترف في الآن نفسه بمخالفتها للمبدأ – القاعدة في النّظم الديمقراطيّة الحديثة ، ألا وهو مبدأ شرعيّة الجرائم والعقوبات . فالحكومة اللبنانيّة بابعادها للدكتور داهش بحجّة ممارستها لما تسمّيه ” مناجاة الأرواح ” تكون قد أنزلت به عقوبة من دون محاكمة ومن أجل أعمال يبيحها القانون ولا يعاقب عليها الاّ اذا كانت غايتها الكسب المادّيّ ، وهو ما لم تستطع اتّهامه به أو تقديمه للمحاكمة من أجله . ولا يمكن اعتبار المرء مخلاّ بالنظام العامّ اذا كان يمارس حقوقه وحرّيّاته القانونيّة في حدود القانون وأحكامه .
الحقيقة
هذه هي حقيقة مسألة ” مناجاة الأرواح ط في القانون اللبنانيّ ، وحقيقة الدوافع والأسباب لاثارتها في قضيّة الدكتور داهش . واذا كان محامو الدكتور داهش أو بعض أصدقائه ومريديه قد لجأوا الى تذكير الحكومة اللبنانيّة بموقف الحكومات ، في الدول الديمقراطيّة المتقدّمة ، من البحوث النفسيّة والروحيّة ، وباطلاقها الحرّية لها ، وبأنّ هناك علماء مرموقين اهتمّوا بالبحث في ميدان الشؤون النفسيّة والروحيّة الماورائيّة وبدراسة الظاهرات الروحيّة و” مناجاة الأرواح ” ، فما ذلك الاّ لايقافها عن متابعة اضطهاد الدكتور داهش والظاهرة الروحيّة الداهشيّة ، وبالتالي حفاظا على حقّ الدكتور داهش وحرّيّته في اجراء ظاهراته الخارقة في اطار القانون ، وتأمينا لحقهم وحقّ كلّ باحث عن الحقيقة في دراسة هذه الظاهرات الروحيّة الداهشيّة الخارقة .ولا ينتقص من حجّة أنصار الدكتور داهش أو محبيّه ، اذا كان بعضهم يؤمن حقّا بامكان ” مناجاة الأرواح ” التي تنفيها العقيدة الداهشيّة نفيا قاطعا ، أو يعتقد فعلا بوجود علم صحيح اسمه علم ” مناجاة الأرواح ” ، اذ انّ المسألة المطروحة لم تكن مسالة صحّة ” مناجاة الأرواح ” بشكل عامّ أو صحّة وجود علم صحيح اسمه علم ” مناجاة الأرواح ” بل المسألة المطروحة هي مسألة حقّ الدكتور داهش المشروع باجراء ظاهراته الروحيّة الخارقة في ظلّ التشريع المعمول به . والأمر المهمّ أنّ الحكومة عجزت بتحقيقاتها المتكرّرة عن تقديم الدليل على مخالفة الدكتور داهش لقانون 9 أيّار 1939 ، أو أيّ نصّ قانونيّ قضائيّ آخر ، لأنّ الظاهرة الروحيّة الداهشيّة لا تقع تحت قبضة القواني السارية ، وهي ظاهرة واقعيّة ملموسة . أمّا أمر تفسيرها وتحديد مصدرها ، فمتروك للباحث ولمدى تجرّده ، يمارس في ذلك حقّه ، في اطار الحريّة المعترف له بها قانونا بموضوعيّة ومن دون الانحدار الى السفاسف وتفاهات التهجّم الرخيص والآراء الاعتباطيّة التي لا تستند الى دليل ، والتي قد تعبّر عن عمى تعصّبيّ أو مركّبات نقص وأمراض نفسيّة متأصّلة لدى بعض الحاقدين .”
المرسومان 1822 و1842 والمخالفة الصارخة
يتابع المحاميان خليل وفارس زعتر مطالعتهما القانونيّة في قضيّة الدكتور داهش معتبرين انّ تجريده من الجنسيّة اجراء تعسّفيّ أقدمت عليه السلطة اللبنانيّة آنذاك ، اذ قام الرئيس بشاره الخوري باصدار المرسوم رقم1822 في أيلول 1944 ، وقضى فيه باسقاط الجنسيّة اللبنانيّة عن داهش وابعاده خارج الحدود ، مغتصبا بذلك مبدأ الفصل بين السلطات ، ضاربا بالسلطة التشريعيّة عرض الحائط ، وكذلك بالدستور اللبنانيّ وبالمادّة السادسة التي تنصّ على الجنسيّة اللبنانيّة وطريقة اكتسابها وحفظها وفقدانها ، فيقولان : ” ما يؤكّد أنّه لم يعتقل الاّ لتنفيذ مؤامرة لتجريده من جنسيّته وتشريده خارج لبنان هو أنّ معاملة التجريد من الجنسيّة بدأت بصورة سرّيّة بتاريخ القاء القبض عليه في 28 أب 1944 . وعندما صدر قرار البعاد بصورة سرّيّة أيضا ، استردّت مذكّرة التوقيف في 9 أيلول 1944 . الاّ أنّ قرار استردادها لم يعرف به الدكتور داهش أو ممثّلاه القانونيّان ، بل سلّم الى رجال البوليس الذين حضروا في الساعة العاشرة ليلا الى ” سجن الرمل ” ، فأتّخذوا الدكتور داهش تنفيذا لاخراجه من البلاد .
وخلاصة الأمر أنّ الرئيس بشاره الخوري أصدر في 6 أيلول 1944 المرسوم رقم 1822 الذي يعطي ، بموجبه مثلما جاء في نصّه حرفيّا : ” لرئيس دوائر النفوس أن يشطب القيود المدرجة بغير حقّ بعد اجراء التحقيق وأخذ موافقة وزير الداخليّة .” ومع انّ المراسيم التي لها شكل المراسيم العامّة لا تنفّذ ، وبالتالي لا تصبح سارية المفعول الاّ بنشرها في الجريدة الرسميّة ، ومن تاريخ هذا النشر ، فانّ المرسوم 1822 الذي صدر بتاريخ 6 أيلول 1944 ” بصيغة ” المراسيم العامّة لم ينشر في الجريدة الرسميّة الاّ في 13 أيلول 1944 ، ومع ذلك فقد طبّقه رئيس دوائر النفوس على الدكتور داهش في اليوم التالي لصدوره ، أي في 7 أيلول 1944 ، قبل ستّة أيّام من نشره ونفاذه . هذا التطبيق الباطل قانونا لمرسوم باطل شكلا وأساسا يؤكّد أنّ المرسوم 1822 قد صدر ليطبّق خصّيصا على الدكتور داهش .
وفي اليوم التالي مباشرة لتطبيق رئيس دوائر النفوس في 7 أيلول 1944 للمرسوم 1822 ، الصادر في 6 أيلول 1944 ، أصدر الرئيس بشاره الخوري المرسوم 1842 ، بتاريخ 8 أيلول 1944 ، يأمره فيه باخراج الدكتور داهش من ” أراضي الجمهوريّة اللبنانيّة “. وفي 9 أيلول 1944 ، وهو اليوم التالي مباشرة لصدور مرسوم الاخراج من البلاد ، رقم 1842 ، تاريخ 8 أبلول 1944 ، استردّت مذكّرة توقيف الدكتور داهش بالقرار رقم 940 /235 ، وسلّمت مذكّرة الاسترداد الى عناصر الشرطة المكلّفين بتنفيذ مرسوم الاخراج من البلاد . فحضروا ليلا الى ” سجن الرمل ” – باستيل لبنان – وبمخالفة صريحة لقوانين السجون وأمكنة التوقيف ، أخذوا الدكتور داهش لا ليطلقوا سراحه عملا بقرار استرداد مذكّرة التوقيف ، بل لاخراجه من البلاد وتشريده عملا بمرسوم الاخراج رقم 1842 . ومع أنّ هذا المجال ليس المجال المناسب لاجراء دراسة قانونيّة للاجراءات المذكورة أعلاه ، لا بدّ لنا ، توخّيا للفائدة ، من الادلاء ببعض الملاحظات الايضاحيّة على سبيل المثال لا الحصر :
مخالفة المبادىء والقوانين
أ – انّ المرسوم 1822 ، تاريخ 6 أيلول 1944 ، مخالف بصورة صريحة للمادّة السادسة من الدستور اللبنانيّ التي هي أولى مواد الفصل الثاني من الدستور المتعلّق بحقوق اللبنانيّن وواجباتهم ، والتي تنصّ :
المادّة 6 : انّ الجنسيّة اللبنانيّة وطرقة اكتسابها وحفظها وفقدانها تحدّد بمقتضى القانون .”
فالمرسوم 1822 ليس قانونا ، بل هو مرسوم تنظيميّ ، من حيث الشكل على الأقل . وهو بنصّه على طريقة لفقدان الجنسيّة اللبنانيّة يكون مخالفا للمادّة 6 من الدستور .
ب – المرسوم 1822 مخالف لمبدأ فصل السلطات ، ويشكّل اغتصابا لصلاحيّة السلطة الاشتراعيّة ولمبادىء أساسيّة في الدول الحديثة تجعل حقوق المواطنين وحرّيّاتهم في حمى القانون والقضاء ، وهذا ما أكّده مجلس شورى الدولة في قراره رقم 29 ، تاريخ 12 حزيران 1945 ، في هذه القضيّة .
ج – المرسوم 1822 مخالف للمبادىء القانونيّة العامّة وللقوانين والأنظمة التي ترعى مناعة قيود سجلاّت الاحصاء والأحوال الشخصيّة ، والتي بموجبها يحظّر على الادارة أن تغيّر في قيود السجلاّت التي تمثّل حقوقا مكتسبة لأصحابها الاّ بواسطة أحكام قضائيّة تصدر وفق الأصول والاجراءات القضائيّة المرعيّة ، وبعد تأمين جميع الضمانات لأصحاب العلاقة .
د –انّ صدور المرسوم 1822 في 6 أيلول 1944 ، وتطبيقه في اليوم التالي لصدوره ، أي في 7 أيلول 1944 ، من قبل رئيس دوائر النفوس على الدكتور داهش ، قبل ستّة أيّام من تاريخ نشره في الجريدة الرسميّة ، ونفاذه في 13 أيلول 1944 – كلّ ذلك يؤكّد أنّه قد صدر ” مرسوم عامّ ليطبّق على الدكتور داهش ، أي انّه عمل فردي تحت ستار مرسوم عامّ ، الأمر الذي يشكّل اساءة فاضحة لاستعمال السلطة .
ه – انّ الهدف من معاملة التجريد الاعتسافيّ من الجنسيّة عن طريق اصدار المرسوم 1822 ، ومن تطبيقه في اليوم التالي ، قبل نشره وسريانه قانونا ، على الدكتور داهش ، هو تحقيق اخراج الدكتور داهش من الأراضي اللبنانيّة ، اذ لا يمكن اخراج المواطن من وطنه عملا بالقوانين الداخليّة والدوليّة التي تحظّر ذلك . ولذلك كان ضروريّا ازالة العقبة التي تقف دون تحقيق الرغبة باخراج الدكتور داهش من لبنان ، والمتمثّلة بجنسيّته اللبنانيّة . ولو لم تكن جنسيّة الدكتور داهش ثابتة ، ولا ريب فيها ، لما لجأ بشاره الخوري الى مخالفة الدستور واغتصاب سلطة تشريعيّة والى مخالفة كلّ القواعد العامّة والقوانين والأنظمة المشروعة التي تكفل حماية الجنسيّة ومناعة قيود السجلاّت المتعلّقة بها ، وذلك باصدار للمرسوم 1822 ليطبّق خصيّصا ، في اليوم التالي لصدوره ، رغم عدم نفاذه ونشره ، على الدكتور داهش ، وليسارع في اليوم التالي لتطبيقه الى اصدار مرسوم الاخراج من البلاد ( المرسوم 1842 ، تاريخ 8 أيلول 1944 ).
و – انّ هذه الأعمال ( أي المرسوم 1822 ، تاريخ 6 أيلول 1944 ، وقرار رئيس دوائر النفوس ، تاريخ 7 أيلول 1944 ، والمرسوم 1842 ، تاريخ 8 أيلول 1944 ) صدرت بصورة سرّيّة تامّة ، ونفّذت بصورة سرّيّة تامّة أيضا ، ولم يعلم بها الاّ المشتركون باصدارها وتنفيذها . وقد أكّد مجلس الشورى أنّ صاحب العلاقة ، الدكتور داهش ، لم يعلم بها قبل تنفيذها بحقّه . فهل هناك أفظع من ذلك : أن يجرّد انسان بشطحة قلم من أقدس حقوقه ، ويشرّد ، فيجد نفسه بدون جنسيّة وبدون ملجأ ، بعيدا عن بلاده وأهله وأصدقائه ، وذلك من دون أن يعلم بالاجراءات المتّخذة بحقّه الاّ بعد تنفيذها !
ز – والأسوأ من كلّ ذلك هو أنّ الحكومة رفضت اعطاء صورة أو نسخة عن قرار رئيس دوائر النفوس الى وكلاء الدكتور داهش في لبنان لتقديم القرار مع اعتراضهم عليه الى مجلس شورى الدولة . وقد رفعوا الشكوى من ذلك صراحة في لوائحهم أمام مجلس شورى الدولة عبثا . وعدم اعطاء نسخة عن قرار رئيس دوائر النفوس هو موقف اعتسافيّ خطير يعبّر أبلغ تعبير عن عدائيّة انتقاميّة ، وهو مخالف لأبسط مبادىء القانون . فمن حقّ الدكتور داهش ووكلائه القانونيّين أن يطّلعوا على هذا القرار لممارسة حقوقهم المشروعة في الطعن به أمام مجلس شورى الدولة ، ومن واجب رئيس دوائر النفوس أن يعطيهم نسخة عن القرار ، كما من واجب الحكومة ومجلس الشورى أن يأمرا بتقديم نسخة عنه . ومن قرار مجلس شورى الدولة ، رقم 29 ، تاريخ 12 حزيران 1945 ، يتبيّن بوضوح أنّ قرار رئيس دوائر النفوس لم يقدّم الى مجلس الشورى . وموقف الادارة المتعنّت هذا الذي لا مبرّر له على الاطلاق تنكشف أسبابه بجلاء تامّ لدى الاطلاع على معاملة الشطب . فمن الاطلاع عليها يظهر ما يلي :
انّ قرار ( أو مطالعة ) رئيس دوائر النفوس ( الاحصاء والأحوال الشخصيّة ) الذي ارتأى بموجبه شطب قيود الدكتور داهش وعائلته من سجلاّت اللبنانيّين ونقلهم الى سجلاّت الأجانب ، وهو القرار الصادر بتاريخ 7 أيلول 1944 ، لم يقترن بموافقة وزير الداخليّة الاّ في 14 أيلول 1944 . أمّا معاملة الشطب فلم تجر الاّ بتاريخ 22 أيلول 1944 .
وبالتالي ، فانّ الدكتور داهش كان ، حتّى من الواجهة الشكليّة ، ما زال لبنانيّا استنادا الى قيود سجلاّت المقيمين اللبنانيّين عندما صدر مرسوم اخراجه من لبنان ( المرسوم 1842 ) ، بتاريخ 8 أيلول 1944 ، وعندما نفّذ هذا المرسوم بتاريخ 9 أيلول 1944 . وبتعابير أخرى ، فانّ مرسوم الابعاد ، رقم 1842 ، يكون قد صدر في 8 أيلول 1944 بحقّ مواطن لبنانيّ ، ونفّذ في 9 أيلول 1944 بحقّ هذا المواطن البنانيّ أيضا .
المرسوم الباطل
وبما أنّ صحّة الأعمال الاداريّة ومشروعيّتها تقدّران بتاريخ صدورها ، فانّ المرسوم 1842 وتنفيذه بحقّ مواطن يعتبران عملين غير مشروعين وباطلين . وهذا سبب ومصدر اضافيّان من أسباب ومصادر لا مشروعيّة مرسوم الابعاد وتنفيذه ، ما كان بامكان مجلس الشورى تجاهلهما . ولذلك تمنّعت الادارة بتعنّت وتعسّف عن اعطاء نسخة عن قرار الشطب ، لأنّ من شأنه أن يكشف عن الكيفيّة التي تمّت فيها معاملة الشطب وعن تاريخ اتمامها ، مع ما يترتّب على ذلك من نتائج وآثار . ولذلك لم يذكر مجلس الشورى أيضا في قرار رقم 29 ، تاريخ 12 حزيران 1945 ، أنّه اطّلع عليه . وتعميما للفائدة ، نورد فيما يلي نصّ ” قرار الشطب ” بالمعاملة رقم 1543 :
قرار الشطب بالمعاملة رقم 1543
بناء على المرسوم رقم 1822 تاريخ 6 أيلول 1944 . بناء على تحقيقات مفوّض الأمن تحت رقم 1206، تاريخ 7 /9/1944 .
بناء على مطالعة رئيس الاحصاء والأحوال الشخصيّة تاريخ 7 /9/1944 .
بناء على موافقة مدير الداخليّة ووزير الداخليّة رئيس مجلس الوزراء تحت رقم 10471 تاريخ 14/9/1944.
تمّ شطب اسم سليم موسى العشّي وعائلته من سجلاّت المقيمين ونقلوا الى سجلّ أجانب المصيطبة برقم 1063 /3071 ، من التابعيّة الفلسطينيّة بالمعاملة رقم 1543 ، تاريخ 22/9 /1944 .
واذا كان شرّ البليّة ما يضحك ، فانّ ممّا يضحك في قرار الشطب هو عدم الاكتفاء بتجريد الدكتور داهش وعائلته من الجنسيّة اللبنانيّة عن طريق شطب قيودهم من سجلاّت المقيمين ( اللبنانيّين ) ، بل اعتبارهم من التابعيّة الفلسطينيّة ونقلهم الى سجلّ أجانب المصيطبة من التابعيّة الفلسطينيّة . لقد اعتبرتهم الادارة الجانية من التابعيّة الفلسطينيّة تغطية لمسؤوليّتها وتستّرا عليها حتّى لا ينكشف للرأي العامّ بالعين المجرّدة أنّ الدكتور داهش قد جرّد بهذه الطريقة الاعتسافيّة غير المشروعة من جنسيّته الوحيدة التي هي الجنسيّة اللبنانيّة ، وترك بدون جنسيّة ، وشرّد خارج الأراضي اللبنانيّة .
فالادارة المرتكبة لهذه الجناية كانت تعلم علم اليقين انّ ما دوّنته بشأن التابعيّة الفلسطينيّة المزعومة للدكتور داهش غير صحيح ، مثلما كانت تعلم أنّ تجريده من جنسيّته لا يرتكز على واقع أو قانون .
المنشورات السوداء
ويضيف الأخوان زعتر : لم يقف الدكتور داهش ولا الداهشيّون مكتوفي الأيدي ازاء هذه الجريمة . فالدكتور داهش عاد الى لبنان ، بعد أن أنقذته العناية الالهيّة ، وشنّ مع الداهشيّين حملة ساحقة في محكمة الرأي العامّ ، فطبعوا ونشروا 66 كتابا أسود ، و165 منشورا أسود ، عرضوا فيها على الرأي العامّ وقائع هذه القضيّة وابطالها وأسبابها ومسبّباتها ودوافعها . ولم يكتفوا بذلك ، بل كشفوا سلسلة الارتكبات والفضائح التي غصّ بها عهد بشاره الخوري . وقد بذل الداهشيّون في طبع هذه الكتب والنشرات وتوزيعها أموالهم ووقتهم وراحتهم ، وتحمّلوا أقصى الاضطهادات دون أن يلينوا ، لأنهم كانوا على يقين من أنّهم يدافعون عن قضيّة الحقّ والحريّة في قضيّة الدكتور داهش .وعندما صدرت الكتب والنشرات السوداء ،كان بشاره الخوري في أوج سلطانه ، وكانت أكبر الهامات تنحني له في لبنان .وقد اكّد الداهشيّون المرّة تلو المرّة في هذه المنشورات السوداء أنّ الحقّ يؤخذ ولا يستجدى ، وأنّ جنسيّة الدكتور داهش ستعود اليه بقوّة الحقّ وبقوّة البأس أيضا . وعلى سبيل المثال ، فقد جاء في الصفحة 8 من النشرة السوداء ” أطلب محاكمتي “التي صدرت عامّ 1945 ، باسم ماري حدّاد ما يلي :
” ولكنّني أؤكّد لهنري فرعون بأن الجنسيّة ستعود بالرّغم منه وبالرّغم من محاولاته الشائنة ومحاولات من يلف لفّه . والمستقبل الآتي سيريه صدق أقوالي .” وفي الكتاب الأسود ” كشف الستار وفضح أسرار العصفوريّة وما يرتكب فيها من جرائم رهيبة باسم العطف على البؤساء والمنكوبين ” لماري حدّاد ، الصادر عام 1946 ، بيروت ، جاء في الصفحة 2 منه ما يلي :
” وليعلم هؤلاء الكذبة المراؤون ، بل ليتأكّد لهم أنّ جنسيّة الدكتور داهش ستعاد اليه بقوّة الحقّ وبقوّة البطش أيضا . فمن أخذ بالسيف فبالسيف يؤخذ . والعبد الذليل هو من يرضخ ويحني الهامة بمذلّة معيبة . “
وجاء دوام هذه الحالة من المحال . وانّ فوضى الحكم التي أصبح لبنان يتخبّط بها بفضل بشاره الخوري وأساليبه سيكون لها شأن خطير ، وستظهر نتائجه قريبا ، فلينتظروها .
وأخيرا ، انّ لكلّ أمر غاية ، ولكلّ بداية نهاية . وعندما تأتي بدايتنا تتمّ نهايتهم ، فتقوّض آرائك حكمهم ، ويردّ كيدهم الى نحرهم .”
استعادة الجنسيّة
بعد سقوط عهد بشاره الخوري ، عرضت قضيّة الدكتور داهش على رئيس الجمهوريّة المنتخب ، كميل شمعون، وعلى مجلس الوزراء . وبناء على دراسة قانونيّة أعدّها القاضي الدكتور أنطوان بارود ممثّلا دائرة القضايا والتشريع في وزارة العدل ، بتاريخ 30 كانون الأوّل 1952 ، بيّن فيها لامشروعيّة الاجراءات المتّخذة بحقّ الدكتور داهش ، أصدر مجلس الوزراء اللبنانيّ ، في 6 شباط 1953 ، قرارا ألغى بموجبه قرار رئيس مصلحة الاحصاء والأحوال الشخصيّة الذي قضى بشطب قيد الدكتور داهش من سجلّ المصيطبة ونقله الى سجلّ الأجانب ، بموجب المعاملة المؤرّخة في 22 أيلول 1944 ، رقم 1543 . وأمر مجلس الوزراء بقراره ” اعادة قيد ” الدكتور داهش وعائلته الى ما كان عليه واعتبارهم من الجنسيّة اللبنانيّة مثلما جاء حرفيّا في قرار مجلس الوزراء .
وبعد الغاء قرار الشطب واعادة الجنسيّة أصدر رئيس الجمهوريّة ، الأستاذ كميل شمعون ، بتاريخ 24/3/1953، مرسوما يحمل الرقم 1453 ألغى بموجبه مرسوم الابعاد رقم 1842 الذي أصدره بشاره الخوري بتاريخ 8 أيلول 1944 ؛ وقد نشر هذا المرسوم في ملحق العدد 13 من الجريدة الرسميّة ، أوّل نيسان 1953 .
وبعد استعادة الدكتور داهش لحقوقه السليبة في أوائل عام 1953 ، بقي مقيما اقامة دائمة مستمرّة في وطنه لبنان حتّى العام 1976 ، اذ غادره في تلك السنة الى الولايات المتّحدة الأمريكيّة ، ثمّ عاد اليه في العام 1978 ، وبقي فيه حتّى العام 1980 . وطوال هذه المدّة كان منزل الدكتور داهش في بيروت مقصدا للشخصيّات والمثقّفين والعامّة وللصحفيّين الذين قابلوه وعاينوا ظاهراته الروحيّة ، وصوّروها بأثناء حدوثها ، وكتبوا التقارير عن زياراتهم وأحاديثهم ومشاهداتهم في الصحف والمجلاّت التي يعملون فيها .”
من يعيد سمعة داهش ؟
في كتابه ” جريمة القرن العشرين ” تناول المحامي خليل زعتر قضيّة الدكتور داهش معتبرا أنّ اعادة الجنسيّة للدكتور لا تكفي لأنّها حقّه الطبيعيّ . ولكن يتسائل المحامي زعتر هل استعادة داهش لجنسيّته هي ردّ لاعتباره خصوصا بعدما تعرّضت سمعته للاغتيال عبر الاشاعات الملفّقة التي خصّص عهد الرئيس بشاره الخوري معظم وقته في سبييلها .
” صحيح أنّ الجنسيّة اللبنانيّة أعيدت الى الدكتور داهش بعد أن أبطل مجلس الوزراء برئاسة الأمير خالد شهاب الاجراءات التعسّفيّة التي اتخذها الشيخ بشاره الخوري ، وأظهر عدم قانونيّتها استنادا الى دراسة القاضي أنطوان بارود القيّمة .
وصحيح ، أيضا ، أنّ داهش عاد الى لبنان معزّزا مكرّما بعد أن خلع الشعب اللبنانيّ بشاره الخوري عن أريكة حكمه ، هذا الرئيس الذي أصبح اسمه مرادفا لكلّ أنواع الفضائح والتجاوزات والظلم والفساد .
ولكن ، هل يكفي هذا ؟ هل تعتبر اعادة الجنسيّة الى الدكتور داهش نهاية المطاف ؟ وهل استردّ الدكتور داهش حقّه كاملا غير منقوض ؟
ما أراه هو أنّ وجها من وجوه قضيّة الدكتور داهش قد تحقّق ، وهو الوجه السلبيّ المتمثّل بردّ الجنسيّة اليه ، وعودته الى لبنان بابطال مرسوم الابعاد الذي أصدره بشاره الخوري . ولكن تبقى لهذه القضيّة وجوه أخرى لم يتحقّق منها شيء ، مع أنّها أمور أساسيّة جوهريّة ، وفي الوقت نفسه بديهيّة ، وذلك بالرغم من بعض ” العقبات”.الاّ أنّها عقبات غير مستعصية ، بل يمكن تذليلها والتغلّب عليها باصدار تشريع خاصّ من المجلس النيابيّ يجيز اعادة النظر قضائيّا في قضيّة الدكتور داهش ، واجراء محكمة جميع المشتركين والمحرّضين والمساهمين في جريمة تشريده وابعاده ، وذلك بصورة علنيّة أمام جميع أفراد الشعب . ومن ثمّ تعلن مسؤوليّتهم ، ويشهّر بهم ، ويحكم للدكتور داهش بالتعويضات المعنويّة والمادّيّة عن العذاب والتنكيل والاضطهاد ابّان حكم بشاره الخوري . هكذا ، فقط ، يكون الدكتور داهش قد وصل الى بعض حقوقه . وهكذا ، فقط ، نكون قد أزلنا بعض آثار تلك الجريمة النكراء .
قد يقول قائل :” ولماذا اعادة المحاكمات ما دامت اجراءات بشاره الخوري أصبحت باطلة وفي مطاوي العدم ؟”
وعليه أجيب :” صحيح أنّ اجراءات الخوري أبطلت ، انّما الرأي العامّ ما زال متأثّرا بالدعايات المغرضة ، وما برح عالقا في ذهنه بعض صور الماضي السوداء، صور تشويه سمعة الدكتور داهش في المجالس العامّة والخاصّة وعلى صفحات الجرائد . فاذا أعيدت المحاكمات بشكل مجرّد ونزيه أمام الرأي العامّ ، يظهر بطلان الاجراءات وعسفها قضائيّا ، كما أبطلها مجلس الوزراء بشكل اداريّ .
واذ ذاك ، ينشر الحكم الذي يصدره القضاء بكافّة وسائل الاعلام ، ونعيد بعض الاعتبار الى الدكتور داهش ، ونفيه بعض حقّه …”
وقد يقول قائل :” ولماذا اعادة النظر واعادة المحاكمات ما دام الزمن قد طوى هذه الجريمة ، ولفّها النسيان ، وأصبحت في ذمّة التاريخ ؟”
كالاcallas ودريفوسdreyfus وفوVaux
ويضيف زعتر :” انّ العدالة توجب الاقتصاص من المجرمين ، والتاريخ يحوي ، في طيّاته وبين صفحاته ، جرائم – وان لم تبلغ جسامتها جسامة الجريمة النكراء التي ارتكبها بشاره الخوري – أعيدت المحاكمات فيها ، وظهرت براءة أصحابها على الملا ، حتّى بعد أن غيّتهم وضمّهم الثرى ، وأعيد الاعتبار اليهم ، وحوكم خصومهم ، من جديد ، وحكم عليهم .
والتاريخ الحديث حافل بمحاكمات من هذا النوع أشير الى بعضها باختصار ، مع لفت النظر مجدّدا الى أنّ الدكتور داهش لم يحاكم ، ولم يصدر بحقّه أيّ حكم أو عقوبة ، بل اعتقل وأوقف مدّة ثلاثة عشر يوما حتّى صدر مرسوم الابعاد . أمّا القضايا التي سأعرضها ،فقد جرت فيها محاكمات ، وان كانت صوريّة ، أو اعتورتها الأخطاء ، ورافقتها الاجراءات التعسّفيّة لغايات أملتها السياسة الغاشمة أو مصلحة الدولة أو التعصّب الدينيّ الأعمى . ومن تلك القضايا ، قضيّة جان كالا ( 1761 )j callas
اتّهم جان كالا زورا ، وحكم عليه بالسجن المؤبّد . وقد حمل لواء الدفاع عنه الكاتب الفرنسيّ الكبير فولتير الذي اثار هذه القضيّة في جميع الأوساط ، وأصدر فيها كتابا دعاهL affaire callas هاجم فيه الطريقة التي جرت فيها المحاكمة والاجراءات التعسّفيّة ، والحكم الذي صدر فيها بعيدا عن مقتضيات العدالة ، لأنّه مجرّد من الأسباب التي تبرّره . ونتيجة لهذه المساعي ، أعيدت محاكمة جان كالا بعد سنتين ، وأحيلت القضيّة على محكمة التمييز التي أعلنت بالاجماع ، في 9/3/1765 ، براءة المتّهم . وأقرّ الملك للعائلة مبلغا من المال كتعويض عادل عمّا لحقها من أذى وضرر وعذاب .
وثمّة قضيّة أخرى هي قضيّة بيار فوp vaux ، الذي حكم عليه بالأشغال الشاقّة المؤيّدة رغم كونه بريئا ،وزجّ في السجن ، وتوفّي فيه . ولكن أحد أولاده تابع حمالاته لاظهار براءة والده . واستطاع ، بعد مرور خمس وأربعين سنة ، أن يعيد المحاكمة حتّى ظهرت براءة والده . وأعيد الاعتبار للضحيّة ، رغم مرور خمس وأربعين سنة ، لأنّ الضمير يأبى على الانسان أن يقبل باستمرار حكم الظلم ، ولا يني يحرّك الطاقة البشريّة للعمل على رفعه .
ومن أشهر القضايا التي أعيدت فيها المحاكمة ، في العصر الحديث ، قضيّة الضابط الفرنسي ألفرد دريفوس الذي حكم عليه المجلس الحربيّ الفرنسيّ بالسجن ، وجرّد من رتبته العسكريّة ، نتيجة محاكمة سرّيّة لم تتأمّن فيها الضمانات اللازمة لحقّ الدفاع . وصدر الحكم استنادا الى وثائق سرّيّة مزوّرة لم توضع موضع المناقشة العلنيّة ،كما تقتضي الاصول القانونيّة ، وذلك بتاريخ 11 كانون الأوّل 1894 . وبعد الحكم ، ظهرت عناصر ودلائل جديدة كلّها تشير الى براءة دريفوس ، والى ضلوع بعض الضبّاط الكبار في الجريمة المنسوبة اليه .فتطوّع الكاتب الشهير اميل زولا ( 1840 – 1902 ) للدفاع عنه . وأطلق قنبلته في كتاب رفعه الى رئيس الجمهوريّة عنوانه :” أنا أتّهم “، ارتفع فيه من مستوى التوسّل الى مرتبة النصح والارشاد والاتّهام . وقد نشرت جريدة ” لورور “l aurore الفرنسيّة هذا الكتاب بتاريخ 13 كانون الثاني 1898 . وممّا جاء فيه :
” اسمحوا لي ، يا فخامة الرئيس ، وأنا أسير الرعاية التي شملتموني بها يوم استقبالكم ايّاي أن أكون غيّورا على مجدكم ، وأن أقول لكم ، بكلّ صراحة ، انّ نجمكم السعيد ، لغاية الآن ، قد أصبح مهدّدا بأفظع لطخة عار لا يمكن أن تمحى . وسيذكر التاريخ أنّ مثل هذه الجريمة الاجتماعيّة تّمت في في عهدكم .
” واذا كان المجلس الحربيّ قد تجرأ على ذلك ، فأنا أيضا أتجرأ لأقول الحقيقة ، طالما يتغاضى القضاء عن الحكم بالعدل ، لأنّ واجبي يلزمني الكلام لئلاّ أكون مشتركا في الجريمة ،وتكون لياليّ المقبلة مشغولة بطيف ذلك الرجل البريء الذي يعاني ، في سجنه البعيد ، ألوان العذاب عن جرم لم يقترفه .
” ومتى تمّت المأساة التي تتمثّل بادانة بريء وبتبرئة مجرم ، فقل : سلام على مجتمع أصبح في طور الانحلال .”
الى أن يقول :
” وما حركتي هذه سوى وسيلة ثوريّة في سبيل الحقيقة والعدل . وانّ أمنيتي الوحيدة أن تتجلّى الحقيقة باسم البشريّة المتألمة المتعطّشة لمناهل السعادة ، والتي تعي ندائي الملتهب الصارخ من أعماق النفس .فلتتجرّ ا السّلطة على ملاحقتي لكي يجري التحقيق في وضح النهار . انّي أنتظر …”
وعلى الأثر أحيل زولا على المحاكمة بتهمة تحقير رئيس الجمهوريّة والجيش . وحكم عليه بسنة سجن . ولكنّ الرأي العامّ الفرنسيّ ضجّ وثار ، الأمر الذي دفع وزير العدل الى مطالبة النيابة العامّة باعادة النظر في قضيّة دريفوس ، وكانت نتيجة المحاكمة الجديدة اعلان براءته في 12 تمّوز 1906 ، بقرار من محكمة التمييز ( الغرف مجتمعة ) ، فاستعاد دريفوس كرامته وكرامة عائلته ، ومحا العار الذي لحقه . والساحة التي شهدت حفلة تجريده من رتبته العسكريّة شهدت من جديد حفلة اعادة الاعتبار اليه وتقليده وسام الشرف العسكريّ .
زولا في ” البانتيون “
وفي اليوم التالي لبراءة دريفوس ، اجتمع البرلمان الفرنسيّ ، وأصدر فانونا خاصّا بنقل رفات اميل زولا الى مقبرة ” البانتيون ” ليدفن فيه الى جانب عظماء فرنسا ، فارتفع ، بدفاعه عن بريء مظلوم ، الى مرتبة الخلود .
فهل يجتمع مجلس النوّاب اللبنانيّ ، رأس السلطة التشريعيّة ، ويصدر تشريعا خاصّا لاعادة النظر في قضيّة الدكتور داهش ومحاكمة المسؤولين عنها ؟
وهل يثور رجال الفكر والقانون والقضاة وأساتذة الحقوق مطالبين بالاقتصاص من المجرمين ، ومصادرة أموالهم التي جمعوها وثمّروها من استغلال المناصب وعلى حساب مصلحة الشعب ، وضمّها الى أموال الخزانة العامّة أو انشاء مشاريع خيريّة بها لمساعدة المحتاجين والمصابين من أبناء الوطن الذي كانت نكبته الكبرى في الحرب الأهليّة التي اندلعت في 13 نيسان 1975 نتيجة لأعمال أولئك الذين ائتمنهم على مقدّراته في العهد الاستقلاليّ الأوّل ، وهؤلاء الذين ساروا على خطاهم فيما بعد .
انّ السلطة التشريعيّة اليوم مدعوّة الى الاعتراف بخطأ السلطة التشرعيّة في عهد بشاره الخوري لاهمالها التامّ اثارة موضوع الجريمة المرتكبة بحقّ الدكتور داهش والداهشيّين ، وعدم مساءلته عنها وعن سواها من الجرائم والمفاسد الكثيرة التي تمّت ، والتي تمتدّ خيوطها بطريقة أو بأخرى اليه ، والى من تعاون وأسهم معه فيها .”
ويختتم زعتر : ” انّ حكومات العالم ، من شرقيّة وغربيّة ، تعيد النظر اليوم بأخطاء وجرائم ارتكبتها الحكومات السابقة أثناء الحرب العالميّة الثانية وما قبلها وما بعدها ، وتقدّم الاعذار ،وتقدّم حتّى التعويضات الماديّة التي، مهما بلغت ، تكون رمزيّة ، لضحايا تلك الأخطاء والجرائم أو لورثتهم .
هل سيدرك المسؤولون والمثقّفون أهميّة قضيّة الدكتور داهش وارتبطها الوثيق بحياة هذا الوطن ومستقبله ؟
انّ اليوم الذي سيفتح فيه مجلس النوّاب ملفّ هذه القضيّة ، واليوم الذي فيه سيعلن المجلس الظلم الفادح الذي ارتكب بحقّ الدكتور داهش ، ذاك اليوم سيكون ولادة حقيقيّة جديدة للبنان ، لأنّه في ذاك اليوم يكون قد انتصر الحقّ والقانون – حمى الجميع مهما اختلفت أراؤهم – على التعصّب الطائفيّ الأعمى وما يرتبط به من عصبيّات حزبيّة ظلاميّة . في ذلك اليوم تتكسّر وتتحطّم الروح الرجعيّة التي تولّد عنها اضطهاد الدكتور داهش ، وتولّدت عنها محنة لبنان في حربه المدمّرة الدامية .
وبدون تحطيم هذه الروح الكامنة وراء جميع مشاكل لبنان وأمراضه في كافّة النواحي ، فمن العبث الخلاص ، أو التقدّم نحو مستقبل حضاريّ بالفعل .
هل هذا سيحصل ؟ ” انّنا ننتظر …”
الأديب مسّوح ودفاعه عن داهش
يتابع المحامي خليل زعتر نظرته القانونيّة في مسألة اضطهاد داهش معتبرا أنّ هذه القضيّة ليست قضيّة فرد ، بل هي في جوحرها قضيّة الحريّة والديمقراطيّة والدستور في لبنان ، خصوصا وأنّ السلطات آنذاك استغلّت القانون في سبيل الفساد والرشاوي وتزوير الانتخابات في 25 أيّار 1947 . انّ عهد بشاره الخوري هو العهد الذي ارتكب جريمة اغتيال الزعيم أنطوان سعاده عبر المحاكمة الصّوريّة ، المهزلة – المأساة عام 1949 .
لم تكن الجريمة الرهيبة التي اقترفت بحقّ الدكتور داهش جريمة آنيّة ، بل كانت جريمة مستمرّة امتدّت فصولها المتّصلة الحلقات على مدى عشر سنوات ( 1942 – 1952 ) ، وتألّفت من مؤامرة جرميّة ، ومن أفعال جرميّة تمّت مساهمة فيها وتنفيذا لها .وما تزال ذيولها الوخيمة المروّعة وانعكاساتها السلبيّة على الدكتور داهش وعلى حياة لبنان والرأي العامّ فيه تتفاعل حتّى اليوم . ولم تكن هذه الجريمة عاديّة اقترفها فرد أو عدّة أفراد عاديّين بحقّ فرد أو عدّة أفراد أيضا ، بل كانت جريمة غير عاديّة ، اقترفها رأس السّلطة التنفيذيّة الممثّلة برئيس الجمهوريّة بشاره الخوري .
ولم تتمّ هذه الجريمة بوسائل اعتياديّة ، بل كانت اساءة لاستعمال السلطة ، أو بالأحرى السلطات – عبر الحنث بالأقسام الدستوريّة والقانونيّة ، وتهشيم الدستور ودوس القوانين ، ومخالفة أبسط مبادىء حقوق الانسان والمواطن ، فتحوّلت السلطات بيد المؤتمنين عليها الى وسائل لخرق مباشر وصريح لموادّ الدستور والقوانين
التي تحمي الانسان والمواطن وحريّاته الأساسيّة . وهذا يشكّل خيانة كبرى تؤدّي في البلدان الديمقراطيّة الراقية الى اسقاط الرؤساء والاطاحة بالحكومات ، ومحاكمة المسؤولين ، والاّ ثار الشعب ثورة عارمة وجرف في سخطه المتقاعسين عن محاسبتهم على حدّ سواء .
ولم يقتصر الاشتراك في هذه القضيّة على متسلّمي زمام السّلطات العامّة من الشخصيّات الرسميّة ومن انقاد لهم من الموظّفين والقضاة ورجال الأمن ، ولم تكن الصحافةاللبنانيّة ، في هذه القضيّة ، أمينة على رسالتها التاريخيّة بانارة الرأي العامّ ، ومراقبة السّلطات ومتسلّمي زمامها ، وكشف تجاوزاتها ، وانتقادها ، بل على العكس من ذلك ، فانّ وسائل الاعلام اشتركت هي أيضا في هذه الجريمة ، ولم تتطوّع صحيفة واحدة لشجبها . وقد أكّد الدكتور داهش في مقدّمة كتابه ” مختارات ” أنّ جميع الصّحف من يوميّة وأسبوعيّة وشهريّة راحت تهاجمه مهاجمة شعواء ، وتحاول النيل منه بوسائلها المقيتة . كما أكّد :” وبأسف عظيم …لم يبرز الى الميدان – في لبنان –رجل واحد يدافع عن الحقّ الهضيم ، وينافح عن العدالة تدوسها سنابك الباطل “.
ولا يستطيع أيّ من المسؤولين أو المشتغلين في الحقل العامّ ، أو من قادة الرأي العامّ ، ممّن عاصروا هذه الجريمة النكراء المستمرّة على مدى عشر سنوات متواصلات ، أن يدفع التبعة عنه ، لأنّ الجريمة المقترفة بحقّ الدكتور داهش واضحة ، والاجراءات التي تمّ تنفيذها بواسطتها مخالفة فادحة فاضحة لنصوص دستوريّة وقانونيّة صريحة ولأبسط مبادىء القانون والحقوق والحريّات الأساسيّة التي اعترفت بها حتّى الشعوب الهمجيّة منذ أقدم العصور . هذا من جهة ؛ ومن جهة ثانية ، فانّ الدكتور داهش نفسه أذاع ونشر وقائع ودقائق هذه القضيّة بواسطة 66 كتابا أسود و165 منشورا أسود وزّعت مجّانا على الجمهور وعلى المسؤولين والصحافيّين والكتّاب، والمعتمدين الدبلوماسيّين في لبنان ، والسفارات والقنصليّات اللبنانيّة في الخارج ، وعلى المنظّمات الدوليّة والاقليميّة ، كمنظّمة الأمم المتّحدة والجامعة العربيّة ، ورؤساء الدول والأمراء والملوك .
وعليه ، فقضيّة الدكتور داهش لم تكن فرد وحسب ، بل كانت في حقيقتها الجوهريّة قضيّة الحريّة المقدّسة في الفكر والاعتقاد والتعبير ، قضيّة الديمقراطيّة والدستور والقانون في لبنان .
قضيّة كلّ فرد
عندما تخون أعلى سلطة في البلاد أمانة المحافظة على الدستور والقوانين وحقوق المواطنين وحرّيّاتهم ، وتستغلّ سلطتها ، وتسيء استعمالها ، وتسخّرها لمآربها وأغراضها الشخصيّة ، وترتكب بواستطها الجرائم ، عند ذاك من العبث القول انّ القضيّة هي قضيّة فرد معتدى عليه ، بل انّها تصبح ، وبالضرورة الحتميّة ، قضيّ كلّ فرد من أفراد المجتمع ، وخاصّة قضيّة متسلّمي زمام السّلطات والصحافة وقادة الرأي العام فيه .
ولأنّ القضيّة هي قضيّة اضطهاد حرّيّة الفكر والعقيدة ، فانّ الجريمة لا تقع فقط على الفرد المضطهد داهش ، بل انّها تطال أيضا ، ومن هذه الزاوية ، المجتمع بأسره الذي حرمته الجريمة من حقّ البحث المجرّد عن الحقيقة ، ودراسة ما يدعوا اليه هذا الفرد المضطهد ، كما انّ الجريمة تطال الأجيال القادمة أيضا . وقد أشار الى ذلك الفيلسوف الانكليزيّ جون ستيوارت ميل في كتابه الرائع ” الحرّيّة ” ( ترجمة طه باشا السباعي ) حيث كتب :
” …انّ المضرّة الناشئة عن اخماد الرأي لا تقتصر على صاحبه ، بل تتعدّاه الى جميع الناس حاضرهم وقادمهم . وما هي في الحقيقة الاّ سلب النوع البشريّ برمّته وحرمان الانسانيّة بأسرها من شيء فائدته لعائبيه ورافضيه أوفر منها لمؤيّديه وقابليه . ذلك انّ الرأي ان كان صوابا ، فقد حرم الناس فرصة نفيسة يستبدلون فيها الحقّ بالباطل ، ويبيعون الضلالة بالهدى . وان كان خطأ ، فقد حرموا كذلك فرصة لا تقلّ عن السابقة نفاسة وفائدة ، وهي فرصة الازدياد من التمكّن في الحقّ والرسوخ في العلم على أثر مصادمة الحقّ بالباطل ، ومقارنة الخطإ بالصواب .” لقد تفرّد الصحافيّ المهجريّ النبيل جبران مسّوح ، صاحب جريدة ” المختصر ” الصادرة في بونس أيرس بالأرجنتين ، بادراك أهميّة قضيّة الدكتور داهش وخطورتها ونتائجها وذيولها الوخيمة ، ليس فقط على تاريخ لبنان ، بل أيضا على مستقبل الحرّيّة في الشرق كلّه . وقبل أن يبدأ حملته الصحافيّة بنشر أنباء القضيّة المروّعة في ” سلسلة مقالات ناريّة “، بعث برسالتين تاريخيّتين : الأولى بتاريخ 2 أيلول ( سبتمبر ) 1946 الى رئيس الجمهوريّة بشاره الخوري ، والثانية بتاريخ 10 أيلول ( سبتمير) الى رئيس مجلس الوزراء رياض الصلح . وقد جاء في مطلع رسالته الى بشاره الخوري ما يلي :
معالي الرئيس المكرّم ،
وصلتني في هذا الاسبوع رزمة فيها أوراق ومنشورات ووثائق تتعلّق بقضيّة الدكتور داهش . وكنت أنتظر مثل هذه المعلومات من مدّة طويلة لأصل الى أعماق هذه المسألة التي هي أهمّ حادث جرى في الشرق في هذا الجيل . ومن رأيي أن تتناوله أقلام الكتّاب بشيء من الصراحة والغيرة على الحقّ ليكون خطوة الى الأمام في كلّ الأقطار العربيّة . أمّا اذا لم يقم المفكّرون بواجبهم نحوه ، فهو بدون شكّ خطوة الى الوراء . ومعلوم أنّ كلّ خطوة من هذا النوع – سواء كانت الى الأمام أم الى الوراء – تجرّ وراءها خطوات من جنسها .
أمّا الرسالة الثانية التي أرسلها الأستاذ مسّوح الى رئيس مجلس الوزراء رياض الصلح فقد جاء فيها :
سعادة رياض بك الصلح الأفخم ،
وصلت إليّ في المدّة الأخيرة منشورات ووثائق تقع في 792 صفحة تتعلّق بحادث نفي الدكتور داهش . والذي يطالع هذه الأوراق جميعها يشعر أنّ هناك جرما لا تستطيع قوّة أن تغطّيه .
وطبيعيّ أن هذا الحادث كان صدمة هائلة لما كنّا نقيمه من الآمال في مستقبل أوطاننا بعد أن نالت حرّيّتها واستقلالها . والأوساط الأدبيّة هنا اهتمّت بالأمر . وسوف نصدر كتابا عن المسألة نشرح فيه الحادث كما هو ، ونبيّن الخطر الذي فيه على روح العدالة وحرّيّة الكلام واحترام العقيدة ، وأنّه قد يكون خطوة الى الوراء لكلّ الاقطار العربيّة ، لأنّ الفساد شديد العدوى اذا لم تؤخذ ضدّه الاحتياطات ، بينما يمكن أن يكون خطوة الى الأمام اذا روعي الحقّ فيه ، وأعيدت الى داهش حرّيّته ، وأخذ الحقّ مجراه في الاقتصاص من المجرمين .
في اعتقادي أنّ هذه المسألة هي أعظم حادث جرى من هذا النوع في الشرق كلّه في هذا الجيل . ويجب أن نضع لها تاريخا صادقا ليعرف الآتون بعدنا كيف يجب أن تكون الحكومات ، وما هي نتيجة مثل هذه الجريمة على تاريخ البلاد كلّها وعلى سمعتها بين بقيّة الشعوب .
اغتيال الزعيم أنطون سعاده
انّ السنوات أثبتت صحّة كلمات الأستاذ جبران مسّوح الملهمة هذه وصوابيّتها . فجريمة اضطهاد الدكتور داهش بدأها بشاره الخوري والمشتركون الرئيسيّون معه قبل وصوله الى سدّة الرئاسة الأولى ، واستأنفها بعيد انتخابه مباشرة مثلما جرى عرضه في الكتاب. ولو كان في لبنان من وقف منذ البداية في قضيّة الدكتور داهش الى جانب الدستور والقانون والحقّ والعدالة لما كان لبنان عانى وكابد سنوات حكم بشاره الخوري السوداء الملأى بالفضائح والمفاسد والرشاوى والجرائم واستغلال المناصب ونهب أموال الأمّة وسرقة لقمة عيش الفقراء والكادحين ، ولربّما كان – وعلى سبيل المثال- انتهى عن تزوير انتخابات 25 أيّار 1947 الشهيرة ، وعن ارتكاب جريمة قتل الزعيم أنطون سعاده بواسطة المحاكمة الصّوريّة ، المهزلة – المأساة ، سنة 1949 .
انّ قوى التعصّب الطائفيّ الأعمى المتحالفة مع الفئات الاقطاعيّة الفاسدة الحاكمة التي أرست قواعد الدولة – المزرعة هي المسؤولة عن اضطهاد الدكتور داهش لأنّ نهجه الأبيّ الحرّ ومبادئه الاصلاحيّة المنفتحة هي النقيض لها جميعها . ونتيجة لانقياد المسؤولين وقادة الرأي لبشاره الخوري ، فانّ قوى التعصّب وطرق الفساد ترسّخت وتجذّرت في تربة المؤسّسات والمجتمع في ذلك العهد الاستقلاليّ الأوّل الذي كان يجب أن يكون مثالا وقدوة عليه ترسو لأسس الاصلاح ، وعليه تبنى تطلّعات الأجيال ومستقبلها . وما الحرب الأهليّة اللبنانيّة المدمّرة التي ذرّ قرنها سنة 1975 الاّ ثمرة شجرة التعصّب والفساد والاجرام التي ترعرت جذورها المقيتة في العهد الاستقلاليّ الأوّل .
أجل ، انّ القوى نفسها ، والروحيّة الاجراميّة المتعصّبة الكريهة ذاتها التي قامت بالمجازر الطّائفيّة البغيضة أثناء الحرب الأهليّة ، والتي ستبقى وصمة عار أبديّة عليها ، هي هي القوى والروحيّة نفسها المسؤولة عن اضطهاد الدكتور داهش . فحبّذا لو تنبّه المسؤولون وقادة الرأي ، آنذاك ، لخطورة ما كان يقترف بحقّ الدكتور داهش ، ولنتائجه على تاريخ البلاد .حبّذا لو حاربوا روح التعصّب الأعمى ، والفساد ، والعبث بالقوانين ، وبحقوق العباد في قضيّة الدكتور داهش ، اذا لكانوا قضوا عليها وهي في بدايتها ومهدها ، ولكان مسار تاريخ لبنان تغيّير حتما ، ولما كانت الحرب الأهليّة الدامية المدمّرة لتقع فيه .
ومثلما حذّر السيّد المسيح – له المجد – الشعب اليهوديّ من وخيم عواقب اضطهاده بتدمير أورشليم والهيكل فيها وتشتّتهم ، هكذا أيضا حذّر الدكتور داهش بشاره الخوري والمسؤولين عن الجريمة من العاقاب الالهيّ الذي سيطالهم هم وذراريّهم ، كما حذّر الرأي العامّ اللبنانيّ والعالميّ من كارثة دامية كبرى تصيب لبنان ، وتتجاوز حدوده ، اذا لم تحلّ قضيّة جريمة اضطهاده حلاّ عادلا .
ففي رسالة بعثت بها السيّدة ماري حدّاد الى المستشرق الانكليزيّ دانيال أوليفر ، مدير مدرسة رأس المتن ، في شباط 1946 ، ونشرتها في الكتاب الأسود ” ميشال شيحا المغرور ” سنة 1946 ، صفحة 26 وما يليها ، كتبت ماري حدّاد ما يلي ( صفحة 28 ) :
” ….وكن على ثقة ، أيّها العزيز ، بأنّنا سنطالب بها ( أي بحقوقنا ) حتّى نحصل عليها كاملة غير منقوصة . وأنت تعلم بعد الاختبار كيف تتمّ نبوءات الدكتور داهش .وأنا أعرف منذ زمن بعيد أنّ هذه القضيّة ستّتسع حتّى تصبح عالميّة . وانّني عالمة أنّ سيلا من الدماء سيهرق اذا تشبّثوا في جريمتهم بدل من أن يكفّروا عنها .
” وانّني لا أرغب في أن أسرد هنا جميع ما أعرفه . ولكنّي أعلم بأنّ المستقبل مشؤوم ورهيب جدّا عليهم اذا لم يندموا ويكفّروا .
” وقد أنذرتهم بذلك مرارا وتكرارا ، فأبوا أن يصغوا الى نصيحتي . ومن أجل هذا سيتحمّلون نتائج أعمالهم .”
نبوءة خراب لبنان
وفي عدد 4 كانون الثاني سنة 1948 من جريدة ” الحياة ” البيروتيّة نشر الشاعر حليم دمّوس نبوءة للدكتور داهش مفادها انّ الدمار سيعمّ لبنان من أقصاه الى أقصاه اذا لم تحلّ قضيّة الدكتور داهش حلاّ عادلا .
وفي شهر تشرين الأوّل من سنة 1948 ، أرسل الدكتور داهش الى الجمعيّة العامّة للامم المتّحدة المنعقدة في قصر ” شايو ” في باريس عريضة طويلة باللغة الفرنسيّة ، وتحت توقيع السيّدة ماري حدّاد الظاهريّ نظرا لظروفه الخاصّة آنذاك ، وفيها شرح وقائع الجريمة بحقّه وبحقّ الداهشيّين . وتجاوزها الى انتهاكات حقوق الانسان وفضائح عهد بشاره الخوري . وطلب من الامم المتّحدة ، بصفتها محكمة عالميّة عليا ، التدخّل لاحقاق الحقّ في قضيّته ، وضمّن نداءه التحذير الآتي :
” انّ الداهشيّين يطالبون باعادة جنسيّة الدكتور داهش اليه . وهم اذ يقومون بذلك بواجب الزاميّ ، يلجأون الى محكمتكم العليا ، ويحضّونها على دراسة هذه القضيّة التي تتجاوز حدود لبنان بدقّة . وبذلك تكون محكمتكم قد قامت بعمل من أعمال العدالة والانسانيّة ، لأنّها تكون قد منعت هذا النزاع من التطوّر أكثر .وانّني أؤكّد لكم أنّ هذا النزاع يهدّد ، عمّا قريب ، بصبغ لبنان بالدماء مثلما جرى في فلسطين .كلّ ذك سيتمّ اذا لم تؤدّي هذه العريضة الاتّهاميّة الى أيّة نتيجة .” وفي شهر تشرين الثاني من السنة نفسها 1948 ، أرسل الدكتور داهش الى لجنة الامم المتّحدة للشؤون الاجتماعيّة والانسانيّة والثقافيّة ، المولّجة بصياغة الشّرعة العالميّة لحقوق الانسان ، رسالة أخرى باللغة الفرنسيّة أيضا ، وتحت توقيع السيّدة ماري حدّاد . وقد ضمّن هذه الرسالة التحذير ذاته المذكور آنفا والذي تضمّنته عريضته الى الجمعيّة العامّة للامم المتّحدة في شهر تشرين الأوّل 1948 .
وممّا لا شكّ فيه أنّه لم يصغي اللبنانيّون ، ولا العالم الممثّل في الامم المتّحدة ، الى هذه التحذيرات . كما انّه لم تجر أيّة محاولات لرفع الظلم عن الدكتور داهش وحلّ قضيّته حلا ّ عادلا .وفضلا عن ذلك ، فانّ موقف القوى المتعصّبة في لبنان من الداهشيّة لم يتغيّر ، والنيّات الخبيثة والأفكار السوداء تظهر بين الحين والحين بأفعال وأقوال يسجّلها التاريخ عليها وعلى من يأتونها في سجلّ العار الأبديّ. ومن كلّ ذلك يبدوا أنّ القوم لم يتّعظوا ، ولم يتوبوا . وكيف يتّعظون ويتوبون وأعمالهم المتجليّة في هذه الحرب اللبنانيّة القذرة تشهد عليهم أنّهم مجرمون، بل شياطين متجسّدون !
أجل . انّ الحرب الأهليّة اللبنانيّة هي غضب الهيّ . انّما هذا الغضب الالهيّ لم يكن افتراء من العناية الالهيّة ، بل انبثق من النفوس التي ضلّت سبيل الرشاد ، ومسخت التعاليم السماويّة في الأديان المنزلة ، وسخّرتها لمآربها للوصول الى المال والجاه والسلطان الدنيويّ الكاذب الزائل .
حتّى الكتّاب والمعلّقون والصحافيّون الأكثر عقلانيّة لم يروا بدّا من أن يعلنوا في كتاباتهم ، أثناء استمرار الحرب المدمّرة وفشل جميع الحلول في وقفها ، انّ هناك لعنة الهيّة . واذا كانت الشعوب شرقا وغربا تعيد النظر بتاريخها ، وتعترف بأخطائها ، لتستفيد منها في تقويمها وفي عدم معاودتها ، فانّه على اللبنانيّين أيضا أن يعيدوا النظر في تاريخهم ، وفي هذه القضيّة بنوع خاصّ ، فيدركوا انّ خلاص وطنهم من محنته ، وتأمين مستقبلهم واستقرارهم فيه ، يتمّ عندما يرجع الجميع الى القيم الروحيّة والانسانيّة السامية ، فيقلعون عن الشرور والمظالم ، وعن العصبيّة المذهبيّة البغيضة ، ويقنعون بأخوّتهم بعضهم لبعض ، محترمين حقّ كلّ فرد منهم في الفكر والعقيدة وسواها من الحقوق والحرّيّات ، نابذين الانقياد الأعمى لتقاليد رجعيّة بالية ، ومنفتحين على الأفكار الاصلاحيّة الجديدة بشجاعة وثقة بالنفس وبالغد .
ويوما بعد يوم ، سيدرك اللبنانيّون أنّه كما كان الحكم الظالم على سقراط العظيم جريمة عصره ، وكذلك محاكمة السيّد المسيح والحكم عليه ، فانّ جريمة اضطهاد الدكتور داهش انّما هي : ” جريمة القرن العشرين .”
في عصر التقدُّم التكنولوجي والتطوُّر السريع، وتماشيَّاً مع الثورة الرقميَّة في طريقة نشر المعلومات، والتكيُّف مع إحتياجات العصر الرقمي وتحوُّل الصحافة التقليدية، برزت المجلَّة الإلكترونيَّة، تتجاوز الحدود الجغرافية والزمنيَّة، وتربط الأفراد في جميع أنحاء العالم،كوسيلة إعلاميَّة وديناميكيَّة وتفاعليَّة لتوصيل المحتوى ومُشاركته مع أكبر عددٍ من القرَّاء، أصحاب العلم ومُحبِّي المعرفة والباحثين عن الحقيقة، في أقصر وقتٍ ممكن.
ومع ظهور هذا الكَّمِّ الهائل من وسائل الإعلام والتواصل العالمي والتبادل الثقافي، لنشر الثقافات ووجهات النظر والأفكار المتنوعة، وبغياب الرقابة والمهنيَّة والموضوعيَّة في النشر، كَثُرَ انتشار المعلومات الخاطئة والأخبار المُزيَّفة، مما يُسلِّط الضوء على أهمية محو الأمية الإعلاميَّة، والحاجة الى الاعتبارات الأخلاقيَّة.
كان لا بُدَّ لنا من فتحِ نافذةً نطلُّ بها على هذا العالم المليء بالتحديَّات إثراءً للنسيج العالمي للفكر الإنسانيّ والتجربة الإنسانيَّة، بإنشاء مجلَّة فكريَّة ثقافيَّة هادفة، تتجاوز الحدود التقليديَّة، تحتضن ثراء الفكر وتوفّر منصَّة لتبادلِ الأفكارِ العميقة والمواضيع المثيرة للثقافة الإنسانيَّة، فكانت مجلَّة نارٌ ونور.
مجلَّة نارٌ ونور، ليس مجرَّد خيار؛ بل هو تعبير عن التزام وتقدير، عربون وفاء لصاحب الوعي الروُّحيّ، إلقاء الضوء على المفهوم الداهشيّ وإظهار الصورة الحقيقة لصاحبه، بنشر تعاليمه وكتاباته التي تجاوزت فيها مؤلَّفاته المئة والخمسين مُجلَّداً، صاحب الرسالة الروحيَّة التي تحمَّل في سبيلها الأمرَّين، غريبٌ في أرضٍ غريبة، يعيشُ الحياة المُثلى، يحمل على جراحه وآلامه نور الهداية للعالم. تدخل رِحاب معبده المُقدَّس لتقفَ وجهاً لوجه أمام الحقيقة الصَّادقة الصَّادمة.
مجلَّة نارٌ ونور، مساحةٌ يلتقي فيها العمق بالجوهر لتعزيز النمو الفكريّ، وتقديم نماذج للفكر والأدب الراقي، بعيداً عن سطحيَّة الكلمة في السرد الثقافي، وتفتح المجال واسعاً أمام القرَّاء بتوسيع وجهات نظرهم والإنخراط في تفكيرٍ يتخطَّى المعقول، كما تحفيزهم على التفكير والكتابة. وذلك من خلال نشر الأبحاث والدراسات والمقالات التي تتناول مختلف المواضيع الفكرية والثقافية من منظورٍ إنسانيّ وروحيّ وتحليلها بشكلٍ أكثر عمقًا.
في قلب مجلَّة نارٌ ونور، تكمن مهمة التنوير العميقة. تسعى جاهدة لجمعِ أقلام الداهشيِّين من أدباءٍ وشعراءٍ وأصحاب فكرٍ، شتَّتهم الأيام، وأبعدتهم المسافات، فأصبحوا غرباءً في عالمهم. تفتح لهم نافذةً للتعبير عن تجاربهم مع الحقيقة، تُلامس مشاعرهم بالتواصل العميق للرُّوح والنَّفس، تُحاكي إنسانيَّتهم بشكلٍ فعّال مع الحياة والوجود، ومشاركتهم معرفتهم الروحيَّة المُقتبسة من النبي الحبيب الهادي.
مجلَّة نارٌ ونور، نورٌ لا نار فيها، أنوارٌ ساطعةٌ باهرة تنشُرها أمام عقول قرائها، تقدِّم مجموعة متنوعة من وجهات النظر والأفكار والرؤى الثقافية، بهدف إحياء وتجديد إيمان الإنسان بالله والقيم الروحيَّة، في الحقيقة والنَّفس والرُّوح، مفاهيمٌ لم يألِفوها، بعيدة عن الغوغائيَّة الكلاميَّة، مدعومة بالبراهين الساطعة، مؤيَّدة بالتزامٍ أخلاقي في السرد والنقل والشهادة. تفتح المجال في السؤال والجواب، للساعين وراء المعرفة، بالتواصل المُباشر مع أصحاب الآراء والكتابات والمقالات.
مجلَّة نارٌ ونور، توفّر منصَّة للفنانين، تُشجِّع المُبدعين، تفتح فرصة لعرض وتقديم وتسليط الضوء على إبداعهم في المجال الفنِّي، سواء كانت لوحات فنيَّة، صور فوتوغرافية، أو أي نوع آخر من الفنون التشكيليَّة. تُساعد في فهم خلفياتهم الفنيَّة وإلهام القرَّاء بتفاصيل حياتهم، تنشر مقالات وتحليلات تقييميَّة لأعمالهم، مما يساهم في إبراز الجوانب الفنيَّة والفلسفيَّة لها، ويساعد في توجيه القراء نحو فهم عميق للفن.
هيئة التحرير.
الحياة سفينة عظيمة رائعة تمخر في بحر ماؤه ألآثام , وأمواجه الشهوات البهيميّة , وشطآنه النهاية المؤلمة .
الدكتور داهش