، إنَّ آثارنا تدلُّ علينا

أحبّ الكتب حبّ السُّكارى للخمر، لكني كلَّما أزددتُ منها شربا" زادتني صحوا"
الدكتور داهش

مُختارات

رسالة مؤسّس الداهشية الى المحامي أدوار نون

الدكتور داهش

من كتاب ” الرسائل المُتبادلة  “

أخي الاستاذ ادوار نون حفظك الله .

يا أخي انّ ما حدث لي ، وما سأرويه لك لهو أشبه بالأساطير اليونانية .

ومن يقرأ حكايتي يظنّني روائيّا بارعاً لفداحة ما أصبت به من الحكومة اللبنانية في عصر الحريَّة والنور ، والتبجّح بالتمسّك بنصوص القوانين الموضوعة .

والآن أصغ الى قصّتي الواقعيّة ، وبلّغها لآذان الرأي العامّ وللمراجع الرسميّة ، علّك تستطيع انتزاع حقّي السليب من هؤلاء الذين لم يتورّعوا عن دفعي الى الموت لغاياتهم الوضيعة . فشاء لي الله الخلاص ، وأنوفهم راغمة .

بتاريخ مساء السبت الواقع في 9 أيلول 1944 قدم الى سجن الرمل كلّ من مدير البوليس عارف ابراهيم وعمر طبارة ، رئيس دائرة التحرّي ، ومحمّد علي فياض ، كوميسار منطقة البرج ، وطلبوا من الجاويش قيصر الذي كان دور حراسته في ذلك المساء أن يبلّغني أنّ مذكّرة اخلاء سبيلي قد صدرت بحقّي ، وأنّ ادارة السجن ستخلي سبيلي في هذا المساء بشرط أن لا أخبر أيّ سجين أو أيّ شخص آخر من الحرس عن هذا الأمر . وبالفعل حضر قيصر وبلّغني عن هذا الأمر ، وأقسم عليّ ان لا أبلغ أحدا عمَّا سمعته . وهنا داخلني الريب وقلت له :

  • اذا كان حقيقة ما تقول ، فلماذا هذا التكتّم ؟ ولماذا لا أخرج الآن ؟

أجاب : ” لأن المذكرة لم تصلنا حتى الان ” .

قلت له :

  • وكيف عرفت بها اذاً ؟

قال : ” هذا لا يهمّك معرفته ، والمهمّ أن أشخاصاً سيحضرون في الساعة العاشرة ليلاً ويوصلونك . فقط أكتم هذا كلّ الكتمان ” .

 

أجبته : ” اعلم يا قيصر أنَّني لا أخطو خطوة خارج السجن الاّ اذا حضر كلّ من الدكتور خبصا والاستاذ ادوار نون ، فعندها يتأكّد لي صدق كلامك فأذهب برفقتهم . أمّا اذا حضر سواهم فانَّها مؤامرة للتخلّص منّي ” ….

وغادرته وأنا في أشدّ حالات الانفعال . أمّا هو فعاد يرجوني ويكرّر عليّ كتمان الأمر . وبطبيعة الحال دخلت الى غرفة السجن ، وبلّغت المساجين قائلاً لهم : ” توجد مؤامرة خطيرة على حياتي ، فانهم يريدون ، مثلما يزعمون ، أن يخلو سبيلي بشرط أن أكتم هذا الأمر ، وقصدهم الحقيقي من هذا الكتمان أنه عندما أخرج ، أو بالأحرى عندما يخرجونني ، اذ ذاك يطلقون عليّ النار ، ويدّعون قائلين : ” انّه حاول الهرب وتمكّن من الخروج ، فاضطررنا لأن نطلق عليه النار ” ، ويسدل الستار على هذه الجريمة . والآن اعلموا جميعا أنّ هذا الأمر ، اذا وقع ، فواجبكم ان تبلّغوا أهلي وأصدقائي كي يذيعوا للرأي العامّ تفاصيل هذه الجريمة الرهيبة ” ….

وقد عرف قيصر بأنني بلّغت السجناء فلم يكن راضياً . وللحال بلّغ بدوره مدير البوليس وزميله عن معرفة جميع السجناء بتفاصيل الحادث ، فأسقط في أيديهم ولم يكونوا ممتنّين .

وفي الساعة العاشرة ليلاً فُتحت غرفة السجن ، وتقدّم مني قيصر وبرفقته دركيّان ، وقالوا لي : ” انهم ينتظرونك كي تذهب برفقتهم ” . فمانعت جدّا ، لأنني عرفت بالمكيدة . ولكنّهم أصرّوا الاصرار كلّه . فلم أقتنع وطلبت منه المذكّرة التي تقول باخلاء سبيلي ، وقرأتها .

ثم بالرغم عنّي أُخذت الى غرفة المدير . وهناك وجدت من ذكرتهم لك ، أي مدير البوليس وعمر طبارة ومحمد علي فياض ينتظرونني . فطلبت منهم استدعاء أصدقائي ، فمانعوا وقالوا : ” نحن نوصلك ” . وقد ذهبنا أوّلا الى منزلي ، فشاهدته مطوّقا بعشرات من رجال البوليس ، فدُهشت جدّا .  ومن هناك قصدنا منزل الأخ جورج حدّاد ، عديل صديقك سابقاً ، كي آخذ بعض النقود من شقيقتي ، لأنهم أخبروني أنهم ينوون أخذي الى طرابلس الشام لأمكث فيها مدّة شهر ، ثم يعيدونني الى بيروت .

وعندما وصلنا الى منزل الأخ جورج قرع محمّد علي فياض جرس المنزل ، وأطلّت علينا شقيقتي أنطوانيت . فاستدعيتها للنزول ، ففعلت . ونزلت معها ماجدا ابنة جورج حدّاد . وما شاهد محمد علي نزؤلهما حتى جذبني بشدّة عظيمة ، فحاولت التخلص من جذبه العنيف . وهنا دارت رحى معركة رهيبة استعمل فيها عمر طبارة اطلاق أربع أو خمس طلقات نارية من مسدسه .

وما لبث أن شعرت بضربة من مسدّس محمد علي فياض على أم رأسي ، فهويت الى الأرض لا أعي شيئاً من هول الرطمة التي نالتني من يد هذا الوحش الأثيم .

والغريب أنني كنت أسمع الضوضاء والصيحات والأحاديث التي كانت تدور بين المجتمعين ولكنني لا أستطيع أن أتكلّم ، فقد عقد لساني من هول الضربة . وأخيرا وضعوا القيد الحديديّ في يدي ، وحملوني ، ثم ألقوني بسيّارة مدير البوليس الشهم ، بارك الله بأصله السامي .

وأقسم لك يا أخي العزيز بربّ السماء ، وبدم يسوع المسيح الطاهر ، أن الوغد الهمجيّ محمد علي فياض منذ القاني في السيّارة حتى بلغت الى مركز البوليس على البرج ، وهو ينهكني بلطمات عنيفة جدّا على وجهي وفكّي وصدري ورأسي وكافّة أعضائي ، وهو يشتمني بشتائم لم أسمع طوال عمري أحطّ من عباراتها .

وعندما بلغت الى المركز العامّ الذي تعرفه جيّدا ، طلب إليَّ أن أنزل ، فحاولت النزول ، ولكنّني لم أستطع من عظم ما لاقيته من ضرب مبرّح ، واذا بهؤلاء الوحوش الثلاثة يهوون عليّ بقبضات أيديهم . وانبرى محمد علي يركلني بقدمه بكلّ ما أوتيه من قوّة لأخرج ، فتحاملت على نفسي ، فما استطعت الى ذلك سبيلا ، بل سقطت من الاعياء ، ولم أستطع السير على قدمي . وهنا كان على درج المركز عشرات من البوليس ، فحملوني وأدخلوني الى غرفة رجال التحري التي تقع بالقرب من غرفة عمر طبارة !

وهنا نعم هنا أمسك الوغد محمد علي فياض سوطا غليظا وراح يهوي به على جسمي بصرامة رهيبة خلت معها أنّ روحي قد خرجت من بين جنبيّ ، وتشقّق اللحم متفسّخا ، وانبثقت الدماء من جسدي . وبالرغم من هذا ، فانّه لم يكفّ عن متابعة سوطي بقوّة ، حتى تصبّب العرق منه ، وأصبح يلهث كالحيوان الذي قام باعماله الشاقّة طوال نهاره وليله .

وهنا ألقى السوط من يده ، فأمسكه عمر طبارة وأكمل جلدي بقوّة عظيمة . وعندما تعب من كثرة الجلد تناوله آخر ، فآخر ، فآخر …حتى ظننت أنهم يريدون اماتتي بواسطة الجلد .

وأخيرا تقدم مني عارف ابراهيم مدير بوليس بيروت الفائق الرقّة والتهذيب وذو الأخلاق الكريمة …وراح يصفعني صفعات متتاليات بكلّ ما لديه من عزم وجبروت ، فانبثق من فمي الدم ، وما عدت أعي شيئا ، لأنّ الأرض دارت بي ، أو درت بها ، وغاب الوجود من أمامي …وعندما استيقظت كانت يقظتي على مياه باردة سكبها هؤلاء الجلاّدون عليّ ، وأعادوا الكرّة للمرّة الثانية من جلد وتعذيب ، ثم حملوني الى السيارة ، والشتائم المبتذلة التي يخجل السوقة من التلفّظ بها تنصبّ على رأسي من فم الشريف والحسيب النسيب محمد علي فياض كوميسار منطقة البرج ، هذا الرجل المؤتمن على الأخلاق ، وعلى المحافظة على الأمن العام . فيا للعار !

والويل لك ايتها الأمّة المنكوبة بمثل هؤلاء السفّاحين الأجلاف !

وفي السيارة ، نعم في السيارة يا أخي ادوار ! ….أركبوني فيها وأنا مكبّل بالحديد ، وجلس عن يميني رجل التحري المدعوّ عبد السلام عيتاني ، والذي جلس عن يساري اسمه سيزاك ستراك ، أمّا السائق فاسمه محمد المكّي وهو ابن الشيخ حسن مكّي ، وهو بوليس تحرّي أيضا ، وقد جلس بجانبه المفوّض عمر طبارة .

وهنا أيضا – بكلّ أسف يا أخي ادوار – أمسك عمر هذا بسوطه ، وراح يسوطني به ، والسيّارة سائرة بنا ، ووجهتها طرابلس ، فتألّمت جدا ، وقلت له : ” أليس من العار أن يجلد رجل لم يسىء الى أحد من الناس ، ولم تثبت عليه تهمة ، لا من النيابة العامة ولا من رجال الشرطة الخفية ؟ وهب ( لا سمح الله ) أنّ أيّة تهمة ثبتت عليّ ، فهناك محاكم كي تحاكمني بموجب قوانين البلاد ، ثم تحكم عليّ بالسجن …أمّا الضرب والجلد والارهاق والتعذيب فهذا ممّا لا تستعمله سوى الشعوب الهمجيّة البربريّة ” .

وكأنّ كلامي هذا كان حافزا له لتجديد جلدي ، ففعل ، واذا بضربتين من سوطه تقعان على قلبي ، فشعرت أنه قد توقّف عن الخفقان . وسوط آخر هوى به على يدي اليسرى عطّل لي ثلاثة أصابع منها ، فعدت للغياب عن الوعي . وعندما عاد إلي شعوري في الطريق وجدت السيّارة ما زالت تنهب بنا الأرض نهبا ، أمّا أنا فقد كانت هيئتي على الصورة الآتية :

كنت أرتدي قميصا ممزّقا من تأثير المعركة دون جاكيت ، لأنّ محمد علي جذبني منها وخلعها عن جسمي ، ثم ألقاها أرضا وداسها بقدميه . وكان البنطلون ممزّقا أيضا ، ورأسي مورّماً من هول اللطمات التي أصابتني ، وجسمي معجونا بعضه ببعض من مئات السياط التي نالتني على أيدي هؤلاء الأجلاف . ووجهي لو شاهده أقرب الناس إليَّ لما عرفه ، فقد كنت مورّم الوجه ، أعمش العينين ، أشعث الشعر ، وبحالة مؤسفة جدّا يتألّم لها حتى العدوّ .

ولم يكفني كلّ ما لقيته من اضطهاد مثلما يظهر لأنّ عمر طبارة أكمل قذفي بشتائمه المُخجلة . ودهشت كيف تقبل حكومة تحترم نفسها بتوظيف مثل هذا المخلوق وأشباهه …وأكملت السيّارة سيرها وأنا أقول في كلّ لحظة انهم يريدون الآن اطلاق النار عليّ ، والانتهاء من أمري .

وفي الساعة التاسعة صباحا بلغنا حلب ، وهناك رأسا أصعدوني الى دائرة الامن العامّ الافرنسيّة للجيش .

ولمّا كان الوقت باكرا ، لم يكن بعد قد حضر الاَّ موظّف واحد سلّموني له ، فأدخلني الى غرفة النظارة المُخيفة ، ثم أغلق عليّ الباب . وبعد نصف ساعة تقريبا فتح عليّ الباب ، وطلب إلي الخروج ، ففعلت ، وأدخلت الى غرفة ثانية ، واذا بي وجهاً الى وجه مع الحاج توما ، وهو رئيس الدائرة ، وكنت قبل عامين أو أكثر قد اجتمعت مرة واحدة معه بدائرة الامن العام في بيروت ، فدُهش عندما شاهدني الدهشة الكليّة ، واستفسرني عن الأسباب ، فأخبرته أن الحكومة اللبنانيّة تريد هكذا ، والسبب هو صداقتي لعائلة جورج حدّاد ، فدُهش جدّا .

وهنا تعرّيت ، ودعوته يشاهد آثار الضرب العنيف الذي نالني على يد هؤلاء الأوغاد ، اذ كان ظهري ومؤخرتي وصدري قطعة واحدة من لطخة سوداء ، فذعر الحاج توما ولم يصدّق ما شاهدته عيناه . انّها وحشيّة لم يجرِ على غرارها الا في تلك العصور المُظلمة السحيقة ، عصور محاكم التفتيش الرهيبة . وما لبث أن حضر الجلاّدون الأربعة وسلّموا الحاج توما رسالة بخصوصي ، فقرأها ، وقال لهم : ” انّها غير رسميّة ” . فقالوا له : ” اذن دعه يذهب معنا ” … فاستلموني وذهبوا بي الى سراي الحكومة ، وهناك أصعدوني برفقتهم ورفقة مدير بوليس حلب الى غرفة المحافظ احسان الشريف ، في الطابق العلوي ، وسلّموه رسالة مختومة ففضّها وقرأها . وهذه الرسالة أظنّها رجاء من حكومة لبنان كي تُبعدني من سوريا أيضاً ، ولا تسمح بسكني في حلب أو سواها من الأراضي السوريّة ؛ فهذا ما فهمته من أشخاص بعد خلاصي من التهلكة التي حفروها لي كي ألاقي بواسطتها حتفي .

وبعد أن تلا المحافظ الرسالة ، ناوله طبارة مرسوم اخراجي من الأراضي اللبنانيّة ، ولم يكن لي أي علم به الاّ في هذه اللحظة . واليك ما جاء في هذا المرسوم الذي لا يستند على قانون ، والذي لا يسمح به الدستور ولا النصوص الصريحة بخصوص الجنسيّة .

                     مرسوم رقم 1842 K

ان رئيس الجمهورية اللبنانية – بناء على الدستور اللبناني – وبما أن وجود السيد سليم موسى عشي المعروف بداهش في الأراضي اللبنانيّة من شأنه احداث اضطراب واخلال في السكينة العامة ، وبناء على اقتراح مجلس الوزراء ووزير الداخلية – يرسم ما يأتي :

المادة الأولى – يخرج السيد سليم موسى عشي المعروف بداهش من أراضي الجمهورية اللبنانية .

المادة الثانية – يبلّغ صاحب العلاقة مآل هذا المرسوم بموجب محضر ينظّم حسب الاصول .

المادة الثالثة – على وزير الداخلية تنفيذ هذا المرسوم .

بيروت ، في 8 أيلول 1944       الامضاء ( بشارة خليل الخوري)

صدر عن رئيس الجمهورية –

رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية ( رياض الصلح ) .

يبلّغ الى رئاسة الجمهورية – رئاسة الوزارة – وزارة الداخلية – وزارة العدلية – صاحب العلاقة .

وعندما انتهى المحافظ احسان الشريف من تلاوته قال لعمر طبّارة :

” نحن لا نستطيع قبوله في أراضي سورية ما دامت حكومة لبنان لا تقبل به . وكان الأحرى بحكومة لبنان ، ما دام الرجل لبنانيّا ، ان لا تخرجه خارج حدود بلاده ، بل تبقيه في قرية لبنانية لمدّة تحدّدها له ” .

فأجابه عمر طبارة :

” انّ الرجل غير لبناني مثلما يزعم ” .

فأجبته للحال :

” أنت تتكلّم بغير الحقيقة لأنني لبناني ، وتذكرتي التي تؤكّد لبنانيّتي يعود تاريخها الى عام 1923 ” .

فأجابه المحافظ :

  • انه لم يجرم في بلادنا ، والقانون لا يساعدني على وضعه في السجن دون جريمة ارتكبها .
  • فأجابه عمر : ” انني أضعه على مسؤوليتي ” .

وهنا انتهت المقابلة ، فرافقوني الى غرفة رئيس فرقة التحرّي في حلب . وهناك جلس عمر المذكور وكتب ورقة قال فيها انه يضعني في نظارة حلب على مسؤوليّته حتى تبتّ الحكومة اللبنانية في أمري .

وللحال اقتادوني الى السجن المُخيف ، وهو تحت السراي ، وينزلون اليه بعشرين درجة تحت الأرض . وقد مكثت فيه مدّة ثلاثة أيّام بلياليها . وكان قصدهم أن يميتوني ولا ريب .

أمّا اذا حدّثتك عمّا لاقيته في سجني من ضروب العسف والجور ، وما قاسيته من الجوع والعطش والعري والشتائم ، فان نفسك ستتألّم جدا ، لهذا أجتازه ، وأقول : في صباح يوم الثلاثاء أخرجوني من السجن ، وأصعدوني الى الطابق العلويّ . وبعد أن عرضوني للمسؤول عن أخذ البصمات والعلامات الفارقة ، قام بمهمّته وأخذ بصماتي وعلاماتي الفارقة كأنّني مجرم مزمن ، ثم اقتادوني الى المصوّر ، فأخذ صورتي وأنا بتلك الحالة المُحزنة ، ثم أعادوني ثانية الى السجن المُظلم الرهيب .

وفي الساعة الحادية عشرة ، أو أزيد ،  من صباح يوم الاربعاء أخرجوني من السجن ، وأنا بحالة أقرب فيها الى الموت منه الى الحياة ، وأركبوني بالسيارة التي أوصلوني بها من بيروت الى حلب ، وذهبوا بي الى قرية سورية تبعد عن حلب مسافة 45 كيلومتر على وجه التقريب اسمها اعزاز . وعندما بلغناها اقتادوني الى مخفر الدرك ، واختلوا بقائد الدرك ، ولفّقوا عليّ ما شاء لهم التلفيق ، وأعطوه التعليمات التي زوّدهم بها رؤساؤهم ، ثم عادوا وطمأنوني بأن مصيري قد بتّ فيه ، وبأنني سأمكث مدّة شهر في اعزاز في أي مكان أختاره ، ولكن يجب علي أن أثبت وجودي في كلّ يوم أمام مخفر الدرك .

ثم ودّعوني بعد أن طبع عمر طبارة الخبيث على جبيني ، ويا للسخرية !…قبلة سبق وطبعها يهوذا الاسخريوطي على جبين سيّده قبل تسليمه ليد أعدائه .

أمّا أنا فما كدت أذهب لاسأل عن فندق لآخذ فيه قسطا من الراحة ، وأتناول بعض الطعام ، بعد أن كادت روحي تزهق من شدّة التعب والجوع والعطش طول مدة سجني في بيروت وحلب ، اذا باثنين من رجال الدرك يغذّون السير في أثري , وللحال وصلوا إلي ، وألقوا القبض عليّ ، وأفهموني أني بتّ أسيرهم ، وأنّ سيارة تنتظرني لتقودني الى الحدود التركية .

فدُهشت جدّا ، وأبيت أن أصدّقهم . فاقتادوني الى المركز ، وهناك أطلعوني على قرار رقمه ( 413 ) أصدره عليّ ، على ما يظهر محافظ حلب ، وهو يقضي باخراجي من الحدود السورية ، وادخالي ضمن الحدود التركية  التي لا تبعد عن اعزاز أكثر من خمسة أو ستة كيلومترات .

فذعرت ، وعرفت بالمؤامرة الرهيبة ، ورفعت عيني الى السماء أستمطرها اللعنات على أصحاب الضمائر الميتة .

وهذا القرار يقول في فقرة من فقراته : ” اذا وجد في أي وقت من الأوقات الدكتور داهش ضمن الأراضي السورية فانه يُلقى القبض عليه ، ويحاكم ، ثم يسجن عملا بقانون قمع الجرائم ” .

وبعد توسّلات عديدة قبل القائد أن أمكث ليلتي في اعزاز ، فأدخلوني السجن أيضا فبتّ ليلتي بضيافته . وفي الصباح الثاني ، وبعد الظهر منه ، اقتادوني الى الحدود التركية ، ليدخلوني فيها .

أمّا قصد الحكومة اللبنانية ، من وراء اتّفاقها مع الحكومة السورية على ابعادي من بلادها السورية وادخالي الى الحدود التركية ، فهاك أسبابه :

عندما يشاهدني الحرس التركي سيُطلق النار عليّ ولا شكّ ، أو أنهم يحاكمونني ، ثم يحكمون عليّ بالاعدام كجاسوس نظراً لظروف الحرب ، وخصوصا لأنهم سيدفعون بي الى داخل الحدود دون أن يسلّموني للحكومة التركية تسليم اليد .

ولو فرضنا المستحيل ونجوت من الاعدام ، فالقانون التركي يقضي بأن يسجن من يلقى عليه القبض ضمن حدوده مدّة ثلاثة أشهر ، ثم يخرج الى خارج الحدود . وهكذا ان نجوت من الاعدام فانهم يحكمون علي بالسجن مدّة ثلاثة أشهر ، ثم يخرجونني الى الحدود ، فيُلقي رجال الدرك السوريّ عليّ القبض ، ويسجنونني المدَّة التي سيُحكم عليّ بها ، وفي نهايتها يبعدونني الى الحدود التركية ، فيعاد تمثيل هذه المأساة الى ما شاء الله ، ويُقضى عليّ في السجن .

والآن انني أطلب منك يا أخي ادوار أن ترفع قضية على ( الحكومة اللبنانية ) لعملها الغير القانوني ، وترفع قضيّة على من اعتدى عليّ منهم ، وأن تدع الأستاذ حليم دمّوس ينقل رسالتي هذه على نسخة ثانية ، ويرفع بواسطتها بدوره قضية على الحكومة وعلى المعتدين ، وأن تجري اللازم مثلما يخوّله لك القانون كموكّلي .

وفي الختام سلام من المتألّم .

حلب في 12 تشرين الاول 1944

                                                                     صديقك

                                                               الدكتور داهش

 

إقرأ أكثر

الداهشيّة

موسيقى الأيام الآتية

ضراعةٌ لخالق البرايا

تبارك اسمك يا الله!

السماوات تحدث بعجائبك،

أحاديث الشمعاتِ الأربع

كانت الساعة السابعة تماماً من ليل الرابع من شباط عام ٠١٩٧٩ وكنَّا رجلين وطفلين وأربع نسا.» .

حياة مؤسّس الداهشيَّة

في القدس , مدينة الانبياء , ولد الدكتور داهش , في مطلع حزيران سنة 1909

والده موسى الياس اليشي (نسبة الى اليشع النبي) ,

هدف المجلّة

في عصر التقدُّم التكنولوجي والتطوُّر السريع، وتماشيَّاً مع الثورة الرقميَّة في طريقة نشر المعلومات، والتكيُّف مع إحتياجات العصر الرقمي وتحوُّل الصحافة التقليدية، برزت المجلَّة الإلكترونيَّة، تتجاوز الحدود الجغرافية والزمنيَّة، وتربط الأفراد في جميع أنحاء العالم،كوسيلة إعلاميَّة وديناميكيَّة وتفاعليَّة لتوصيل المحتوى ومُشاركته مع أكبر عددٍ من القرَّاء، أصحاب العلم ومُحبِّي المعرفة والباحثين عن الحقيقة، في أقصر وقتٍ ممكن.

ومع ظهور هذا الكَّمِّ الهائل من وسائل الإعلام والتواصل العالمي والتبادل الثقافي، لنشر الثقافات ووجهات النظر والأفكار المتنوعة، وبغياب الرقابة والمهنيَّة والموضوعيَّة في النشر، كَثُرَ انتشار المعلومات الخاطئة والأخبار المُزيَّفة، مما يُسلِّط الضوء على أهمية محو الأمية الإعلاميَّة، والحاجة الى الاعتبارات الأخلاقيَّة.

كان لا بُدَّ لنا من فتحِ نافذةً نطلُّ بها على هذا العالم المليء بالتحديَّات إثراءً للنسيج العالمي للفكر الإنسانيّ والتجربة الإنسانيَّة، بإنشاء مجلَّة فكريَّة ثقافيَّة هادفة، تتجاوز الحدود التقليديَّة، تحتضن ثراء الفكر وتوفّر منصَّة لتبادلِ الأفكارِ العميقة والمواضيع المثيرة للثقافة الإنسانيَّة، فكانت مجلَّة نارٌ ونور.

مجلَّة نارٌ ونور، ليس مجرَّد خيار؛ بل هو تعبير عن التزام وتقدير، عربون وفاء لصاحب الوعي الروُّحيّ، إلقاء الضوء على المفهوم الداهشيّ وإظهار الصورة الحقيقة لصاحبه، بنشر تعاليمه وكتاباته التي تجاوزت فيها مؤلَّفاته المئة والخمسين مُجلَّداً، صاحب الرسالة الروحيَّة التي تحمَّل في سبيلها الأمرَّين، غريبٌ في أرضٍ غريبة، يعيشُ الحياة المُثلى، يحمل على جراحه وآلامه نور الهداية للعالم. تدخل رِحاب معبده المُقدَّس لتقفَ وجهاً لوجه أمام الحقيقة الصَّادقة الصَّادمة.

مجلَّة نارٌ ونور، مساحةٌ يلتقي فيها العمق بالجوهر لتعزيز النمو الفكريّ، وتقديم نماذج للفكر والأدب الراقي، بعيداً عن سطحيَّة الكلمة في السرد الثقافي، وتفتح المجال واسعاً أمام القرَّاء بتوسيع وجهات نظرهم والإنخراط في تفكيرٍ يتخطَّى المعقول، كما تحفيزهم على التفكير والكتابة. وذلك من خلال نشر الأبحاث والدراسات والمقالات التي تتناول مختلف المواضيع الفكرية والثقافية من منظورٍ إنسانيّ وروحيّ وتحليلها بشكلٍ أكثر عمقًا.

في قلب مجلَّة نارٌ ونور، تكمن مهمة التنوير العميقة. تسعى جاهدة لجمعِ أقلام الداهشيِّين من أدباءٍ وشعراءٍ وأصحاب فكرٍ، شتَّتهم الأيام، وأبعدتهم المسافات، فأصبحوا غرباءً في عالمهم. تفتح لهم نافذةً للتعبير عن تجاربهم مع الحقيقة، تُلامس مشاعرهم بالتواصل العميق للرُّوح والنَّفس، تُحاكي إنسانيَّتهم بشكلٍ فعّال مع الحياة والوجود، ومشاركتهم معرفتهم الروحيَّة المُقتبسة من النبي الحبيب الهادي.

مجلَّة نارٌ ونور، نورٌ لا نار فيها، أنوارٌ ساطعةٌ باهرة تنشُرها أمام عقول قرائها، تقدِّم مجموعة متنوعة من وجهات النظر والأفكار والرؤى الثقافية، بهدف إحياء وتجديد إيمان الإنسان بالله والقيم الروحيَّة، في الحقيقة والنَّفس والرُّوح، مفاهيمٌ لم يألِفوها، بعيدة عن الغوغائيَّة الكلاميَّة، مدعومة بالبراهين الساطعة، مؤيَّدة بالتزامٍ أخلاقي في السرد والنقل والشهادة. تفتح المجال في السؤال والجواب، للساعين وراء المعرفة، بالتواصل المُباشر مع أصحاب الآراء والكتابات والمقالات.

مجلَّة نارٌ ونور، توفّر منصَّة للفنانين، تُشجِّع المُبدعين، تفتح فرصة لعرض وتقديم وتسليط الضوء على إبداعهم في المجال الفنِّي، سواء كانت لوحات فنيَّة، صور فوتوغرافية، أو أي نوع آخر من الفنون التشكيليَّة. تُساعد في فهم خلفياتهم الفنيَّة وإلهام القرَّاء بتفاصيل حياتهم، تنشر مقالات وتحليلات تقييميَّة لأعمالهم، مما يساهم في إبراز الجوانب الفنيَّة والفلسفيَّة لها، ويساعد في توجيه القراء نحو فهم عميق للفن.

هيئة التحرير.

إقرأ أكثر

روابط

الحياة سفينة عظيمة رائعة تمخر في بحر ماؤه ألآثام , وأمواجه الشهوات البهيميّة , وشطآنه النهاية المؤلمة .

الدكتور داهش

Send Us A Message

error: Content is protected !!