بقلم حسين يونس
قيل بأن العلمَ نورٌ، والدراسةُ هي العلم وذلك النور ، ومن لم تشأ الظروف لهم بالدخول الى المدرسة، ليرتشفوا من مناهل علومها وآدابها لظروفٍ قاهرة أو غيرها، كانوا في منطق العلم والنور من الجاهلين. الا فيما ندر.
من وجهة نظرٍ منطقيَّة في نطاق المعرفة الإنسانيَّة، نجد أنَّ العلم والجهل قوَّتين مُتناقضتين، حيثُ يُنير الأول العقل والدرب بأساليبٍ وأدلَّةٍ تجريبيَّة، وسعي دؤوب للكشف عن المبادىء والقوانين الأساسيَّة في كيفيّة عمل الطبيعة ومعرفة أسرار الكون من خلال تحليل البيانات والمعلومات بشكلٍ منهجي، بينما يلفُّ الثاني النَّفس بالغموض والظَّلام وغياب المعرفة، ممَّا قد يؤدّي ذلك الى الخوف والتعصُّب وعدم فهم الحقيقة.
وبين العلم والجهل يقف المنطق مُتَّحداً مع العلم في السعي وراء الحقيقة والفهم حيثُ يوفّر أدوات تقييم الأدلَّة وتحليل المعلومات وبناء الحجج السليمة. أمَّا عن علاقة العلم بالجهل فهي ليست ثابتة، هي رحلة مُستمرَّة في كِلا الحالتين، يُنير العلم ظلمة الجهل، هذا من حيثُ المنطق السليم.
ولكن مهلاً!… ما هو الجهل وما هو العلم ؟
الجهلُ هو كلّ ما هو مُنافي للعقل والمنطق بالإثباتات والبراهين، هو الإعتقاد بالمعرفة الكليَّة، وماهيَّة الأشياء، أو الإعتقاد بمعرفةِ شيءٍ ما على خلاف ما يكون، هو الغرور المتسلِّط على كياننا، المسيطر على أعصابنا، والمتملِّك من عقولنا، هو رؤية الوهم، ونبع التخلُّف، وسَبر ِأغوار المجهول، هو جهل النفس وقدراتها، ومعرفة ذاتها ومستوياتها، وطبيعتها وكثافاتها الماديَّة على إختلاف صورها، هو الحُكم على النظريَّات والحقائق من دون التمعُّنِ بها، والتأكُّد منها، ودراستها من مختلف جوانبها.
ومما لا شكَّ فيه أنَّ الجهلَ نقيضُ العلم، لكنَّه لا يعني الأميَّة على الأطلاق، فقد تكونَ مُتعلِّماً وذو ثقافةٍ ومعرفةٍ ولك باعٌ في الصرف والنحو، ولكنَّك لا تدرك من العلوم شيئاً، ولا تدرك من كنه فضِّها مقدار ذرَّة. كحال بعض رجال الدين مثلاً. وقد تكون عالماً أو فيلسوفاً متشدِّقاً بنطريَّاتٍ لا تخضعَ للتدقيق أو التمحيص لمعرفة حقائقها، وتثبت الأيَّام أو علماءً وفلاسفة آخرين أنَّك على غير صواب.كحال سيغمان فرويد. أو أن تكون عالماً في إختصاصٍ معيَّنٍ حسبما شاءات بك الأيام للدراسة في مجالها إرضاءً لولي أمرٍ أو رغبةً بك في مجالٍ دون الآخر، أو لموهبة نبغت فيك في سنِّ الطفولة، وجاهلاً في إختصاصات أُخر. وكما قال أبو النوَّاس ” عرفت شيئاً وغابت عنك أشياء ” ،ولكن رغم كلِّ ذلك وبشكلٍ عام، الناسُ أعداءَ ما يجهلون.
والجهل هو آفة المجتمعات، وأخطرها مُتعصِّبٌ لفكرٍ أو دينٍ أو قوميَّةٍ أو حزبٍ أو لونٍ أو عرقٍ الخ…. فالقائمة طويلة ولا تنتهي بحدود علمنا ولا بجهلنا. وهذا ما يُبعد الإنسان عن المعرفة والحقيقة، فالمتعصِّبُ لا يرى حقائق ولا يتقبَّل رأيٌ آخر، ولا يرَ إلهٌ سوى اله غروره المتعدِّد الميول والرغبات، فيدَّعي المعرفة، حتى ليظنَّنَ بأنَّه قابضٌ على ناصية الحكمة، فرأيه صواب وإنْ كان على خطأ، وما يعلمه هو قمَّة الوعي الروحيً والإدراك الفكريّ، وما يفعله عين العقل والصواب، وذروة الأخلاق وحُسنَ الرقيّ، فيسيء فهم الشرائع السماويَّة، ليأوِّلها كيفما تشاءُ مصالحه وأهدافه، ويضيفُ من المفاهيمِ والأحاديثِ ما لذَ منها وطاب، ناسباً إياها لأهلِ الثقةِ وأصحاب الدين والمعرفة، حتى لتضيعَ بين الحقيقة والوهم، والأهداف والميول، فيتمكَّن التطرُّف من فكره ، وتتغلَّب الحيوانيَّة في نفسه، ويتمَّلك الغضب منه سريعاً، فيصبح أقرب الى الهمجيَّة منه الى الحضارة، فيعتدي بإسم الله والدين ، وبإسم الفكر والهدف الأعظم على من هم دونه إعتناقاً لإعتناقه أو فهماً لأفكاره، ويظلم من إستطاع إليه سبيلا بحجَّة الأمرِ بالمعروف والنهي عن المُنكر، فيكبتُ الحريَّات التي منحها ربُ السماء لعباده دون إستثناء، ومن يعارضه فهو جاحدٌ فاجر وزنديقٌ كافر، فيحلُّ سفك دمِ أخيه الإنسان بإسم المحبَّة والهداية التي يؤمن بها، مما تنعكس سلباً على الدول والأمم، فتتدهور رؤى المجتمعات والأفراد الى مستنقعات الرذيلة والتخلّف، مما ينتج عنها الإنحطاط الخُلقي، والذي يقف حائلاً في وجه تقدُّمِها وتطوُّرِها.
الجهل هو ظلمة النفس، تعشِّش في قلوب أصحابها، تسيطر على عقولهم، فيتيهون في دنيا الرذيلة بكل أشكالها، يغوصون في مستنقعاتها الملئءَ بالحسد والتعصُّب، يزرعون بذور الحقد والكراهية بين أبناء الوطن الواحد والدين الواحد وحتى في البيت الواحد إن إستطاعوا الى ذلك سبيلا، مروِّجين لأفكارهم السوداء والنابعة من جهلهم للحقائق الروحيَّة وعدم إدراكهم للمنطق السليم، متمسِّكين بشعاراتٍ روحانيَّة لمفاهيمٍ ماديَّةٍ تخدم مصالحهم، غارسين في نفوس أتباعهم حبَّ الجريمة بإسم الله والأنبياء، ُمُبتعدين عن وجه النور الأعظم، وجه الحقِّ والخير والجمال، وجه العادل والمنعم والمبدع.
أمّا العلم والمعرفة، فهي طبعاً لا تعني القدرة على الكتابة والقراءة، هي الدراسات والثقافاتُ التي تمكِّن أصحابها من الرؤية الصحيحة والتفكير السليم والعمل الجليل، والوصول الى الحقائق الموضوعيَّة، والغاية المرجوَّة، حيثُ يُبنى اللاحق على السابق، ومهما نهلنا من مَعينِهما وأرتشفنا من راحتِهما فلن نتمكَّن من المعرفة الكليَّة ، فالجسد محكومٌ بعمرٍ لا نستطيع أن نمدَّه، والعقل محدودٌ بطاقاتٍ لا يمكن تجاوزها، ومهما بلغنا منهما ، فلن يكون إلاَّ جزءٌ يسير نكتسبه من خلال الدراسة والقراءة مع مرور الأيَّام وسهر الليالي، ولكن رغم ذلك فهما طريقٌ من طُرقِ التَّطور الحضاري، والنافذة التي منها نتعامل مع الآخر بروح المسؤوليَّة وبواقعٍ ممنهج، ومعرفةً للحقائق العامَّة والنفس البشريَّة.
العلمُ هو إدراك الأمور، ومحاولة فكِّ ألغازها ومعميَّاتها من خلال البحث في كُنهها، مُستندين الى التجارب والأبحاث لمعرفة حقائقها ومسبِّباتها، مُبتعدين عن النظريَّات التي لا تمتَ الى الحقيقة والواقع بصلة أو التأكُّدِ منها. كما أنَّ العلم هو معرفة الذات أولاً، بها تهوِّن المقتضيات، وتتكشَّف المعميَّات، فنفهم المتطلبات والحاجات، فنعمل على سمو النفس بسنِّ القوانين والإلتزام فيها، لتميّزنا عن المجتمعات المتخلِّفة.كما معرفةُ الآخرين من خلال فهم عاداتهم وتقاليدهم وتاريخهم ومداركهم وثقافاتهم وأديانهم، فندرك ماهيتهم وسلوكهم ، ونتعرَّف على الأفكار التي تستحوذ على عقولهم ، فنبادلهم الوعي والإدراك لِما فيه الخير للجميع.
العلمُ معراج المعرفة، به تتكشَّف أسرار العلوم والتكنولوحيا، فتتمُّ الأختراعات العلميَّة التي تفسح المجال أمام الدول للتطوّر والتقدُّم والأزدهار ، وتؤسس لمستقبلٍ زاهي ورخاءٍ للجنس البشريّ. مُتيحةً الأمكانيَّات الهائلة لرفع دعائم الحياة الماديَّة والروحيَّة لحياةٍ أفضل، والتآلف بين الأمم ومختلف طبقات البشر. والناظر الى مسيرة الحضارة الإنسانيَّة يرى أنَّه لا مناص من الوقوف جنباً الى جنب مع كل إنسانٍ للوقوف بوجه التحدِّيات التي تواجه البشريَّة جمعاء نحو التنمية العلميَّة والإجتماعيَّة والإقتصاديَّة، وتطوير مبادىء العدالة الإنسانيَّة .
والعلم جهلٌ إن لم يقترن بنشره حيثُ تدعو الحاجة، فلا مكان للأنانيَّة في نشر الوعي والثقافة في المجتمعات المتخلِّفة، فهو يساعد على التفكير الصحيح والتمييز بين الحقِّ والباطل ، والخروج من مجاهل العصور المظلمة، فالإحساس بالمسؤوليَّة واجب روحيّ ، يهيمن على القلوب المؤمنة بضرورة السمو الجماعي نحو المُثلِ العليا من خلال إنارة مشاعل المعرفة العلميَّة والثقافيَّة كما الروحيَّة، والأخذ بالضَّالين والمتخلِّفين بالعمل لِما فيه الصالح العامّ وخدمةً للأخوة الإنسانيَّة.
والعالِم جاهلٌ، حين يعتبر علمه وإختراعاته مساويةً لعمل الله وتكوينه، كما أنَّ نظرياته وإكتشافاته منافيةٍ لوجود االله وقدرته، فينكر على الله ألوهيَّته، ليتربَّع على عرشها، ظاناً انه الإله الأوحد. يقول الدكتور داهش: “ومن لم يهتديَ من أصحاب العلم والفكرِ والأدب إلى أدلَّةٍ وبراهينٍ مادِّيـَّة لوجود الخالق، فعليه ألاَّ يُجاهر ويعلن رأيَه الشخصيّ السلبيّ، والذي ليس له أَيِّ دليلٍ أيضًا ، مُدَّعياً أنَّه العالم الحكيم وفيلسوف عصره، ذو الرأيُ السديد”. فالعِلمُ مازال يجهل الكثير من الأسرار في الطبيعة المادِّيـَّة نفسها، فكيف بالأحرى في العالَمِ الروحيّ، مع الأخذ بعين الإعتبار بأن علمه وطاقته محدودتين ، وإدراكه مقيَّد بقوانين لا يستطيع النفاذ منها الى عوالم الرُّوح. لإثبات وجودها وبالتالي تأكيدُ وجودِ الله بصورةٍ ملموسة.
فذلك لا يتمُّ إلاَّ بصُنع المُعجزات التي أُيِّدَ الله بها الأنبياءُ والمُرسَلون وحدَهم بالقوَّةِ الروحيَّةِ التي تصنعُها، فهي الدليلَ الساطع على وجودِ قوَّةٍ غير بشريَّة وغير أرضيَّة، لأنَّها تخرقُ النواميس الطبيعيَّة، وتُنبئُ عن وجود قوَّةٍ خارقة غير خاضعة للقوانين المادَّيَّة. أَمَّا العلمُ البشريُّ فمن المُتعذِّر أن يستطيعَ البرهنة المادِّيـَّة على خلود الروح ووجود الخالق، فيفصل بين الرُّوح والمادّة وينشر نظريَّات لا تمتُّ الى الحقيقة بصلة، فيخطىء أكثر مما يُصيب.. مُتناسين قوله تعالى في كتابه الكريم : ﴿ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ ]العلق: 5[ .هذا إن كان يؤمن بالله ورسله, فإذا كان العلمَ على طريقة هكذا علماء، جحود وجود الله وقدرته وعلمه. فكيف يكون الجهل؟!..
قال الوحي لمحمَّد: إقرأ !…
فقال: فما أنا بقارئ !…
قال: ” اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ” .
وفي مكانٍ آخر من الكتاب الكريم نفسه، قيل له:” خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ . فمن يقصد بالجاهلين؟
فإذا كان الجاهلون من لم يذهبوا الى المدرسة وينالوا الشهادات العليا، وإن كان قلَّة العلم وعدم القراءة والكتابة جهلاً ، فمحمدٌ النبي الأمّيّ، وداهشٌ الهادي الإلهيّ الذي لم يذهب الى المدرسة سوى أشهرٍ قليلة اول الجاهلين. وان كان قلة الإيمان، ومعرفة السماء، وطُرق ارتقائها، وفهمِ حقيقةِ الإنسان، ومعرفة اكتناهِ النفس وتعليلِ نشاطها وأَحوالِها وتناقُضاتها، وأَن الكونَ غيرَ مُنفصل جوهريًّا عن الإنسان علماً، فنحن آخر المتعلِّمين ولو نلنا الشهادات الجامعية والدراسات العليا والدرجات العلميَّة، وخضنا الإختصاصات بمختلف مجالاتها، والعلوم على إنواعها.
ولكن مهلاً ،كيف يكون محمَّدٌ جاهلاً وهو صاحب روائع الإعجاز البلاغي في القران الكريم وصياغة صوره البيانيَّة المُحْكمة، وإعجازه اللغوي، أضف اليه الأبعاد الأخلاقية والقوانين السماويّة والتي خطّ بها طريق السماء، ، والدعوة الى عبادة الأله الواحد في صحراء الجهل، وفي المجتمعات الوثنيَّة وبين عبدةِ الأصنام، وحكم بين الخلق بالعدل الالهيّ، ونشر الفضيلة ومكارم الأخلاق، وزرع بذور المحبَّة في القلوب الجلفاء والعيون المتحجِّرة، ونادى بالوحدة الإنسانيَّة بين المسلمين، وتوضيح ما خُفيّ من حوادث واحداثٍ عفا عنها الزمن في التاريخٍ القديم والحديث، وتصحيحٌ للأفكار الخاطئة في دياناتٍ سابقة، حيثُ باتت اشبه بالأساطيرِ والقصص.
كيف يكون محمَّدٌ جاهلاً، وهو الذي انتقل بالجهل والجاهلية الى ثقافاتٍ متنوِّعة رغم تعدُّدِ أعراقها ناشراً فيها طريق المعرفة والحضارة، وهي التي كانت ترزح تحت قيودٍ فكريَّة وعاداتٍ إجتماعيَّة وتقاليدٍ ومفاهيمٍ أقرب الى العصور المتخلِّفة ، فقد كانوا يؤدون الفتيات أحياءً، وهو أسوء أنواع الجهل، رغم علومهم ونبوغهم في الأدبِ والشعر والطب وعلوم الفلك.
كيف يكون محمَّدٌ جاهلاً وهو الذي إنتقل بهم من حالات الإنقسام الحاد والصراعات القبليَّة الى وحدةٍ إيمانيَّة ،فأخوَّةٍ في الدين والإنسانيَّة، وهو القائل ” إنَّما المؤمنون إخوة “.كما كنَّى أبا الحَكَمِ بأبا جهل، والمعروف عنه (أي أبا جهل) أنَّه كان حكيم قومه، وذو ثقافةٍ، شديد الذكاء وصاحب رأيٍ سديد في ذلك العصر.
وهنالك من الدلالة الشيء الكثير عن محمَّد وعلم محمَّد أفاضت بها الكُتب والكتَّاب، وبما أنَّه ليس موضوع بحثنا هذا، فسأكتفي بهذا القدر عنه. لأنتقل الى الحديث عن الدكتور داهش والعلم موضوع بحثنا هذا.
ولكن لا بدَّ من ملاحظةٍ أشير إليها قبل البدء وهي : أنَّه حين نريد البحث في الدكتور داهش، لا يمكننا التكلُّم عنه جزئيَّاً، فالسيَّال العشرين وشخصياته الروحيَّة وشخصه البشريّ ، هم وحدة كاملة، مُتكاملة، شاملة وعالمة. وعليه كان لا بُدَّ من إقتباس جُملاً وأفكاراً من كتابات الدكتور داهش وشروحات الدكتور غازي براكس ومُتصرِّفين بأخرى.
كيف يكونُ داهشٌ جاهلاً وهو القائل: ” أحبُّ الكُتُبَ حُبَّ السُكارى للخمرِ، لكنني كلما إزدَدتُ منها شرباً، زادتني صحواً “. وهو الذي كان يقرأ الصُّحفَ اليوميَّة ومجلاَّتها المعروفة يوميَّاً، ويقتطع منها المقالات والآراء والحوادث التي يجدُ فيها عبرةً ومنفعةً للأيام القادمة، قبل أن يستيقظ النيام. لم يكن همَّه من المعرفة إختراق آفاقها فحسب، بل الإحاطة بها، فهي غايته الأسمى، تُنعش قلبه وعقله وفكره، فيقول: الكتُبُ هي طعامي المُفضَّل. ونَهَمي لالتهامِ مُتنوِّعاتِها لا يُشبِعُ فضولي مهما طالعتُ منها. فأَنا أَقرأُها وأَتذوَّقُ حلاوتَها، وأَنتشي بما تحويه من كنوزِ المعرفة التي أَودُّ فَضَّ مغاليقِها واستيعابَ أَسرارها المكنونة دومًا وأَبدًا. وفي مكانٍ آخر يقول: حُبِّي بل شغَفي الشديدُ لمُطالعة مُختلفِ أَنواع الكُتُب يسري مع الدماء في عروقي. وأجملُ ما أَتوقُ لمُشاهدتِه رُكامٌ من الكُتُب وتلالٌ من مُؤلَّفاتِ الفلاسفة والحُكماء، وجبالٌ مِمَّا أَنتجَته قرائحُ العُلماءِ والمُكتشفين والمُخترعين، وخُلاصةُ ما تمخَّضَت به عقولُ وأَفكارُ الأُدباءِ الأَفذاذ والشُّعراءِ المُلهَمين المُبدِعين.
كيف يكون جاهلاً وهو الكاتبٌ المُلهم، أنجز كتابه الأول ضجعة الموت وهو بعنفوان الشباب ونضارة الصِّبا ، تلاه قيثارة الآلهة ، فأسرار الآلهة بجزئين لكلٍّ منهما، وما أن كانت بداية الثمانينات من القرن العشرين حتى أربت كتبه على المئة وخمسين كتاباً من روائع الأدب، والإبداع الفكريِّ ، وفي شتَّى الألوان والأنواع، بأسلوبٍ لا يضاهيه فيه فلاسفة الأدب وجهابذته. فتُخالجَ النشوةُ السامية قارئَ كتبه. وتسمو بالنفس إلى ما يتخطَّى المعهود والمألوف من الحياة، فتشعرُ كأنَّكَ في معبد السماء تصلّي بمهابةٍ وخشوع. وهو الذي يكتبُ للحقِّ والحقيقة، فيقول:” ليس من يكتبُ للهو ، كمن يكتبُ للحقيقة “. كما كان يستأنسَ مُصاحباً ومنادماً الكُتُب والكنوز الفنِّـيَّة، فأنشأ مكتبته الخاصة التي تحتوي على نصف مليون كتاب لعباقرة أهل الأدب والفكر والفنِّ في العالم، تشمل الأدب والنثر والشعر والفلسفة والقصص والرثاء والعلوم وغيرها من شتى المجالات، وبلغاتٍ متعدِّدة، منها العربيَّة والفرنسيَّة والإنكليزيَّة .كما أنَّه كان عاشقاً للفن، مُحبَّاً للجمال، مهتمَّاً بكلِّ أشكاله، لأنَّ الجمالَ الحقيقيَّ لا ينفصلُ عن الخير والحقيقة. فجَمَعَ اللوحات العظيمة، وما سجَّلته لنا من حوادث تاريخيَّة ودينيَّة بارزة هي تراثٌ للإنسانيَّة يستطيع المرء مشاهدتها بإسلوبٍ حيٍّ فيه مُتعةً، وجمال، ولطالَما كان يتملَّى وجوهَ لوحاتِه الرائعة التي كانت تزيّن جدران منـزله الفسيح، فأنشأ مُتحفه الشهير في نيويورك، يضاهي المتاحف العالميَّة أطلق عليه إسم ” مُتحف داهش للفن ” ويضمُّ فيما يضم اللوحات الزيتيَّة والمنحوتات والرسومات والمطبوعات والصور لمجموعةٍ من الفنانين في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فتنبهر من روعة الفنِّ العظيم وذلك الإبداع الذي لا يوصف، إنَّه مُتعةٌ للبصر، تستمتع بروعته العيون، وتنتشي القلوب خاشعةً للجمال، أضف إليها التماثيل البرونزيَّة والرخاميَّة الرائعة التي تُطِلُّ منها ملامحُ الجمالِ الفردَوسيّ الذي يأسرُ العقلَ والقلبَ، وآواني وزهريَّات السيراميك والبورسلين، ذات الزخارف الصينيَّة المنمَّقة والرائعة الجمال.
كيف يكون جاهلاً وهو العارف بأمراض العصر، والنفس الإنسانيَّة، يستحثُّ الناس لمعرفة الذَّات، داعياً بالعودة الى جوهر الدين الصحيح، وللإيمان بالله واليوم الآخر، والتمسُّك بعرى الفضيلة، والسير في طريق الحقِّ والنور واليقين، ناشراً تعاليم صدقٍ ومبادىء حقٍّ ، داعياً لوحدة الأديان، ووحدة الإنسانيَّة، راسماً طريق الخلاص ، شارحاً المفاهيم الروحيَّة وأسرارها التي خُفيت على البشريَّة وعلماءها وفلاسفتها وعباقرتها.
إن كان صاحبَ كلُّ ما تقدَّم جاهلاً، فمن هو المتعلِّم؟! ..دعونا نستعرض البعضَ من علم الدكتور داهش وفكره، ونقارن بينه وبين أصحاب العلم والعلوم والمعرفة والفلسفة.
من تعاليم الدكتور داهش: جميع العناصر الماديَّة على إختلاف أنواعها وأشكالها وأحجامها وصورها، معروفة أو مجهولة، ليس لها كيانٌ نهائيٌّ مُستقلّ يختلفُ بجوهره عن السيَّالات العاقلة التي تمدُّ الإنسانَ بالإدراك والعواطف والنـزعات والمواهب والإرادة إلخ.. وهي ذات جوهرٍ روحيّ، مُنخفضة الدرجة الروحيَّة، بطيئة التردُّد. وإنَّ وراءَ مظاهر الكون “المادِّيـَّة” المُتقطِّعة والمتنوِّعة مُحيطًا من السيَّالات المتواصلة في سيَلان إشعاعها الخَفيّ .فالعالَمُ “المادِّيُّ” المنظور مُحدَّدة صُوَرُه وأشكالُه بتركيب حواسِّنا وسرعة ذبذباتها وبأَنواع الأشعَّة القليلة جدًّا التي نستطيعُ إبصارَها.
كذلك يؤمن بوحدة الجوهر العاقل بين الإنسان وسائر المظاهر الماديَّة، وينظر الى الكون نظرة وحدويَّة شاملة، حيث العوالم الماديَّة والفراديس الإلهيَّة تسكنها الكائنات الحيَّة بأشكالٍ متفاوتة، حسب درجاتها الروحيَّة وإستحقاقاتها.وإنَّ ثمَّةَ عوالِـمَ وكائناتٍ “مادِّيـَّة” كثيرة ، لا تقعُ تحت مُتناوَل حواسِّ البشر وأَجهزتهم العلميَّة، منها ما هو في كوكب الأرض نفسِه، ترتفعُ درجةُ التردُّد في سيَّالات صُوَرِها “المادِّيـَّة” بحيثُ تعجزُ حواسُّ البشر عن إدراكها، كما تعجزُ أَجهزتُهم العلميَّة عن التقاطها، فتُصبح بالنسبةِ للبشر كأَنَّها غير موجودة. فليستِ المادَّةُ المعروفةُ في الأَرض هي المادَّةَ الوحيدةَ المُنتشرةَ في الكون؛ ففي رِحابِه أَصنافٌ من المادَّة غير الأَرضيَّة بل غير المعروفة في النظامِ الشمسيِّ كلِّه، وسُرعةُ اهتزازها الذَريِّ أَعلى جدًّا مِمَّا يعرفُه الإِنسان. ولذلك من المُستحيل أَن يكتشفَ العُلماءُ وجودَها بصورةٍ حسِّيَّةٍ ملموسة.، وهي ما دامت خاضعة للأَنظمة الطبيعيَّة في العوالم التي تنتمي إليها، يستحيلُ أَن تتحوَّلَ عن طبيعتِها الأصليَّة لتغدوَ مَرئيَّة محسوسة إلاَّ بسماحٍ إلهيّ.
هو الذي يؤَكِّدُ أَنَّ كلَّ كيانٍ “مادِّيّ” ذو طاقةٍ جوهرُها روحيٌّ خالد. والأَشكالُ والمظاهرُ المحسوسة هي التي تتبدَّل، فنُسمِّي تبدُّلَها فناءً أو موتًا؛ لكنَّ السيَّالات التي هي جوهرُ طاقتِها يستحيلُ أَن تفنى. وهي إن تختفِ كطاقةٍ من جسمٍ عُضويّ أو غيرِ عُضويّ، تظهرْ في جسمٍ آخَر. كما يؤكِّد منذ عشرات السنين عن أنَّ السيَّالَ أَسرعُ من النور أَضعافًا مُضاعفة. ويزيد ” بأنَّ سرعةَ السيَّال تزدادُ بقدرِ ما يزدادُ ارتقاؤه الروحيّ، أي إنَّه في العوالمِ الفردَوسيَّة العُليا أسرعُ جدًّا منه في العوالمِ المادِّيـَّةِ الأُخرى.” وفي ضوءِ هذه الحقيقة يُمكنُ فهمُ السرعة التي يتمُّ بها هبوطُ شخصيَّات مُؤسِّس الداهشيَّة وتجسُّدها، ثمَّ عودتُها إلى عوالمِها العُلويَّة.
هو الذي علَّمنا بأنَّ قِوامُ الإنسان روحٌ وسيَّالاتٌ وجسَد. والروحُ نفثةٌ من لدن الله جُلَّ جلاله لا تُداخلُ المادَّةَ إطلاقًا، هي أمُّ سيَّالاته، ولا يُمكنُ أن تحتلَّ جسدَ الإنسان. ولأنَّها نفثة إلهيَّة خلقَها الله على صورته ومثاله، فلا يشوبها الدَّنَس ولا تُخالطُها المادَّة. وعالَمُها عالَمُ الحقيقةِ والخيرِ والجمال، عالَمُ السعادةِ والمعرفةِ والقدرةِ والطهارة، عالَمُ الخلودِ المُتخطِّي للزمان والمكان ولِما يُرافقُهُما من تحوُّلاتٍ ومُنغِّصات. ومن الأرواح الإلهيَّةِ المجيدة انبثقَت سيَّالاتُ الأكوان، التي كانت فيها مُندمجةً أصلاً، وبهبوطِها نشأَ الزمانُ والمكان، ثمَّ تكثَّفَت تكثُّفًا نسبيًّا في صُوَرٍ “مادِّيـَّة” اقتضَتها درجاتُها الروحيَّة المُتفاوتة. فهي نسيجُ الأكوان، معروفِها ومجهولها، بما ومَن فيها، ومن خلال جوهرِها الروحيّ يكونُ نشاطُها وتفاعُلُها فيما بينها، أيَّةً كانت صُوَرُها “المادِّيـَّة”. وأنَّ السيَّالات العاقلة الخاضعة للحساب سابقٌ وجودُها لوجودِ صُوَرِها “المادِّيـَّة”. معروفِها ومجهولِها، ومنها سيَّالاتُ الإنسان. فالأَرواحُ مصدرُ كلِّ سيَّالٍ وهي مَعادُه. وتشكل السيَّالات أبعاد الإنسان الروحيَّة خارج العالَم الروحيّ، وهي التي تخضع للإنتقال والتقمُّص. غير أنَّ بعضًا قليلاً منها يتَّحدُ بجسد الإنسان ليُشكِّل ذاتَه النفسيَّة المتمتِّعة بالإدراك والنزعات والإرادة في دورةٍ من دورات الحياة التي تكاد تكون لا نهائيَّة. والجسدُ يتكوَّن من سيَّال الشكل العامّ الذي تؤلِّفُ طاقاتُه الاشعاعيَّة ذات التردُّد المُنخفض نسبيًّا العناصرَ الأوليَّة “الماديَّة” في الطبيعة.
ومثلما أنَّ سيَّالَ الطاقة الإشعاعيَّة التي هي أحدُ مظاهر الصورة “المادِّيَّة” يُمكنُ أن يتجزَّأ إلى ما سمَّاه العلمُ بالـ”كوانتا” “ quantaالتي هي دقائقُها الصُّغرى، فإنَّ السيَّالَ الروحيّ يُمكنُ أيضًا أن يتجزَّأ، أو يتضاعف أو يتكاثر، لكنَّه لا يمنعُ التواصُلَ والتفاعُل فيما بينها مهما تكن أشكالها ، وأعدادها، والمسافات التي تفصل بينها.
ونتيجةً للعدالة الإلهيَّة، توجَّب أن يكون للسيَّالات الهابطة من عالم الروح، بفِعلِ استحقاقها المَبنيِّ على أَعمالها ورغباتها المُختارة، مقرٌّ مؤقَّتٌ تُعاني فيه المِحَن والتجارب التي تستحقّها حسب درجتها الروحيَّة. وهذا المقرُّ الماديُّ أشبه بسجن يحدُّ من قدرتها ومعرفتها وراحتها وفق استحقاق تلك السيَّالات. والقوَّةُ الموجِدة التي أَبدَعَت القوانينَ الكونيَّة التي بموجِبِها يسيرُ كلُّ شيء ليست هي التي تُعاقبُ الكائناتِ على أَعمالها، بل إنَّ سيَّالاتِ الكائنات (أَي طاقاتها الروحيَّة الإدراكيَّة النُّـزوعيَّة) هي التي تُعاقبُ نفسَها بنفسها وَفقًا لنظامِ السَّبَـبيَّةِ الروحيَّة الشامل المُتلبِّس للسَّبَـبِـيَّةِ الطبيعيَّة والمُشتمِل على نظامِ العدالةِ والاستحقاق الإلهيّ. وبعبارة أخرى يصنع السيَّال مصيره بإرادته، ويجعل نفسه ملائمًا لشكلٍ خاصّ من أشكال الحياة الراقية أو المنحطَّة في عالم الأرض أو غيره من العوالم الأخرى.
وسيَّالاتُ النفسِ بأكملِها. تُكوِّنُ وَحداتِ الطاقةِ النفسيَّةِ الأساسيَّة في شخصيَّةِ الإنسان، وتختلفُ في كَمِّها الإشعاعيّ الخَفيّ ودرجاتِ رُقيِّها الروحيّ فيما بينها وبين فردٍ وآخَر. وكلٌّ من هذه السيَّالات يتكوَّنُ من طاقةٍ روحيَّة حيَّة مُتواصلة الفعَّاليَّة، تجتمعُ فيها ثلاثُ قوًى تضمُّ الإدراكَ والنـزعاتِ والإرادة. لكنَّ هذه القوى، على استقلالِها الوظيفيّ، يُؤَثِّرُ بعضُها في نشاطِ بعض، ذلك بأَنَّ التعبيرَ عن نشاطها إنَّما يتمُّ من خلال كيانٍ عُضويٍّ مُوحَّد (أَي جسدٍ حَيٍّ واحد). وهذا السببُ هو الذي يُبقي الإنسانَ مُوَحَّدَ الحياة والوجود بالرّغم من تعدُّدِ سيَّالاتِه. وأَنَّ الجسد يتكوَّن من سيَّالٍ أساسي، ونفسَ الإنسان أَو ذاتَه الواعية تتكوَّنُ من سيَّالِ رئيسيّ وسيَّالاتٍ ثانويَّة وطارئة. فالذاتَ البشريَّةَ الكُبرى تضمُّ ذواتٍ صُغرى هي كناية عن كياناتٍ نفسيَّة ذاتِ جوهرٍ روحيّ، أي سيَّالات. ومَن يعِشْ في نزاعٍ شِبهِ دائم بين ذواتِه الصُّغرى لا يبقَ له من الطاقة ما يستخدمُه لتوحيد ذواته؛ فيُفقَدُ الاتِّزان ويحدثُ الخلَلُ النفسيُّ أو العقليّ.
يقول الدكتور غازي براكس: ” أَمَّا السيَّالُ الرئيسيّ فهو أَهمُّها، لأَنَّه يمدُّ الإنسانَ بالحياة، ويمنحُه طابعَ شخصيَّته المُميَّزة. والسيَّالُ الرئيسيّ يحتلُّ الجنينَ عند الولادة، في الشهر التاسع عادةً، وقد يشذُّ عن ذلك فتُقدَّمُ الولادة فترةً لأسبابٍ روحيَّة. هذا السيَّالُ الرئيسيّ إمَّا أَن يكونَ تابعًا لسيَّال الأب الرئيسيّ وإمَّا لسيَّال الأُمّ الرئيسيّ. فإذا لم يكُن لأَيٍّ منهما سيَّالٌ درجتُه الروحيَّة بمُستوى الأرض، فالولدُ لا يكتمل. هذا إذا استثنَينا أَيضًا كَونَ أَحدِ الاثنَين مُصابًا بعاهةٍ أو مرضٍ يمنعُ تكوُّنَ الجنين لأسبابٍ يقتضيها استحقاقُ الجنين وأَبَوَيه. غيرَ أنَّ الامتناعَ الروحيَّ الأَوَّل يُمكنُ تخطِّيه في حال وجودِ سيَّالٍ روحيّ في الأبِ أو الأُمِّ يكونُ على درجةٍ روحيَّة مُساوية لدرجةِ سيَّالٍ كائنٍ في عالَمٍ عُلويّ، أَي فردَوسيّ. فإذْ ذاك يحصلُ تَماسٌّ بين السيَّالَين. والعملُ الجنسيُّ يجعلُ السيَّالَ العُلويَّ يسقطُ ليحتلَّ الجنين “.
وسيَّالُ الإيمان الذي يحملُه سيَّالُ الإنسان الرئيسيّ الذي يمدُّه بالحياة هو الذي يُحدِّدُ له دينَه بنسبة درجتِه الروحيَّة. وقد قال مُؤَسِّسُ الداهشيَّة مرَّةً ما فحواه: إنَّ الإنسانَ لا ينشأُ على دين أَبَوَيه مثلما يظنُّ معظمُ الناس، بل درجةُ السيَّال الرئيسيّ هي التي تُحدِّدُ دينَه.
كلُّ سيَّالٍ رئيسيّ يمدُّ الإنسانَ بالحياة، ومعها حاجاتٌ فطريَّةٌ أَساسيَّة هي طاقاتٌ مُندمجة في السيّال الرئيسيّ نفسِه، هي خصائص وطاقاتٌ جوهريَّةٌ منه. منها الفهم والتفكير وسرعة الإنتباه والتخيُّل والتذكُّر، وحاجات أساسيَّة لتأكيد السيَّال لذاتِه. فيرغب في الخلود، وفي تقدير الذات، وفي القوَّة، وفي التملُّك. وفي الحاجة الى الآخر، كذلكُ في المعرفة النظريَّة وفي المعرفة العمليَّة. ولا شكَّ بأَنَّ رُقيَّ السيَّال أو تسفّله يُقاسُ بمدى إشباعِه هذه الحاجات. لكن الطبيعةَ البشريَّة تميلُ إلى الثَّبات، فرغبة السيَّال في تحقيق ذاته هي حاجته الأهم وغاية وجوده، تنشط فيه دوافعه ورغباته المختلفة بالقوَّة التي فيه، حسب نشاطها أو ضُعفها تبعاً لقوَّة دوافعه روحيَّةً كانت أم ماديَّة، آخذين بعين الحقيقة إنَّ تغييرَ الإنسان لسيَّالاته صعبٌ جدًّا؛ لكنَّه غيرُ مستحيل.
كذلك يضيف الدكتور داهش الى الحواس الخمس حسُّ الاتِّجاه والتوازُن الذي قلَّما ينتبهُ الباحثون له. فإذا كان هذا الاستعدادُ ضعيفًا بأَحد فروعِه في السيَّال الرئيسيّ، فإنَّ خلَلاً ما سيظهرُ في الجينات التي تحملُ البرامج المُعَدَّة لصَوغ الحواسّ، كالعمى أو الصَّمَم أو البكَم مثلاً. وهذا الخلَل لا يُمكنُ أن يحدثَ صدفةً، أي من جرَّاء خلَلٍ عفويّ طارئٍ على تركيب الجينات أَو الخلايا، مثلما يتوهَّمُ كثيرون من الباحثين؛ بل يكونُ ناشئًا عن استحقاقٍ له ناتجٍ عن أعمالٍ قام بها هذا السيَّالُ الرئيسيُّ في دورةٍ حياتيَّة سابقة. فالصدفةُ لا وجودَ لها في النظام الإلهيِّ العادل. وكما الحال في سببِ هذا الخلَل، فالحالُ في كلِّ خلَلٍ آخَر أَيضًا: إنَّه سببٌ روحيٌّ خاضعٌ لنظام الاستحقاق والعدالةِ الإلهيَّين.
فإذا طرأَ ضعفٌ ما على الإستعداد الذهني في السيَّال الرئيسيّ، فإنَّه سيُؤَثِّرُ في تكوين الجينات الخاصَّة التي تتحكَّمُ بخلايا الدماغ. وهكذا قد يظهرُ خلَلٌ في عقلِ الولَد منذ طفولتِه أو في أيَّةِ مرحلة من مراحل عُمره، فيتمثَّلُ بهلوسةٍ سمعيَّة أو بصريَّة، أو بضعفٍ منطقيّ، أو بغير ذلك من مظاهر الخلَل العقليّ. وقدرةُ الاستنتاج والاستدلال واكتناه الأَشياء والمفاهيم قد تكون في الوليد قويَّةً أو مُعتدلةً أو ضعيفة وَفقَ ما يحملُه السيَّالُ الرئيسيّ أَصلاً، وتنمو بنموِّ دماغِه. والتربيةُ والثقافةُ وظروفُ البيئة تُؤثِّرُ فيها، فيما بعد، تأثيرًا قد يكون ضعيفًا أو معتدلاً أو قويًّا، لكنَّها لا تُبدِعُها أَو تُغيِّرُ درجتَها الأصليَّة. فتفوُّقُ أَفلاطون وأَرسطو وأَفلوطين والفلاسفة العِظام، أو تفوُّقُ غاليلِه ونيوتن وآينشتاين والعُلماءِ الكبار، هو في مُعظمِه كائنٌ في سيَّالاتهم الرئيسيَّة قبل أن يولَدوا. والقولُ بتساوي البشر على هذا الصعيد قولٌ باطل دحَضَته الاكتشافاتُ البيولوجيَّة الحديثة.
إنَّ الاستعدادات الإدراكيَّة الفطريَّة المُشار إليها أَعلاه تتفاوتُ في قوَّتِها وضعفِها منذُ الولادة بين شخصٍ وآخَر. فالغباءُ، والتفكيرُ السطحيّ، والانتباهُ المُشتَّت، والخيالُ البليد، والتذكُّرُ الواهي، إذا حصلَت لإنسان مُجتمعة أو مُنفردة، تُضعِفُ قواه الإدراكيَّة بقدرِ الخلَلِ الذي تُحدِثُه؛ عِلمًا بأَنَّ سلامةَ نشاطِ هذه الاستعدادات الإدراكيَّة مرهونةٌ بسلامة الحواسّ، وخصوصًا بسلامة الدماغ وسائر الجهاز العصبيّ. لكنَّ انحطاطَ القوى الإدراكيَّة في السيَّال تبقى أَقلَّ شؤمًا وخطرًا على مصير السيَّال من انحطاط القوى النـزوعيَّة فيه.
يقول الدكتور غازي براكس:بالإنتباه يتمّ تركيز الإدراك ومنع تشتُّته، حيثُ يمتاز الخطباء الكبار بقوَّة الإنتباه وسرعة الخاطر، وعرفتُ من مُؤَسِّس الداهشيَّة أَنَّ كثيرين من الناس قد يكونون برُبع سيَّالِ انتباه طوالَ حياتهم، ولا تُفيدُ الثقافةُ والتدرُّبُ على تقويةِ هذه القدرة عندهم إلاَّ قليلاً. وضربَ مثَلاً يقظةَ بولس الرسول وقوَّةَ انتباهِه لكلِّ شاردةٍ أو واردة حينما كان يخطبُ مُبشِّرًا الأُممَ بالمسيح. ولمَّا سَئل الكتور داهش كيف يكون الانتباه أو أيُّ استعدادٍ آخَر سيَّالاً ما دامت هذه القوى جميعُها في سيَّالٍ واحد هو السيَّال الرئيسيّ؛ أجاب ما مفادُه: إعتَبِر السيَّالَ الرئيسيَّ حزمةً من الأَشعَّة الروحيَّة، وكلَّ قدرةٍ من القدرات أو استعدادٍ من الاستعدادات في الإنسان طاقةً (أَي شُعاعًا أو مجموعةَ أشعَّة) في تلك الحزمة.
كذلك يتكلَّم الدكتور داهش عن إنفصام الشخصيَّة، فيصفه تناقضٌ كبيرٌ بين سيَّالين روحيين في دوافعهما القويَّة . وهو سيطرة سيَّالٍ أدنى على الشخصيَّة الإنسانيَّة في ظروفٍ معيَّنة. كذلك الجنون شرُّ أمراض الشخصيَّة، وهو إحتلالٌ لسيَّالٍ سفليّ غريب دماغ المُصاب ، ، فيحجب عنه الإدراك الصحيح والمنطق السديد جزاءً له عن أعمالٍ قام بها طائعاً مُختارا.
هذا الأمراض ، مازال الأطباء وعلماء النفس واقفين حائرين أمامها، فالبعض منهم يردَّه الى تعذُّر فهم أنشطة النَّفس، أو عدم إتِّساق وظائف الدماغ.
كما يقول: بأن للحيوانات ” حاسَّة سابعة ” فتعرفُ أَشياءَ كثيرة عن أَعمالها وأَوضاعها في تقمُّصاتها السابقة، وبينها تقمُّصاتٌ بشريَّة، كما تعرفُ أسبابَ سقوطِها وتقمُّصها بأجسامٍ حيوانيَّة، وفي ذلك من العذاب والألمِ شيءٌ كثير. وقد أكَّدَ الدكتور داهش هذه الحقيقة مرارًا في كتاباته. ففي خاتمة قصَّة “التقمّص والتناسُخ أو عظُمَ ذنبُه فقُطِعَ ذنَبُه” يقول: “ونظريَّةُ التقمُّص تُؤَكِّدُ أنَّ المرءَ عندما يتقمَّصُ كحيوانٍ أَو طيرٍ أَو سواه يُعطى سيَّالَ معرفة الماضي، فيعرف أَنَّه كان بتقمُّصِه السابق رجلاً أو امرأَة، ولماذا تقمَّصَ الآن بالصورة الحيوانيَّة” .أَمَّا الإنسان فقد حُرِمَ من هذا السيَّال رحمةً به.
كذلك يؤكِّد الدكتور داهش أَنَّ البشرَ الحديثين جميعًا يتحدَّرون من آدَم وحواَّء معًا مثلما تنصُّ التوراةُ عليه. لكنَّ آدمَ المذكور في التوراة هو أَبو التكوين الذي ينتمي إليه الإنسانُ الحديث، أي البشرُ المُعاصرون والتاريخيُّون جميعًا. وقد سبقَه 759 تكوينًا، كلٌّ منها انتهى بدمارٍ وفناءٍ شبه شامل بعد تطوُّر وتقدُّم علميّ بارز وصلَت إليه حضاراتُ البشر الأَقدمين على امتداد ملايين السنين. ومن الطبيعيّ أن تبقى آثارٌ من حضاراتٍ سبقَت آدم.
يقول الدكتور براكس: أَمَّا الاختلافُ المورفولوجيّ فلا يعود إلى اختلاف البيئات التي عاشَ فيها البشر، مثلما يُظَنّ؛ فقد تُؤَثِّرُ البيئة تأثيرًا محدودًا في لون البشَرة، لكنَّها لا تُؤَثِّرُ في مورفولوجيا الإنسان (أي شكل رأسه وأعضائه). فالاختلافُ المورفولوجيّ بين البشر يعود إلى سببَين، وَفقَ ما عرفتُ من مُؤَسِّس الداهشيَّة: أوَّلاً، انحدارُ سيَّالات البشر من سيَّالاتٍ كانت في آدم وحوَّاء تنتمي لعوالمَ مُختلفة قبل هبوطِها في آدم. فالاختلافُ المورفولوجيّ في البشر الحديثين هو تابعٌ لاختلافٍ كان في مواطن السيَّالات الأَصليَّة. ثانيًا، تلقيحُ إناثٍ من الأرض من قِبَلِ رجالٍ هبطوا إلى الأرض في مركباتٍ فضائيَّة من عوالِمَ أكثر تقدُّمًا لكن قريبة من الأرض بدرجاتها الروحيَّة، وذلك في أزمنةٍ سحيقة بعد خَلق آدم الأَخير، الأمر الذي تركَ أَثرَه المورفولوجيّ في السُّلالات المُلقَّحة.
أيضاً من تعاليم الدكتور داهش، أنَّ الموتَ يحدثُ آنَ ينطلقُ السيَّال الرئيسيّ من الإنسان، هذا السيَّالُ الذي بثَّ الحياةَ فيه. وانطلاقُ هذا السيَّال مُحدَّدةٌ لحظتهُ بجينات الإنسان كما بأَعماله ورغباته معًا. أمَّا جيناتُه فعُمرُه فيها مُبرمَجٌ وَفقَ تقمُّصاته السابقة؛ وأمَّا أَعمالُه ورغباتُه فتبدأُ بتغيير ذلك البرنامج منذ وَعيِه الخيرَ والشرَّ ومسؤوليَّته عن أعماله وأَفكاره ورغباته.
إذًا ثمَّةَ نظامٌ روحيّ يستحيلُ على الإنسان تغييرُه. فعُمرُه فهو رَهنٌ باستحقاقه، وبإمكانه إطالتُه أو تقصيرُه، لكنْ ضمنَ الحدود المرسومة لكوكبِ الأرض.
كذلك كشف الدكتور داهش عن حقائق روحيَّة منها: أنَّ الحياةُ تنتشر في جميعِ أَرجاء الكون، في النجوم والكواكب المختلفة بعناصرها، وإن كانت متأجِّجة بالنيران أو باردةً كالجليد، لأنَّ مصدرَ الحياة كامنٌ في السيَّالات الروحيَّة المُنبثَّة في كل مظهرٍ من مظاهر الطبيعة الحيَّة أَو الجامدة، ولا يقتصر نشاط الحياة على أشكال مألوفة، فحيثما تكون طاقة منظِّمة تكون حياة ، وقد تكونُ الطاقةُ المُنظَّمة في بيئةٍ صخريَّةٍ أَو غازيَّةٍ أَو جليديَّةٍ أَو ناريَّة.
فالحياةُ ذاتُ أَشكالٍ ومُقوِّماتٍ لانهائيَّة. وطبيعتُها وخصائصُها تتبدَّلُ بحيثُ تأتلفُ مع طبيعة العالَم الذي هي فيه ومع خصائصه.
نكتفي بهذا القدر من علم الدكتور داهش وثقافته ومعرفته، لأنَّ علمه لا ينضب، ومعرفته أوسع من الخيال، وثقافته ليست وقفاً على مادَّة أو حِكراً على مُعلّم.
من نظريَّات العلماء وأرآءهم: يظنُّ الكثيرين من الباحثين والفلاسفة أنَّ الروُّحَ والمادَّة كيانان مُتناقضان في طبيعتَيهما، فأَوقعَتهم هذه الفرضيَّة الثُّنائيَّة في تفسيراتٍ اعتباطيَّة لكيفيَّةِ التفاعُل بينهما. وقد أَدَّى ضعفُ براهينهم إلى ردَّةِ فِعلٍ كان من نتائجها، وَفقَ ما وردَ في باب “أنتم تسأَلون والدكتور داهش يُجيب” بمجلَّة “بروق ورعود”، “نشوءُ الفلسفات المادِّيـَّة النافية وجود الرُّوح والقائلة بوجودٍ واحد في الكون هو الوجود المادِّيّ، وقد تنبَّهَ كثيرون من العُلماء والمُفكِّرين المُعاصرين لخطإ ثُنائيَّة الروح والمادَّة، لأنَّه يستحيلُ أن يُؤثِّر عامِلٌ غيرُ مادِّيّ في وجودٍ مادِّيّ.
ذلك مع العلم بأَنَّ فريقًا من علماءِ البيولوجيا اكتشفوا مُؤَخَّرًا أَنَّه ما زالت أَسرار كثيرة من كُتلة المورِّثات محجوبة عنهم، ومنها أنَّ كيفيَّة تتابُع الـ د. ن. آي. ليست النظامَ الرمزيَّ البيولوجيَّ الوحيد المخزون في الكروموزومات. فقد اكتشفوا في هذه الأَخيرة ظاهراتٍ متنوِّعة سمَّوها epigenetic phenomena تعملُ أَشبهَ بالمفاتيح لتقوية أَو إضعاف تأثير الجينات؛ وهي أَشبهُ بمعلوماتٍ مُرمَّزة من الكيميائيَّات المعلَّقة بالـ د. ن. آي أَو ببعض البروتينات البسيطة. وهذا يدلُّ على أَنَّ العلمَ ما يزالُ بعيدًا عن فهمِ كلِّ الأسرار المُكتنِفة لِبِنية الإنسان النفسجسميَّة.
ولعلَّ الأَعظمَ بين عُلماء العصور الحديثة هو آينشتاين. الذي ميَّـزَ بين المُؤَسَّساتِ الدينيَّةِ المُنظَّمة التي بنَت تعاليمَها على تخويفِ المُؤمنين من القوى الغَيبيَّةِ الجبَّارة وعقابِها أَو على إرشادِهم إلى التعاطُفِ والتحابِّ والتزامِ الأخلاقِ الشريفة من جهة، و”الشعورِ الدينيِّ الكَونيِّ” الذي لا يستندُ إلى عقيدةٍ مُحدَّدة، والذي يُخالِجُ العُلماءَ الحقيقيِّـين لدى تأَمُّلِهم في نظام الكَونِ العجيب المُتناهي في دقَّتِه من جهةٍ أُخرى. ويرى آينشتاين “أَنَّ المَهمَّةَ الجُلَّى للفنِّ والعِلم هي أَن يوقِظا هذا الشعورَ ويُبقِياه حيًّا في مَن يقدرون على الإحساسِ به.” وهو يرى أَنَّ العالِمَ الحقيقيَّ يُهيمنُ عليه شعورٌ بالسَّبَـبيَّةِ الكَونيَّة التي تشملُ أَيضًا الرَّبطَ بين أَعمال الإنسان ومصيره. و”شعورُه الدينيُّ يتمثَّلُ بدهشةٍ كُبرى أَمام ائتلافِ القوانين الطبيعيَّة التي توحي بعقلٍ بلغَ من التفوُّقِ حدًّا لو قورِنَت به أَعمالُ البشر المُنظَّمة كلُّها، الفكريَّةُ والمادِّيـَّةُ معًا، لَبَدَت جميعُها مُجرَّدَ ظلالٍ تافهة.
ونظرةُ آينشتاين إلى العُلماء المُستنيرين، وهم فئةٌ من العباقرة، تأخذُ بها التعاليمُ الداهشيَّة التي توضِحُ أَنَّ سيَّالاتِ الهداية الروحيَّة التي تكون في الأَنبياء والرُّسُل تهجرُ المُؤَسَّساتِ الدينيَّة، بعد أن تفسد، لتحتلَّ العباقرةَ الذين يُصبحون أَمَلَ الارتقاءِ الحضاريِّ الروحيّ. وفي هذا الضوء نفهمُ سببَ اضطهاد رجال الدين لمُعظم العباقرة في سياق التاريخ، ذلك بأَنَّ إبداعَهم، عِلمًا، وفلسفةً، وأَدبًا، وفنًّا، يشقُّ طريقًا مُباشرةً إلى القوَّةِ الإلهيَّةِ الموجِدة هي أَيسرُ للإنسانِ الذكيِّ وأَوضحُ وأَقوَم من الطريق المُلتوية الوعثاء التي يفرضُها رجالُ الدين. فسقراط وكوبرنيكس وغاليله وبرونو وفولتير وروسّو وهيغو ولامرتين وتولستوي وجبران وغيرُهم كثيرون مِن العباقرة الذين اتُّهِموا بالهرطقة أو الإلحاد، فاضطُهِدوا وحُرِّمَت كتبُهم، هم أَقربُ إلى جوهر الدين والروحانيَّة من أكثر رجال الدين.
لكنَّ أَهمَّ ما يُفرِّقُ العِلمَ عن العقائد الدينيَّة التقليديَّة من حيثُ النظرةُ إلى الإنسان هو أَنَّ العِلمَ لا يُميِّزُ بين الإنسان والطبيعة. فالعناصرُ المادِّيـَّةُ التي كوَّنَته هي نفسُها التي كوَّنَت الطبيعة؛ ولِذا فالعُلماءُ لا يعتبرون الإنسانَ حدَثًا استثنائيًّا مُنفرِدًا في الكَون، فهو جزءٌ من كُلّ، ومُداخِلٌ للكُلّ. وهذا الاختلافُ في الموقف جعلَ انفصالاً وعداءً بين المفاهيمِ الدينيَّة والعِلم طوالَ قرونٍ كثيرة. وهنا فَضلُ الداهشيَّة. فتعاليمُها تُؤَيِّدُ العِلمَ بِشَبْكِه الكائنات جميعًا بعضِها ببعض؛ لكنَّها تزيدُ عليه إيضاحَها بأَنَّ النسيجَ الأصليَّ للكون كلِّه هو من السيَّالات الروحيَّة العاقلة التي تتفاوتُ مُستوَياتُها تفاوُتَ الكائناتِ نفسها؛ وهذا ما يُقيمُ الوحدةَ المادِّيـَّةَ كما الوحدة الجوهريَّة بين الموجودات جميعها، كبيرها وصغيرها، من المُستوى الأعلى إلى المُستوى الأدنى. فالداهشيَّة أَزالت الحاجزَ الذي وضعَه شارِحو العقائد الدينيَّة، بدافعٍ من استكبارهم، بين الإنسان والطبيعة، إذْ رفضوا أَن يكونَ في الحيوان والنبات والجماد خصائصُ نفسيَّة وحياةٌ عاقلة مسؤولة كما في الإنسان، ذلك بأنَّ الإنسانَ، في نظرِهم، هو سيِّدُ الكون. فضلاً عن ذلك فالتعاليمُ الداهشيَّة أَوضحَت أَنَّ الوحدةَ الروحيَّةَ الجوهريَّة قائمةٌ بين ما يُعتبَرُ “مادِّيـًّا” وما هو روحيٌّ محض، فألقى هذا المفهومُ ضوءًا على معقوليَّة تأثير الكائنات الروحيَّةِ المحض في الكائناتِ “المادِّيـَّة”، وذلك بواسطة الجوهرِ الروحيِّ المُشترك، أَي السيَّالات الروحيَّة، الذي يجمعُ بينها.
وتأثيرُ العلم الخطير في حياةِ البشر يقضي، وفقًا للتعاليم الداهشيَّة، بأَن تكونَ الغايةُ من استخدام إنجازاتِه شريفة، سواءٌ كانت اختراعاتٍ أم اكتشافات. ولا رَيبَ في أَنَّ معظمَ العلماء الكبار تُحرِّكُهم، أَصلاً، دوافعُ شريفة متولِّدة من طاقات الإبداعِ فيهم التي هي سيَّالاتٌ راقية. لكنَّ كثيرين منهم في أيَّامنا هذه—وللأَسف— تُؤَدِّي أَبحاثُهم وإنجازاتُهم إلى الضررِ بالبشر أو الحيوان أو الطبيعة؛ ذلك بأنَّ المُؤَسَّسات العسكريَّة أو الصناعيَّة تستخدمُ إنجازاتِهم بالاتِّفاق مع الجامعات أَو إدارات المُختبرات من غير أَن يعرفَ العلماءُ بذلك أَحيانًا كثيرة؛ وكثيرون منهم، في حال معرفتهم، إمَّا يكونون قد رُبِطوا بقيود العقود، أَو أُخرِسوا بالمال والوعود. حتَّى إنَّ هذا التورُّطَ المقصودَ أم غيرَ المقصود أَثارَ استنكارَ غير قليلٍ من المُفكِّرين، منهم دايفِد نوبِل David Noble وماكْس أُوتو Max Otto. ففي كتابٍ أَصدره حديثًا نوبِل بعنوان “دينُ التكنولوجيا” عرَّضَ بالجامعات التي تربطُ أَبحاثَ أَساتذتها من العُلماء، على غير علمٍ منهم، بالمُؤَسَّساتِ العسكريَّة. وقد أَوضحَ المُفكِّرُ الأَمريكيُّ، الأَلمانيُّ المولد، ماكْس أُوتو في كتابه “العِلمُ والحياةُ الخُلُقيَّة” خطرَ انجراف العُلماء إلى خدمةِ الأَغراضِ السياسيَّة غير الشريفة، ولا سيَّما عند استدراجِ أَصحاب السلطة العباقرةَ منهم واستثمارِهم لطاقاتهم الإبداعيَّة في تدمير العُمران وقَتلِ المُحاربين وغير المُحاربين من الأبرياء رجالاً ونساءً وأَطفالاً.
وكان يُحزِنُ رجُلَ الروح أَن يرى أَنَّ بَونًا شاسعًا يفصلُ العُلماءَ خاصَّةً، والعباقرةَ عامَّةً، مِمَّن يكونون أُمناءَ لرسالاتِهم، وهم نُخبةٌ ضئيلة في العالَم، عمَّن جرَفَتهم الأَطماعُ والشَّهواتُ الدُّنيَويَّة وخانوا رسالاتِهم. كما كان يُحزِنُه أَنَّ ذَوي المواهبِ العالية المُحافظين على سُمُوِّ سيَّالاتهم قلَّما استطاعوا التأثيرَ الواسعَ في عامَّةِ الناس الذين ما زالوا الأَكثريَّةَ الساحقة في كلِّ مكان، يُلازمون مُستواهم الفكريَّ النـزوعيَّ الوضيع على كرور القرون. يقولُ الدكتور داهش في مُقارنةٍ بين التقدُّم التكنولوجيّ والتدهوُر الخُلُقيّ في القرن العشرين: “حقًّا إنَّ الإنسانَ سيطرَ باختراعاتِه المُذهِلة على البحرِ والجَوِّ، ولكنَّه، للأَسف، لم يستطع أَن يُسيطرَ على نزواتِه ورغباتِه!”
وهكذا نرى أنَّه ما يزالُ العلمُ والفلسفةُ، بالرغم من محاولاتٍ كثيرة، قاصرَين عن فهمِ حقيقةِ الكون والإنسان وعن اكتناهِ النفس وتعليلِ نشاطها وأَحوالِها وتناقُضاتها مثلما قدَّمَتها الداهشيَّة. فهي الحدودُ التي تقفُ عندها المعرفةُ العلميَّة، لتبدأَ ما بعدها المعرفةُ الروحيَّة، والتي هي طريق العلم والعلوم والفلسفة والخلاص والسماء.
من هنا نعرف ان المعرفة النبويّة والمستمدّة من السما، من الله عزّ وجلّ، هي فوق المعرفة البشريّة وعلومها، وقواعدها،وفلسفتها، وقوانينها، بل هي العلم والمعرفة، أضف اليها الأهداف السامية والنبيلة التي تسمو بالنفس البشرية الي العوالم الفردوسيّة، والتي هي طريق الخلاص لكلّ نفسٍ دخلت الى المدرسة أم بقيت علي سجيّتها. فبعملك الصلاح ترى طريق الله جلياَ واضحاً.
وفي النهاية: يقولُ مُؤَسِّسُ الداهشيَّة، وهو الغَنيُّ عن المعارف البشريَّة لِما يُزوَّدُ به من إلهامٍ ووَحيٍ روحيّ: “كلَّما مرَّت بي الأَيَّامُ ازدَدتُ علمًا وأَفدتُ دروسًا أَنا في أَمسِّ الحاجةِ إليها؛ وكلَّما أَشرقَت شمسُ صباحٍ جديد، ازدَدتُ تفكيرًا يختلفُ عن تفكير اليومِ الماضي، ذلك فضلاً عن أنَّه كثيرًا ما أَكبرَ العقلَ والعلمَ وأَعلامَ الفلاسفةَ والعلماء.
ولا رَيبَ في أنَّ أهلَ العلمِ والفكرِ والأدبِ والفنّ، أصحاب الصِّدق في الرسالاتِ الأَدبيَّة، والتأملات الروحيَّة يتميَّزوا بالشجاعةِ الروحيَّة، لأنَّها صِفةٌ مُلازمةٌ أصلاً لسيَّالِهم الراقي، إذا لم ينحنوا أو يجبِنوا ويقفوا وقفة ذُّلٍ أمام طاغية، فكان الدكتور داهش يُكبِرُ الذين يُقارعون أَصحابَ الشرِّ والظلمِ. فهم خيرُ جُلَساءِ، ومن الأقربِ إلى روحه السامية المُتطلِّعة دومًا إلى الإبداع، والأَكثرِ إيناسًا وتشويقًا في مُحادثتِهم إيَّاه، والأكبرِ قيمةً إذا اضطُرَّ إلى وَزنِ قيمةِ الزائرين. فلا رجالُ الدين، ولا رجالُ الحُكمِ والنفوذ، ولا ذَوو الجاهِ العريض والثروة، كانوا ليملأُوا عينَه وقلبَه مثلما كان المُبدِعون في كلِّ مجال. أَنَّهم بُناةُ الحضارةِ ومُطوِّروها ومُجدِّدو نسغ الحياةِ فيها بعد الأَنبياءِ والمُرسَلين. لعلمه أنَّ كلِّ عبقريٍّ مُزوَّدًا برسالةٍ محدودةٍ، عليه أن يُتِمَّها إذا لم يُسفِّل سيَّالَه العُلويَّ، وذلك في مجالٍ خاصّ، سواءٌ أَكان في العلم اكتشافًا أو اختراعًا، أم في الفكرِ والأدبِ هدايةً أو كِفاحًا وإصلاحًا، أم في الفنِّ إعلاءً لغرائز الإنسان الدُّنيا ونهوضًا به إلى سماءِ الجمال؛ فالجمالُ الفنِّيُّ، سواءٌ في الأدبِ أو الرسم أو النحت أو الموسيقى، خيرُ ما يُجسِّدُه، في رأي الدكتور داهش، هو الواقعيَّةُ الحيَّة، وبعبارةٍ أُخرى، صدقُ الواقع الموضوعيّ المُتناوَل وحيويَّتُه ، نفسيًّا كان أم طبيعيًّا،. فبقَدرِ ما يدعُ الأديبُ أو الفنّانُ هذه الواقعيَّةَ الحيَّة ترفعُ صنيعَه الإبداعيَّ إلى مرتبةٍ تُداني ما أَبدَعته القدرةُ الموجِدة، يكونُ قد نجحَ في مَهمَّتِه، وإبلاغِها إلى القارئ أو المُتأَمِّل، كما نجحَ في تأدية دَورِه في المجتمع.
فسيَّالاتُ العباقرةِ تابعةٌ لسيَّالات الهداية الروحيَّة التي تُرسِلُها العنايةُ الإلهيَّة إلى الأرض في كلِّ فترة لتُجدِّدَ حيويَّةَ الروحِ وتُنمِّيَ الحضارةَ فيها. وبسببِ هذه الموهبة الفطريَّة وما تحملُه من مَهمَّةٍ روحيَّة، ومن المُحال أن يُصبحَ الإنسانُ من عباقرةِ الفلسفة أو العلم أو الأَدبِ أو الفنّ بمجرَّدِ المُطالعة وحيازة الشهادات الجامعيَّة ومُمارسةِ فنٍّ من الفنون، إن لم يُعطَ الموهبةَ من فوق. فالثقافةُ تصقلُ الموهبةَ، لكنَّها لا تُبدِعُها.
كذلك كان الدكتور داهش يُكبِرُ العُلماءَ الذين التزموا الإيمانَ والذين لم يطوِّح بهم الغرورُ والاستكبارُ فيُعمَون عن إدراكِ أَنَّ نظامَ الكَونِ الدقيقِ العجيب، المُهيمنِ على مجرَّاتِه كما على ذرَّاتِه وذريراته، يستحيلُ وجودُه من غير قوَّةٍ كونيَّةٍ عاقلة مُدبِّرة ، قوَّة إلهيَّة موجدة ومنظِّمة، هي علَّةُ حدوثِه ووجوده. وجُعلت للخلائق غاية، وأَنَّ الأَنظمةَ الكونيَّةَ يستحيلُ أَن توجَدَ نفسها بنفسِها، وأَنَّ الفكرَ في الإنسان لا بُدَّ من أَن يكونَ له مصدرٌ عاقِل، وأَنَّ تركيبَ الكون المعقول إنَّما أُوجِدَ لكائناتٍ عاقلة، والأنواعَ البشريَّة قد لا تعني شيئًا ذا قيمة على الصعيد المادِّيّ، لكنَّ وجودَ العقل في الكائناتٍ الحيَّة في الكون، هو حتمًا من الوقائع ذاتِ الدلالةِ البالغةِ الخُطورة، ولا يمكن أن يكون الكون من غرائب الصُّدف.
فالى المعلم وصاحب العلم وألعلوم ، داهش العظيم والحبيب اخشع صاغراً، راثياً لجهالتي، راجياّ ان يُنير بصيرتي، ويزيدني من علمه علماً والذي هو أولاً وأخيراً علم السماء، وعلم الله.
أضواء على
عن وجود أشقاء ليسوع
في مؤتمرٍ صحافي عُقد بواشنطن في 21 تشرين الأول (أكتوبر) 2002، أعلن هرشل شانكس، رئيس تحرير ” مجلَّة أثريات الكتاب المقدس” البارزة،
شارك المعرفة
قراءة في
نظرة جديدة الى العالم ..وجمالية الحقيقة..ولحمة في النفس بين القول والفعل .
في عصر التقدُّم التكنولوجي والتطوُّر السريع، وتماشيَّاً مع الثورة الرقميَّة في طريقة نشر المعلومات، والتكيُّف مع إحتياجات العصر الرقمي وتحوُّل الصحافة التقليدية، برزت المجلَّة الإلكترونيَّة، تتجاوز الحدود الجغرافية والزمنيَّة، وتربط الأفراد في جميع أنحاء العالم،كوسيلة إعلاميَّة وديناميكيَّة وتفاعليَّة لتوصيل المحتوى ومُشاركته مع أكبر عددٍ من القرَّاء، أصحاب العلم ومُحبِّي المعرفة والباحثين عن الحقيقة، في أقصر وقتٍ ممكن.
ومع ظهور هذا الكَّمِّ الهائل من وسائل الإعلام والتواصل العالمي والتبادل الثقافي، لنشر الثقافات ووجهات النظر والأفكار المتنوعة، وبغياب الرقابة والمهنيَّة والموضوعيَّة في النشر، كَثُرَ انتشار المعلومات الخاطئة والأخبار المُزيَّفة، مما يُسلِّط الضوء على أهمية محو الأمية الإعلاميَّة، والحاجة الى الاعتبارات الأخلاقيَّة.
كان لا بُدَّ لنا من فتحِ نافذةً نطلُّ بها على هذا العالم المليء بالتحديَّات إثراءً للنسيج العالمي للفكر الإنسانيّ والتجربة الإنسانيَّة، بإنشاء مجلَّة فكريَّة ثقافيَّة هادفة، تتجاوز الحدود التقليديَّة، تحتضن ثراء الفكر وتوفّر منصَّة لتبادلِ الأفكارِ العميقة والمواضيع المثيرة للثقافة الإنسانيَّة، فكانت مجلَّة نارٌ ونور.
مجلَّة نارٌ ونور، ليس مجرَّد خيار؛ بل هو تعبير عن التزام وتقدير، عربون وفاء لصاحب الوعي الروُّحيّ، إلقاء الضوء على المفهوم الداهشيّ وإظهار الصورة الحقيقة لصاحبه، بنشر تعاليمه وكتاباته التي تجاوزت فيها مؤلَّفاته المئة والخمسين مُجلَّداً، صاحب الرسالة الروحيَّة التي تحمَّل في سبيلها الأمرَّين، غريبٌ في أرضٍ غريبة، يعيشُ الحياة المُثلى، يحمل على جراحه وآلامه نور الهداية للعالم. تدخل رِحاب معبده المُقدَّس لتقفَ وجهاً لوجه أمام الحقيقة الصَّادقة الصَّادمة.
مجلَّة نارٌ ونور، مساحةٌ يلتقي فيها العمق بالجوهر لتعزيز النمو الفكريّ، وتقديم نماذج للفكر والأدب الراقي، بعيداً عن سطحيَّة الكلمة في السرد الثقافي، وتفتح المجال واسعاً أمام القرَّاء بتوسيع وجهات نظرهم والإنخراط في تفكيرٍ يتخطَّى المعقول، كما تحفيزهم على التفكير والكتابة. وذلك من خلال نشر الأبحاث والدراسات والمقالات التي تتناول مختلف المواضيع الفكرية والثقافية من منظورٍ إنسانيّ وروحيّ وتحليلها بشكلٍ أكثر عمقًا.
في قلب مجلَّة نارٌ ونور، تكمن مهمة التنوير العميقة. تسعى جاهدة لجمعِ أقلام الداهشيِّين من أدباءٍ وشعراءٍ وأصحاب فكرٍ، شتَّتهم الأيام، وأبعدتهم المسافات، فأصبحوا غرباءً في عالمهم. تفتح لهم نافذةً للتعبير عن تجاربهم مع الحقيقة، تُلامس مشاعرهم بالتواصل العميق للرُّوح والنَّفس، تُحاكي إنسانيَّتهم بشكلٍ فعّال مع الحياة والوجود، ومشاركتهم معرفتهم الروحيَّة المُقتبسة من النبي الحبيب الهادي.
مجلَّة نارٌ ونور، نورٌ لا نار فيها، أنوارٌ ساطعةٌ باهرة تنشُرها أمام عقول قرائها، تقدِّم مجموعة متنوعة من وجهات النظر والأفكار والرؤى الثقافية، بهدف إحياء وتجديد إيمان الإنسان بالله والقيم الروحيَّة، في الحقيقة والنَّفس والرُّوح، مفاهيمٌ لم يألِفوها، بعيدة عن الغوغائيَّة الكلاميَّة، مدعومة بالبراهين الساطعة، مؤيَّدة بالتزامٍ أخلاقي في السرد والنقل والشهادة. تفتح المجال في السؤال والجواب، للساعين وراء المعرفة، بالتواصل المُباشر مع أصحاب الآراء والكتابات والمقالات.
مجلَّة نارٌ ونور، توفّر منصَّة للفنانين، تُشجِّع المُبدعين، تفتح فرصة لعرض وتقديم وتسليط الضوء على إبداعهم في المجال الفنِّي، سواء كانت لوحات فنيَّة، صور فوتوغرافية، أو أي نوع آخر من الفنون التشكيليَّة. تُساعد في فهم خلفياتهم الفنيَّة وإلهام القرَّاء بتفاصيل حياتهم، تنشر مقالات وتحليلات تقييميَّة لأعمالهم، مما يساهم في إبراز الجوانب الفنيَّة والفلسفيَّة لها، ويساعد في توجيه القراء نحو فهم عميق للفن.
هيئة التحرير.
الحياة سفينة عظيمة رائعة تمخر في بحر ماؤه ألآثام , وأمواجه الشهوات البهيميّة , وشطآنه النهاية المؤلمة .
الدكتور داهش