أصلُ المعرفة مُثُلٌ عليا
تذكَّر أنَّ اليوم هو الغد الذي كنت قلقاً عليه بالأمس
دراسات وأبحاث

السيَّال العشرون
يقول الدكتور داهش:” ليس من يكتبُ للهو كمن يكتبُ للحقيقة”.
ونحنُ إذ نكتبُ للحقيقة لا يسعنا إلاَّ الاستناد الى كتابات النبيِّ الحبيب الهادي والوحي الإلهيّ وشروحات الدكتور غازي براكس المُلهمة، مُستمدِّين من كتاباتهم رؤيةً تزيدُنا وضوحاً وتُنير بصيرةً أنهكتها الأفكار والمُعتقدات المتوَارَثة على مرِّ الأزمان، مُقتبسين جملاً من مصدرها ومُتصرِّفين بأخرى اعتقاداً منَّا بأنَّهم خيرُ وأصدقُ من كتبَ للحقيقة، وما ذلك إلاَّ لإيماننا بأن المعرفة الروحيَّة تـتفوَّقُ على المعرفة البشريَّة تفوُّقًا لانهائيًّا مُستَمدًّا من طبـيعة الروح الإلهيِّ اللانهائيَّة، ومع ذلك فهي ليست مُطلَقة في المصدرين، لأنَّ المعرفة الإلهيَّة تعظُمُ في العوالِم الروحيَّة الإلهيَّة والحقيقةُ المُطلَقة في القوَّة الموجِدة فقط. وأنَّ جميعَ الحقائق التي أُتيحَت للبشر أن يدركوها عن طريق الوَحيِ الروحيِّ المُنـزَل على الأنبـياء والرُّسل هي نسبـيـَّة؛ وستبقى نسبـيًّة ما دامَ الإنسانُ إنسانًا مُقيَّدًا بحواسٍّ ذاتِ فعَّاليَّةٍ وإدراكٍ محدودين.
كذلك لا يعني أنَّ المعرفةَ الروحيَّة الداهشيَّة الجديدة تُناقضُ المعرفة الروحيَّة القديمة، أو أنَّها نهائيَّة ومُطلَقة، لكنَّه يعني أنَّ الروحُ الإلهيُّ ُيُسلِّطُ الضَّوء أكثر على حقيقةَ الوجود المادِّيِّ والروحيّ، بحيثُ تبدو منها دقائقُ وتفاصيلُ وأعماقُ ما كانت تظهرُ في الأديان السابقة. والمُفاضلةُ بينها يجبُ أن تكونَ في مدى إبقائها نقيَّةً بتـنـزيهها عن أن تكونَ مسرحًا للشَّهوات والرغبات واستغلالاً للمطامع المادِّيَّة والأمجاد الدُّنيويَّة. فالأديان مُتشابهة في جوهر التعاليم الإلهيَّة ووصايا السماء، والحقيقةُ الروحيَّةُ واحدة لا تتغيَّر، لكنَّ كَشفَها يكون بنسبة ارتـقاء المدارك البشريَّة.
وفي هذا البحث نحاول إلقاء الضوء على السيَّال العشرين، أسمى سيَّال من سيَّالات المسيح الإله التي أُرسِلَت إلى الأرض وحلَّت في مختلِف الأنبـياء والهُداة بماهيَّته وأبعاده السماويَّة، انطلاقاً من الحقائق الروحيَّة التي سُمِح لنا بمعرفتها، على أنَّ المعرفة بكل أشكالها وأسرار الأزل وخفاياه لا تُنقذُ أحداً، ما لم تقترن أعماله وتصرُّفاته بالقيم الروحيَّة والالتزام بتعاليم السماء ووصايا الأنبياء ، لأنَّ الغاية من المعرفة، إدراك الإنسان لأسباب شقائه وهنائه، وتوسيعُ دائرة عِلمه في رَبط الأَسباب بالنـتائج المُترتِّبة عليها؛ وبرهانًا عقليًّا حاسمًا على وجود نظامٍ روحيّ دقيقٍ عادل لا يُمكنُ أن يصدرَ إلاَّ عن قُدرة كلّـيَّة عادلة. وبقَدر المعرفة تكون المسؤوليَّة.
ومسؤوليَّتنا في الكتابة عن السيَّال العشرين بقدر معرفتنا في وصف الحقائق، والإخلاص للنبي الحبيب الهادي يكمنُ بالحفاظ على المعنى والمضمون ودون تشويهٍ للحقائق الروحيَّة وتعاليم الرسالة الداهشيَّة الحبيبة، والتي نحاول جاهدين لفهمها وتوضيحها لكلِّ قارىءٍ وباحثٍ عن الحقيقة، وعليه نسأل الله أن نكون قد أصبنا فيما نصبو اليه.
ومن هنا، وقبل البدء بالتحدُّثِ عن السيَّال العشرين ومعرفة مكانته وانتمائه الروحيّ وكيفيَّة وصوله الى عالم الأرض، لا بُدَّ من لمحةٍ مُقتضبة تشرح بداية الخلق والمراحل التي مرَّت بها الأرواح وسيَّالاتها والتجارب التي تعرَّضت لها بما فيها نشوء الزمان والمكان حسب الوحي الإلهيّ في الفكر الداهشيّ.
ففي التعاليم الداهشيَّة الموحاة أنَّ إرادة ﷲ عزَّ وجلّ أبدعَت الوجود الروحيّ وجوداً مُنزَّهاً معلومَه ومجهوله. ولأنَّه روحٌ مَحضٌ قُدُّوسٌ سرمديّ لا نهائيّ في القُدرة والمعرفة، خلق الأرواح على مثاله، فخَلقُه يجبُ أن يكونَ كائنًا روحيًّا محضًا قُدُّوسًا سرمديًّا قريبًا منه في القُدرة والمعرفة. ووفقًا لوَحْي الروح العَلِيّ أنَّ ﷲ أوجدَها لتُشاركَه في عِلمه الكامل. هذه الحقيقةُ الروحيَّةُ وردَ ذكرُها في الأَجوبة الروحيَّة التي ارتسَمتْ عجائبـيًّا مَوزَّعَةً تحت الــ 72 سؤالاً التي دوَّنها المُحامي والوزير اللبنانيُّ السابق إدوار نون، في العام 1943. فالأُلوهةُ لا تُكَوِّنُ إلاَّ كائناتٍ إلهيَّة. والأرواحُ القُدسيَّةُ الإلهيَّةُ امتدادٌ مُباشَرٌ للعزَّة الإلهيَّة التي أبدَعَتها، وهي خارج القيود الزمانيَّة المكانيَّة، وأبعاد المادَّة؛ ولِذا يستحيلُ أن تتدنَّى أيَّةُ روحٍ قُدسيَّةٍ عن العالَم الروحيِّ الأوَّل. ويستحيلُ أن تُريدَ أو تختار ما لا يُلائمُ طبيعتَها الإلهيَّةَ الكاملة. ولا تُداخلُ المادَّةَ إطلاقًا، والشرُّ والنـقصُ والفسادُ بجميع أنواعها المُمكنة يستحيلُ وجودُها في الأرواح الإلهيَّة. وعالَمُها عالَمُ الحقيقةِ والخيرِ والجمال، عالَمُ السعادةِ والمعرفةِ والقدرةِ والطهارة، عالَمُ الخلودِ المُتخطِّي للزمان والمكان ولِما يُرافقُهُما من تحوُّلاتٍ ومُنغِّصات. وعليه تكون الأرواحُ القُدسيَّةُ التي تضمُّها عوالِمُ الأرواح هي جميعُها آلهةٌ أو أرباب. ومن أجلِ ذلك يُمكنُ القولُ إنَّ ﷲ تعالى هو إلهُ الآلهة أو ربُّ الأرباب.
وبحكمتِه اللانهائيَّة، جعلَ الخالق لكلَّ روحٍ قُدسيَّةٍ ستَّ مئةِ سيَّالٍ روحيّ تكونُ امتداداتٍ تحملُ جوهرَ الروح الخالد، ووهبَ كلاًّ منها إرادةً مُستقلَّة وقُدرةً ومعرفةً خارقَـتَين؛ وذلك إخضاعًا لها لتجربة الحُرِّيَّة والاختيار وتحمُّل المسؤوليَّة، إمَّا التسليمُ إلى أوامر ﷲ ونواهيه والانجذابُ إليه كُـلِّـيًّا انجذابَ حُبٍّ كامل، وإمَّا استخدامُ إرادتها في التفكير بذاتها واختيارُ المغامرة في المجهول؛ ذلك لأنَّ المعرفةَ إذا لم تكن كاملة، مهما كانت عظيمةً خارقة، فإنَّ ثغرةَ الجهل فيها، مهما كانت صغيرة، ستؤَدِّي بصاحبها في النهاية إلى خَوض المجهول. وقضَت العدالةُ الإلهيَّةُ بأن تجعل توازُنًا بين جاذبـيَّة الخير وجاذبيَّة الشرِّ في كلّ روح، فجعلت النزعةَ إلى الخير والحقِّ والجمال والنور غالبةً في ثلاثمئة سيَّالٍ روحيّ في كلّ روح، بـينما جعلَت هذه النزعةَ أضعفَ في السيَّالات الثلاثمئة الأُخرى. كما قضَت بأن تكونَ السيَّالاتُ الروحيَّةُ الثلاثمئة النزَّاعة إلى الخير والحقِّ والجمال والنور مُتَّصلةً اتِّصالاً دائمًا بما يُقابلُها من السيَّالات الثلاثمئة الأُخرى وبأُمَّهاتها الأرواح القُدسيَّة. وبحيثُ يـبقى مُمكنًا للسيَّالات الروحيَّة، بعد انتهاء تجاربها مهما طالَت، أن تخلصَ من أيِّ نقصٍ وفسادٍ أو ضعفٍ وجهل، وتعود فـتـندمجَ بالروح الإلهيَّة الأُمّ، ثمَّ بالخالق عَز َّ وجَلَّ.
وبدأ دورُ التجربة، ونشطَت إرادةُ كلٍّ من السيَّالات، في كلّ روحٍ، تختار ما تشاء؛ فكانت نتيجةُ هذه التجربة التي أرادَها ﷲ تعالى لسببٍ عِلمُه لدُنهُ وحدَه أن ارتقى كثيرٌ من السيَّالات الروحيَّة الغالبة فيها نزعةُ الخير، وازدادَت سمُوًّا وقرَّبَت أرواحَها الأُمَّهات أكثر إلى الخالق عَز َّ وجَلّ، بـينما هبطَت أعداداً كثيرة غيرها من السيَّالات الروحيَّة ذات النزعة الضعيفة إلى الخير والحقِّ والنور وابتعدَت بها رغباتُها الُحرَّة وحبُّها لِخَوضِ المجهول عن مُحيط العوالِم الروحيَّة الأَبديَّة السعيدة، وعن أَنوار المعرفة الإِلهيَّة الكاملة، فكان الهبوطُ الأَوَّل. واتَّجهَت اتِّجاهًا أبعدَها عن مصدر وجودها. هذا التفاوُت العظيمٌ بين اتِّجاهات السيَّالات الهابطة وكذلك بين اتِّجاهات السيَّالات المُتسامية كان له تأثيرٌ في مراتب الأرواح الأُمَّهات التي تنبثقُ منها تلك السيَّالات.
واستنادًا إِلى الوَحْيِ الإلهيِّ وكتابات الهادي الحبيب المُلهَمة عرفنا أَنه نتجَ عن هُبوط السيَّالات الروحيَّة لكلٍّ منها تكوينُ بلايـين العوالِم المادِّيَّة، وذلكَ بنسبة الدرجة الروحيَّة لكلّ سيَّالٍ هابط. ما يعني أنَّ كلَّ روحٌ قدسيَّة أمٌ لمجموعة عظيمة من الكونَ المادِّيَّ، بما ومن فيها من النجوم والكواكب والسُّدم والمجرَّات وكائناتها على اختلافها، معروفها ومجهولها، فالأَرواحُ القُدسيَّةُ الإِلهيَّةُ التي هي مصدرُ الحياة وأُمَّهاتُ الكائنات إِنَّما هي شموسٌ عظيمةٌ ذاتُ إِشعاعٍ غير مرئيّ، وهي على اتِّصال دائم بسيَّالاتها الهابطة بواسطة قوى اشعاعيَّة خفيَّة، وتتأثر مرتبتها الروحيَّة بنزعات سيَّالاتها وأعمالها في العوالم الماديَّة التي خرجت باختيارها الحرّ وإرادتها عن بدء التجربة من العوالمِ الروحيَّةِ الإلهيَّةِ التي كانت فيها مُندمجةً بالأرواح الإلهيَّةِ المجيدة أصلاً، ثمَّ تكثَّفَت تكثُّفًا نسبيًّا في صُوَرٍ “مادِّيـَّة” اقتضَتها درجاتُها الروحيَّة المُتفاوتة، وبهبوطِها نشأَ الزمانُ والمكان، فالسيَّالات هي نسيجُ الأكوان، معروفِها ومجهولها، بما ومَن فيها، ومن خلال جوهرِها الروحيّ يكونُ نشاطُها وتفاعُلُها فيما بينها، أيَّةً كانت صُوَرُها “المادِّيـَّة”..
ولا تكتمل سعادة الرُّوح الأم إلاَّ بعودة سيَّالاتها الهابطة والمتفرِّقة في أرجاء الأكوان الماديَّة الفردوسيَّة أو الجحيميَّة، بعد التخلُّص من كلِّ دنسٍ ونقص والتحرُّر من قيودها الماديَّة، وارتقائها التدريجيّ في سلّم الإرتقاء الروحيّ، حتى تتجاوز الدرجات الدنيا من العوالم الروحيَّة. وكذلك لا تكتملُ غبطةُ أيِّ سيَّال ولا تتحقَّقُ غايتُه المُثلى إلا بالعودةِ للاندماجِ بروحِه الأُمّ التي انبثق منها في عوالم الأرواح السعيدة قبل أن تنشأَ الأكوانُ ويكونَ مكانٌ وزمان، وهذه هي الغايةُ العُظمى الكامنة في أَعماق كلِّ كائن حتَّى لو لم يُدركها إدراكًا واعيًا. كما أَوجَدَ الله النواميسَ الروحيَّةَ والقوانينَ الطبيعيَّةَ التي ستُهَيمِنُ على المادَّة. وعرف بعلمِه الكامل الشامل للمُستَقبل اختلافَ درجات الهبوط بين السيَّالات في آتي الأَزمنة، والتمايُز الكبير الذي ستكونُ عليه، والحدودَ والقيودَ التي يستحقُّها كلٌّ منها، ذلك لأَنَّ مجالَ فِعل الخير أَو الشرِّ يكادُ يكونُ بلا حدود حتّى على الصَّعيد البشريّ، فكيفَ على أَصعدةٍ أُخرى تقوى فيها نزعاتُ الكائن للشرِّ أَو للخير! وما دامَ كلُّ سيَّالٍ روحيّ يجبُ أَن يلقى الجزاءَ الذي يستحقُّه، وإِن يكنْ مِثقالَ ذرَّةٍ خيرًا أَو شرًّا، فقد كان لا بُدَّ من وجود عوالمَ نعيميَّة و جحيميَّة مُتمايزة تمايُزًا يكادُ يكونُ لا نهائيًّا. فأَوجَدَ بعدالته الإِلهيَّة 150 دَرَجة نعيميَّة و150 دَرَكة جحيميَّة. وهذه الدرجاتُ والدركاتُ الثَّلاثُمِئة تُقابلُ عدَدَ السيَّالات الثَّلاثِمِئة التي تعرَّضَت للسُّقوط في بعض الأرواح القُدسيَّة، بعد خضوعها للتجربة. هذا مع العِلم أنَّ كلّ درجةٍ من درجات العوالِم الروحيَّة المئة والخمسين تضمُّ مليونَي عالَمٍ روحيّ، كلُّ عالَمٍ مُستقلٌّ بذاته.
أمَّا الثلاثمئة سيَّال من كلِّ روحٍ قُدسيَّة والتي جُعلت فيها نزعاتٍ يقوى فيها الانجذابُ إلى الخير والحقِّ والجمال والنور يستحيلُ أن تتدنَّى عن الدرجةِ الأُولى في العوالمِ الروحيَّة، لأنَّها تحيَا بصفتها الإلهيَّة الكاملة حياةَ سعادةٍ أزليَّةٍ أبديَّة؛ لها تجاربها بالتسليم لأوامر الله ونواهيه والانجذابُ إليه كُـلِّـيًّا، والإرتقاء في الدرجات ال 150 من العوالم الروحيَّة الإلهيَّة، فتدخل إذ ذاك عوالم المسيح السماويَّة وتندمج بالآب السماويّ. فلا يـبقى لها، بعد هذا المجدِ العظيم، إلاّ الاندماج بالقُدرة الكلّـيّة الموجِدة. لكنَّ ذلك يستحيلُ تمامُه ما لَم تستَجمع الروحُ القُدسيَّةُ سيَّالاتِها الستّمئة كلَّها وترتفع بها إلى سماءِ السَّماوات.
وﷲ تعالى هو وحدَه القُدرة الكلّـيَّة الموجِدة التي تُبدِعُ من العَدم، أي من اللاشيء، هو وحده مَن أبدعَ الأرواحَ الإلهيَّةَ وسيَّالاتها الروحيَّة، وخَلَقَ أُصولَ العناصر الماديَّة الأَوَّليَّة والتي ستُكوَّنُ منها جميعُ أَشكال المادَّة، المعروفِة والمجهولِة، ومنها سيَّالاتُ الإنسان. فالأَرواحُ مصدرُ كلِّ سيَّالٍ وهي مَعادُه “. وتبعًا للنواميس الإلهيَّة الثابتة لكلٍّ من الدَّرجات أو الدَّركات التي أوجدَها ﷲ، وأبدع أنظمتُها الخاصَّةً بها في مُختلَف العوالم، جُعِلَ لكلِّ سيَّال روحيّ هابط باختياره الحُرّ، جسمٌ روحيّ، سمَّاه مؤسِّسُ الداهشيَّة طَيفًا روحيًّا، يُناسبُ درجةَ استحقاقه، ويُحدِّدُ كيانَه. لكنَّ هذا الطَّيفَ الروحيَّ حالَما يُـبارحُ العوالمَ الروحيَّة، يندمجُ بجسمٍ مادِّيٍّ مُناسبٍ لدرجة هبوطه.
ومن بين الأرواح القُدسيَّة التي أوجدَها ﷲ تعالى في الأزَل كانت روحُ السيِّد المسيح الكُلِّيَّة النقاء، وقد خضعَت بسيَّالاتها الستّمئة للتجارب التي أرادَت مشيئةُ القوَّة الموجِدة أن تخضعَ لها جميعُ السيَّالات الروحيَّة، لكنَّ روحَ المسيح كانت سيَّالاتُها سبَّاقة لمحبَّة الله والتسليم لأوامره ونواهيه وأسرع السيَّالات إلى الانـتصار على التجارب والعودة إلى عوالم الروح، بل إلى الارتـقاء فيها والتصعيد المُستمرّ.
ونتيجةً لهذا التسامي المُطَّرِد نحو غاية الغايات الروحيَّة من أجل الاندماج بالخالِق المُهَيمن، تكوَّنَت من سيَّالات المسيح الروحيَّة التي تجاوزَت عوالمَ الأُلوهة الدنيا سماواتٌ جديدةٌ عُليا، مجموعُ السيَّالات فيها أشبهُ بأعضاء روحيَّة يتكوَّن منها الآبُ السَّماويّ، ويتمتَّع بجميع صفات الأُلوهة باستـثـناء أنَّ القدرة الكلّـيَّة الموجِدة أبدَعَته. ولأنَّه الأقرب إلى الخالق، سُمِّيَ “رأس خَلق ﷲ” و”ابن ﷲ الحبـيب” وهو “كلمةُ ﷲ الروحيَّة الأولى”.
يقول الدكتور غازي براكس:” ومن الحقائق الروحيَّة الخطيرة التي أوضحَها الروحُ العَلِيُّ لي أنَّ ﷲَ تعالى، أي الُقدرة الكلّـيَّة الموجِدة لكلّ شيءٍ من العَدَم، ليس الآب السماويّ الذي تكرَّرَ ذكرُه في الأناجيل. فالآبُ السماويّ هو القُدرة الروحيَّةُ الأسمى التي تضمُّ روحَ المسيح الإله، الروحَ العُظمى، وسيَّالاتها القُدسيَّة التي دخلَت السَّماوات مع مجموعةٍ من السيَّالات القُدسيَّة التي تنتمي إلى أرواحٍ إلهيَّةٍ أُخرى اندمجَت بسيَّالات المسيح؛ وبعبارةٍ أُخرى أنَّ الآبَ السَّماويّ هو المسيحُ الإلهُ في السَّماوات”.
وقد منحَتهُ القوَّة الموجِدة القُدرةَ على التشكيل المادِّيّ، أي على تشكيل السيَّالات الروحيَّة الهابطة في أشكالٍ وصُوَرٍ مادِّيَّة وفقَ استحقاقها، وبإذن ﷲ تعالى؛ كَوَّنَ جميعَ العوالِم المادِّيَّة المتمايزة، المنظورة وغير المنظورة بكلّ ما فيها من أنواع الكائنات ومن العناصر والمظاهر الطبيعيَّة. وهو ما يزالُ يُطوِّرُها وينقلُها من حالٍ إلى حال وَفقَ ما يقضي ناموسُ السَّبَـبِـيَّة الروحيَّة وناموسُ العدالة الإلهيَّة. فالكونُ المادِّيُّ ليس في حالةٍ جامدة، ومظاهرُ الحياة التي فيه كما أَشكالُ المادَّة جميعها في تطوُّرٍ وتحوُّلٍ مُستمرّ، وتبعًا لاستحقاق سيَّالاتها الروحيَّة. فالمجرَّاتُ ونجومُها وكواكبُها -بما فيها الأَرض- مرَّت في عهودٍ وأَدوارٍ كثيرةٍ قبل بلوغها الوضع الحاليّ؛ فالآبُ السَّماويّ هو العقلُ الإلهي المُدَبِّر للعوالِم الروحيَّة وللأكوان المادِّيَّة وكائناتها في مُختلفِ مراتبِها وتنفيذًا لأحكام المشيئة الإلهيَّة فيها، وهو الحاكِم لجميع العوالم. وهو يستعينُ بقوَّاتٍ روحيَّة ملائكيَّة ساميةٌ أوجدَها ﷲ تعالى، وجعلَها مُجنَّدةً في خدمتِه، وخدمةِ الآب السماويّ، من أجلِ تدبـير هذه العوالِم وإجراء العدالة الإلهيَّة فيها. يقول مؤَسِّسُ الداهشيَّة بفَم يسوع المسيح: “ثمَّ إنَّ الآبَ الذي في أعالي السماوات يعرفُ ماذا يجبُ أن يُعطيَهُ لكلّ حيٍّ من أبنائه.”
وعليه تكون الأكوانُ المادِّيَّةُ في صورتها الحاليَّة وفي صُوَرِها السابقة، ليست إرادةُ ﷲ هي التي شاءَتها هكذا، إذْ إنَّ المادَّةَ نقصٌ وفسادٌ ومجلبةٌ للشرّ، وتعالى ﷲ عن أن يُريدَ نقصًا وفسادًا وشرًّا، وهو الكمالُ المُطلَق، وهو المحبَّة اللامُتناهية. لكنَّه يُهيمنُ هيمنةً كُلِّيَّةً على العوالِم الروحيَّة مثلما على العوالِم المادِّية بما أوجدَه من نواميسَ إلهيَّةٍ ثابتةٍ تضبطُ الكلَّ ضبطًا عادلاً. وهو الذي يمدُّ الأَكوان والكائنات روحيَّةً ومادِّيَّة بقواها وعناصرها التكوينيَّة الأُولى المتنوِّعة وفقًا لاستحقاقها، وهو الذي يُراقبُها ويُحاسبُها ويُثيـبُها ويُعاقبُها، ولا تخفى عليه خافيةٌ مهما دقَّت.
أَمَّا الحياةُ الروحيَّةُ الصِّرف والعوالمُ الروحيَّة المحض المُنزَّهة عن كلِّ أَثرٍ مادِّيّ فلا وجودَ لها إِلاَّ في السماوات حيثُ مَلأُ الأَرواح الإِلهيَّة القُدسيَّة الراتعة في عوالمِ الحقيقة والسعادة الأبديَّة، فقد جعلَ الخالقُ فيها المُثُلَ الروحيَّة العُليا، أي صُوَرَ الحقيقة الإلهيَّة الحَيَّة الكاملة التي تحنُّ إليها السيَّالاتُ الهابطة المُنبثَّة في جميع أرجاء الكون بدرجاته الفردوسيَّة المئة والخمسين ودركاته الجحيميَّة المئة والخمسين. كذلك جعلَ ﷲ السيَّالات الهابطة قابلةً للتجسُّد في أشكالٍ مُلائمةٍ للدرجة أو الدَّركة التي استحقَّتها باختيارها الحُرّ، فكانت أشبهَ بظلالٍ لمُثُلها الروحيَّة. وهكذا كلُّ سيَّالٍ أو بعضُ سيَّال في عوالِم المادَّة كان لهُ مثالٌ روحيّ أعلى هو حقيقتُه في العوالِم الروحيَّة. وهذه المُثُل الروحيَّة هي قوًى روحيَّة تتمتَّعُ بما تتمتَّعُ به الروحُ أمُّها من كمال، وهي دائمةُ الاتِّصال بها كما هي دائمةُ الاتِّصال بالسيِّالات الهابطة التي هي أشبهُ بظلالها. وتسهيلاً لتصوُّر هذه الحقيقة، فلنـتصوَّر الروحَ القُدسيَّة لا كائنًا أشبهَ بالإنسان الفَرد، ولا شمسًا واحدةً عظيمة، لكنْ كائنًا أشبه بمجرَّةٍ فائـقة فيها نجومٌ وكواكبُ تدورُ حول قوَّة عُظمى تُشكِّلُ محورَها، وفيها جميعُ مظاهر الطبيعة التي نعرفُها، لكنَّها ليست مادِّيَّةً ناقصةً مُعرَّضةً للفساد بل روحيّةٌ كاملةٌ خالدة.
إذًا عالَمُ المُثُل هو عالَمُ الأرواح نفسُه. أمَّا عوالِمُ الظِّلال فهي “سيَّالاتٌ” ذات إدراكٍ ونزعاتٍ وإرادة، ساقطةٌ من أرواحٍ إلهيَّة، وبعبارةٍ أُخرى هي آلهةٌ ساقطة، وتضمُّ الكونَ المادِّيَّ كلَّه بجميع كائناته ومظاهره الطبـيعيَّة، وتشملُ جميعَ السيَّالات الروحيَّة الهابطة المُتجسِّدة، فالشموسُ والأقمارُ وسائرُ الكواكب السيَّارة والأجرام الفَلَكيَّة في مُختَلَف المجرَّات لها جميعُها مُثُلها الروحيَّة العُليا. كذلك البشرُ والحيواناتُ والجماداتُ الأرضيَّة وكلُّ ما هو طبيعيّ غير مصنوع، وسائرُ الكائنات المُتجسِّدة المعروفة والمجهولة، العُلويَّة أو السُّفليَّة، كلٌّ منها له مثالُه الروحيُّ الأعلى الذي يرتقي أو ينخفض في درجات العوالِم الروحيَّة بالنسبة لأعمال سيَّاله ولنَزعاته في العوالِم المادِّيَّة. من أجل ذلك يقولُ النبيُّ الحبيب: “نحنُ في حياتنا الدُّنيويَّة ظِلالٌ في ظِلال؛ كذلك يقول: “أنا ظلٌّ سُرعانَ ما يطوفُ في وادي الحياة ويتلاشى.”
وفي التعاليم الداهشيَّة أنَّ عمليَّةَ التكوين هذه لَم تحدث صُدفةً ولا اضطرارًا من جرَّاء ظروفٍ بيئيَّة، ولا هي نتيجة تطوُّر مادِّيّ عَبْرَ ملايين السنين، بل في أساسها طاقةٌ روحيَّةٌ مُبدِعة هي السيَّالات الروحيَّة. هذه السيَّالاتُ، بما فيها من رئيسيَّة وطارئة ووراثيَّة، هي التي تبعثُ الحياةَ وتحملُ القِوى الإدراكيَّة والاستعدادات والنزعات والرغبات والمواهب التي تُصاغُ منها شخصيَّةُ كلِّ كائن بما فيها الإنسان. كذلك تُؤَكِّدُ أنَّ سيَّالات الإنسان لا تفنى، كشأنِ السيَّالات في الكون كلِّه، لأنَّ جوهرَها روحيّ وذو اتِّصال بالعالَمِ الروحيِّ الخالد حيثُ أُمَّهاتُها الأرواحُ السرمديَّة.
ومن المُستحيل أن يلِجَ إنسانٌ ما أو أيُّ كائنٍ آخر، مهما عظُمَ وسَما، عوالمَ الأرواح الإلهيَّة، ما لم يكُن قد أنهى دورَ تجاربه، وانتصَرَ على مُغرِيات العوالِم المادِّيَّة مهما كانت طفيفة، وأصبحَ من الأبرار الأطهار، أي تـنـزَّهَ عن كلّ أثرٍ للمادَّة فخرجَ من مُحيطها خُروجًا كُلِّيًّا، وبلغَ الكمال. فإذْ ذاك فـقط يدخلُ المُحيطَ الإلهيّ، ويندمجُ “سيَّالُه” الروحيُّ الطليق، بعد انـتصاره على التجاربِ كلّها، بالروحِ أُمِّه، أي يندمجُ ثانيةً بالكيان الإلهيِّ الذي خرجَ منه.
بعد تجربة الحريَّة والإختيار، وهبوط الكثير الكثير من السيَّالات الروحيَّة ذات النزعة الضعيفة، وابتعادها عن محيط العوالم الروحيَّة السعيدة وأنوار المعرفة الإلهيَّة الكاملة، وتكوين بلايين العوالم الماديَّة. نشأَ الزمانُ والمكان، ثمَّ تكثَّفَت تكثُّفًا نسبيًّا في صُوَرٍ “مادِّيـَّة” اقتضَتها درجاتُها الروحيَّة المُتفاوتة، موزَّعين على الدرجات ال 150 السعيدة، وخصَّ العليّ كلٌّ منهم في درجةٍ اختارها لها، وكان الجميع لديه سواسية، فالحقائق مُتكشِّفة لديهم، وأسرار الأزل كتابٌ مفتوح أمامهم، والحبُّ والحنان يملئون جوانحهم، وأنوارٌ دائمة السطوع تغمرهم، فيشعرون بأنامل العليّ تُجدِّد لهم بهجاتهم، وكانت الأحقاب والأدهار تمرُّ على هذه الأرتال السماويَّة وكأنَّها لحظاتٌ خاطفة لعظم سعادتهم ونشوتهم الروحيَّة الأزليَّة، فجميعهم إخوةٌ كاملون.
ثمَّ أصدر أمره الإلهيّ موصياً الجميع ألاَّ يحاول أي منهم فيتجاوز الدرجة المئة والخمسين ليعلم ما هو فوقها قبل أن يكمل المدَّة المُحدَّدة من الزمن المُعطى له، ومن يخترق هذا النطاق فالويلُ ثمَّ الويل لما سيحلُّ به.
اقترح المُنشد الأول من الدرجة ال 150 الذي كان يطمح هو أن يكون الرئيس المُطاع من الجميع، وكان يتمنَّى أن يأخذ مكان رئيس الملائكة، فاقترح عليهم أن يحاولوا اجتياز نطاق العالم الماديّ ال 150 ليشاهدوا عظمة الخالق، ويشاهدوا الأسرار الإلهيَّة الفائقة حدود التطوُّر الروحيّ، والولوج الى موطنها، ومعرفة ما وراءها، وجوس الربوع المجهولة، وتنسُّم العبير الإلهي الدائم الأريج بمُسابقة الزمن والذهاب الى ذلك المكان العظيم.
سرت رعشاتٌ في أرواح المُجتمعين من هولِ هذه الرغبة الرهيبة… وبعد إمعانٍ وتفكيرٍ عميقين تكلَّمَ الكاروبيم الأول:” انَّها لفكرة هائلةٌ مروِّعة، ولكنَّ الشوق العميق لمعرفة ما وراء درجتنا النهائيَّة السامية يدفعني لأن أؤيِّد فكرتك”. وافق على هذه الرغبة عشرة آخرون، وصاح الآفٌ من المُنشدين قائلين:” يا ما أبدع وأروع هذه الفكرة الجميلة، سنذهبُ الى أعلى عليِّين ونجوس الربوع المجهولة.
وانطلقت الكتائب نحو الأعالي تريد اجتياز ما هو ممنوعٌ عليها… وعصفَ الفضاء، وارتجَّت الآفاق، ومادت مُحيطات اللانهاية، وأظلمت الجنَّات الطروبة، وانطفأت المعلومات الإلهيَّة الخالدة، وتسرَّب الخوف الى ذلك المعقل الحصين الأمين، وسُمِعَ صوتٌ خافتٌ آتياً من وراء العدم والمجهول وهو يقول:” أهبطوا، أهبطوا، وغادروا جنَّة الجنَّات، وامكثوا هناك في الأعماق السحيقة… ومن ذلك المكان تغلَّبوا على رغباتكم واكبتوها.
فاتَّحدت أرواح الملائكة والكاروبيم والمنشدين والقدِّيسين من كل مُتآمر في الدرجات ال 150 في روحٍ واحدة، وأمرها الله عزَّ وجلّ، فهبطت هذه الروح المؤلَّفة من مجموعة هائلة من الأرواح الى الدرجة الأولى، ولم يستغرق هبوطها سوى لحظات، وحال وصولها الى الأرض الماديَّة امتزجت برغام الأرض الملوَّثة، وامتزجت بعناصرها الترابيَّة مُسفرةٍ عن هيكلٍ غريبَ التكوين، دبَّت فيه حياةٌ أرضيَّة لا تمتَّ بأيَّةِ صلةٍ بحياته الروحيَّة الهانئة، سُميَ آدم.
لم يتدخَّل ﷲ في تكوين آدَم مُباشرةً ولا في تكوين أيِّ جزءٍ من أجزاء الكَون المادِّيِّ أو أيِّ مظهرٍ من مظاهر الطبيعة، بل إنَّ أمرَ التكوين المادِّيِّ وتشكيل الكائنات في صُوَرٍ مادِّيَّةٍ مُختلفةٍ يعودُ إلى الآب السماويّ، ويتمُّ وفقَ النواميس الإلهيَّة التي أوجدَها ﷲ، وتبعًا لنظام العدالة الروحيَّة.
بعدَ تكوين آدَم من جرَّاء سُقوط رهطٍ من السيَّالات الملائكيَّة في تجربة الحرِّيـَّـة والمعرفة، أصبحَ مُتعذِّرًا على تلك السيَّالات الروحيَّة الهابطة، السَّجينة في شكلٍ مادّيٍّ بشَريّ، أن تتغلَّبَ على تجارب الأرضِ الكثيرة ومُغرياتِها القويَّة بمُجَرَّد وَعيِها وجُهدِها الذاتيَّـين، من أجلِ أن تستعيدَ درجاتها الروحيَّة التي فقدَتها. فقد حُجِبَت بصائرَ تلكَ السيَّالاتِ الروحيَّة التي اتَّخَذَت شكلَ آدَم، وخيَّمت عليها غشاوةُ الضَّلال، وبهَتَ فيها نورُ الحقِّ الساطع والمعرفةِ اليقينيَّة الذي كان يُنيرُها إذْ كانت راتعةً في فراديس النَّعيم، وضحُلَ فيها نُسغُ الحياة الأبديَّة، واحتجبَ عنها وجهُ السعادة الحقيقيَّة.
لذلك كان لا بُدَّ من كائنٍ روحيٍّ قادرٍ سامٍ نقيٍّ يتطوَّعُ لإنقاذها وهِدايتِها وإنارتِها وإخصابِ الحياة الروحيَّة فيها، لتُصبحَ مُستحقَّةً وجديرةً بالعودةِ إلى العوالم الفردوسيَّة. وكان لا بُدَّ لذلك الكائن السَّامي الذي سيضطلعُ بمُهمَّة الخلاص من أن يكونَ أثيرًا لدى ﷲ عزَّ وجلّ.
فإذا الآبُ السماويُّ العَطوفُ الرحيمُ، وهو العقلُ الإلهيُّ المُدبِّرُ للأكوان، يعرضُ هذه المهمَّةَ على كثيرٍ من السيَّالات الروحيَّة السامية الكائنة في الدائرة النورانيَّة العُظمى التي تُتوِّجُ عوالمُها عوالمَ الفراديس كلّها، وجميعُها سيَّالاتٌ نبَويَّـةٌ تـنـتمي إلى الروح الإلهيَّةِ العُظمى، ويكشفُ لها الآبُ بعِلمِه اللانهائيِّ عمَّا سيُلاقي السيَّالُ الروحيُّ الراغبُ في افتداءِ آدَم وإنقاذِه من متاعبَ ومصائبَ، وعمّا سيُقاسيه من شقاءٍ وأهوالٍ نتيجةَ هُبوطِه واندماجِه بآدَم؛ فتُحجِمُ جميعُ السيَّالاتِ العُلويَّة عن التطوُّع للقيامِ بمُهمَّة الفِداء والخلاص المعروضة عليها تهيُّـبًا من المصير الأليم والشَّقاءِ العظيم، بعدَ رُتوعِها في جنَّاتِ النَّعيم.
لكنَّ السيَّالَ الروحيَّ العشرين رضِيَ وحدَه بتحمُّلِ العذاب والآلام من أجلِ افتِداءِ سيَّالاتِ آدَم الهابطة وإنقاذِها. وإنَّما أقدمَ على هذا العملِ العظيمِ السامي مُختارًا مدفوعًا بحبِّه اللامُتناهي للخلائق وبرغبتِه الشَّديدة في تعجيلِ ارتقائِه الروحيِّ للاندماجِ بأُمِّه، الروح العُظمى، ثمَّ بالعزَّةِ الإلهيَّة. وليس من دافعٍ أو عملٍ يسمو بأيِّ كائنٍ كالحُبِّ النقيِّ الصادق.
وأذِنَ ﷲ تعالى للسيَّالِ الروحيِّ العشرين بالهُبوطِ والاندماجِ بآدَم. وبهُبوطِه واتِّحادِه بجسمٍ بشريّ، أصبحَ خاضعًا للقوانين الطبيعيَّة التي تحكمُ الأرضَ وما ومَن عليها، ومُعرَّضًا لجميع التَّجاربِ البشريَّة، ومسؤولاً عن أعمالِه وأفكارِه ورغَباتِه بصِفَتِه جزءًا روحيًّا من آدَم.
وهو أسمى سيَّال من سيَّالات المسيح الإله التي أُرسِلَت إلى الأرض وحلَّت في مختلِف الأنبـياء والهُداة؛ وقد سُمِّيَ هكذا لأنَّ مثالَهُ الروحيَّ مركزُه في الدرجة الروحيَّة العشرين من السَّماءُ العشرين. كما أنَّ سائرُ سيَّالات المسيح الإلَه التي هبطَت إلى الأرض مُوزَّعةٌ مراكزُها الروحيَّة في درجاتٍ مُختلفةٍ من العوالم الروحيَّة الدُّنيا، وبـينها سيَّالٌ لموسى النبيّ مركزُه في الدرجة السابعة.
وبما أنَّ الآبَ السماويَّ هو كلمة ﷲ الروحيَّة الأولى، وهو حاكِمُ مُختلِف العوالِم، فإنَّ سيَّالات المسيح المُنتمية إليه والمُرسَلة إلى الأرض أصبحَت أيضًا “كلمة ﷲ” المُرسَلة لهداية البشر، ومُنِحت سلطةَ الحُكم على الناس؛ لكنَّ حُكمَها لا يكونُ بمشيئتها المُستـقلَّة، بل بمشيئة الآب السَّماويّ الذي أرسَلَها.
وكانت تجربةُ الحرِّيـَّة والمعرفة لآدم مرَّةً ثانية، فكسر الوصيَّة وسقطَ في الامتحان. وسُمعَ صوتٌ من السماء قائلاً:” لهذا اسمعوا أمري النهائي، يا مخلوقي السماويّ الأرضيّ، لقد سقطت للمرّة الثانية، إذ ما استطعت الثَّبات ولم تتقيَّد بالواجب المفروض عليك، لهذا فاعلم أنَّني قد أمرتُ الأرض أن تُنبتُكَ أشواكها وعواسجها القاسية، وقد حدَّدتُ لك عمراً أرضيَّاً لا تستطيع أن تتجاوزه، وشاءت إرادتي أن تنال طعامك بتعبٍ وإرهاق، وأن تكدح طِوال أيَّام حياتك كي تنال بعض ما أنت بحاجة اليه… وأنت أيَّتها المرأة الأولى قضيتُ عليك أن تشقي وتتألَّمي وأن تكوني تابعة وليس متبوعة”.
وشاءت الرحمة الإلهيَّة أن تنظر بعطفٍ الى جميع من هبطوا الى الأرض واندمجوا بالرجل الأول والمرأة الأولى، لهذا أذِنت بالتناسل كي تستطيع هذه الفئات ممَّن حاولوا الولوج الى المواطن الممنوعة أن تنفصل عن آدم وحوّاء، وبأعمالها واتِّجاهاتها نحو المُثل العليا تستطيع أن ترتقي السماوات التي طُرِدت منها. كلٌّ منهم بمفرده وباجتهاده.
وهكذا، تؤمن الداهشية بأن سيالات البشر متحدِّرة من الانسان الأول الذي سمي آدم. وآدم، قبل أن تجسده المشيئة الالهيَّة في الأرض، كان مجموعة كبيرة من السيالات الملائكية الكائنة في مختلف درجات النعيم. وبعد عصيان للأوامر الالهية اشتركت فيه هذه السيَّالات، حكم عليها بالهبوط الى الأرض مجتمعة في كيانٍ بشريٍّ هو آدم. ومن سيالات آدم كانت حواء، ومن الاثنين تناسلت البشرية الجديدة ……
ومن أجل دفع الحضارة الانسانية الى الأمام، سمحت المشيئة الالهية لسيَّالات الأنبياء والهداة والحكماء والمصلحين الحقيقيين أن تعمل عملها الخيِّر في الأرض، ولكنها سمحت أيضا لكائنات تنتمي الى عوالم أخرى أكثر رقيا أن تزور الأرض من حين الى آخر، وتسهم في تلقيح البشر بسيالات تساعد على رقيهم الحضاري عن طريق الاقتران ببعض بناتهم.
شارَكَ السيَّالُ الروحيُّ العشرون آدم في سُقوطِه وفي تحمُّل مسؤوليَّة ذلك السقوط، ومُعاناة عواقبه الوخيمة طوال آلاف السنين، حتّى كان تجسُّدُه في شخص يسوع الناصريّ، فعُرِفَ إذْ ذاكَ بالمسيح. فاضطُهِدَ وعُذِّبَ وصُلِبَ. يقول مؤسِّسُ الداهشيَّة إنَّ صَلبَه “وصَمَ سُكَّانَ الكُرةِ الأرضيَّة بوصمةِ عارٍ أبديَّة، وسبَّبَ لهم جزاءً صارمًا رهيـبًا، إذْ إنَّهم ارتَكبوا جُرمًا تاريخيًّا هائلاً بحَقِّ رجلٍ كان يدعو الجميعَ للفضيلة، فكافأُوهُ بصَلبِه، لكِرازتِه بالتسامُح وحُبِّ الأعداء ومُبارَكة اللاعنين والعطفِ على البؤساء، ولمُناداتِه بمؤازرة الضَّعيف على القويّ، والتّـنديد بالظُّـلّام، ومُهاجمة الطُّغاة من الحُكَّام، وفَضْحِ أعمالِ رجال الدين الشائنة مِمَّن يُتاجرون بالدين ويجعلونَه وسيلةً وليس غاية…”
لكنَّ عمليَّةَ الصَّلب كانت حلقةً لا بُدَّ منها في سلسلةِ الآلام التي رضِيَ بها السيِّدُ المسيحُ مُختارًا لافتداءِ آدم وإنقاذِ سيَّالاته المُنبثَّة في ذراريِّه. ولِذا “فالمسؤوليَّةُ طالَت السيِّدَ المسيحَ نفسه، بعدما كسرَ الوصيَّةَ عندما كان آدم.”
والبشرُ إذا لم يُزَوَّدوا بحقائقَ روحيَّة يُنـزِلُها وحيٌ إلهيّ، فمجالُ رؤيتهم لهُويَّة أيِّ إنسانٍ سيـبقى محدودًا بالأُطُر البـيولوجيَّة والاجتماعيَّة. لكنَّ وجودَ الوَحْيِ الروحيّ يجعلُ رؤيتَـنا لهُويّة يسوع الناصريّ ذاتَ أبعادٍ غيرِ بشريّة. فبالوَحيِ نعلمُ أنّ فيه السيّالَ الروحيَّ العشرين، أسمى سيّالٍ روحيّ تجسَّدَ في الأرض خاضعًا لقوانينها الطبـيعيّة، وهو الذي جعلَ من يسوع الناصريّ المسيحَ الفادي؛ كذلك نعلمُ أنّه بهذا السيّالِ الروحيّ مثلما بسيّالاته الأُخرى ينـتمي إلى تلك القوِّة الروحيّة السماويّة العُليا التي هي في سماءِ السماوات، أعني الروحَ العُظمى. كما أناطَ الآبُ السماويّ بسيّالاتِ المسيح، بصِفَتِه ابنَ البشر مُهمَّة تأديب البشر ومُجازاتهم ثمَّ دينونتهم. فكانت سيَّالاتُه الروحيَّةُ العُلويَّةُ هي وراءَ مُجازاة الشعوب، في سِياق العُصور، كلَّما دقَّت ساعةُ حسابهم.
يقولُ ابنُ السَّماء على لسان السيِّد المسيح في “حُلم مهيبٍ رهيب”:
“وعندما كنتُ أُعرَفُ باسم يسوع المسيح، ضعفتُ بعدما أُلهِمتُ أنَّني سأُصلَب… إذْ رفَعتُ صلاتي لخالقي وموجِدي قائلاً له: “يا أَبَتِ، أبعِدْ عنّي هذه الكأس العَلقميَّة.”
“ومع أنني كنتُ على يقينٍ من وجوب صَلبي، ليظهرَ رياءُ البشريَّة على وجهِه الأتمِّ والأكمل، وليتأكَّدَ للجميع أنَّه لا توجدُ قوَّةٌ تستطيعُ ردعَهم عن طريق الشرِّ الهائل، وبما أنَّني كنتُ واثـقًا بأنَّ صَلبي سيكونُ عِظةً للأجيال الزاحفة، فـقد جبنْتُ وتمرَّدْتُ على إرادةِ خالقي إذْ طلَبتُ منهُ رَفعَ هذه الكأس المريرة عنّي، أي (أن لا أُصلَب). فكانت نـتيـجةُ هذا الطَّـلَب الذي أظهَرتُ فيه ضعفًا بالغًا أنَّ السيَّالَ الذي رفَعَه —وهو السيَّالُ الــ20— توجَّبَ عليه أن يمكثَ في الأرض، بعد الصَّلب، 20 جيلاً تقريـبًا، ثمَّ يتجسَّد ليعودَ إلى حَمْل صليـبه، ثانيةً، مثلما حملتُه في أيّامِ وجودي بالقُدس، منذُ 20 جيلاً؛ أي إذْ ذاكَ سأُضطَهَد، وسيخافُني الناسُ قاطبة، وسيذُمُّني الجميع، ويختلقون عليَّ المُفتَريات الدنيئة، ويُلفِّقون الأكاذيبَ الشائنة، وهم الذين يغوصونَ فيها من أخامصِهم حتّى قمَّة رؤوسهم المُمتلئة بالإثم الفاضح.
فيسوع المسيح إذًا، كالنبيِّ الحبيب ليس الله، فـﷲ واحدٌ أحَد، لا شريكَ له، وعقيدةُ وحدانيَّةِ ﷲ هي العقيدةُ الصَّحيحةُ التي يجبُ أن تـنـتـشرَ في المسيحيَّة، مثلما في سائر الأديان. عاشَ في الأرضِ بطبيعةٍ بشريَّةٍ كاملة. لكنَّهُ بسبب انتماءِ سيَّالاتِه الروحيَّة إلى الآب السماويّ أمكنَهُ أن يقول: “أنا والآب واحد” (يوحنَّا: 10)، أو: “مَن رآني فقد رأى الآب… آمِنوا أنّي أنا في الآب وأنَّ الآبَ فيّ… فلو كنتُم تُحبّونني لَـكُنـتُم تفرَحونَ بأنّي ماضٍ إلى الآب لأنَّ الآبَ هو أعظمُ منّي” (يوحنَّا 14: 9 و11 و28). ولذلك فكلُّ حديثٍ عن طبيعةٍ إلهيَّةٍ له، مُنفصلة أو مُتَّحدة بالطبيعة البشريَّة هو حديثُ ضلالة. وزعم رجال الدين أنَّ هو الله تعالى، فما هو إلاَّ الكفر التَّام، وهل يُعقَلُ أن أضعُفَ فأضرعَ إلى خالقي أن يرفعَ عنّي (كأسَ الصَّلبِ والمَهانة) لو لم أكُنْ مخلوقًا كغيري? وهل يُعقَلُ أن يـبصُقَ أبناءُ البشر المُذنبـين والمُلَوَّثين بطاعون الجرائم على ﷲ جلَّ جلالُه ويهزأُون به!
لكنْ مع ذلك فيسوعُ المسيح هو —كداهش النبيِّ الحبيب الهادي— كلمةُ الله، وابنُ ﷲ الحبيب، وهو إلهٌ عظيم، لكنْ بسيَّالاتِه الروحيَّة السماويَّة وروحِه العُظمى السرمديَّة، لا بسيّالاتِه المُتجسِّدة في بَشَر.
وسيّالي الذي ضعفَ وطلَبَ أن لا يُصلَب هو السيّال الـ20 أَي ذو الدرجة الروحيَّة الـ20. لهذا تجسَّدتُ في القرن العشرين؛ وعُرِفتُ باسم (داهش)، تِبْعًا لما جاءَ في الإنجيل: “فيكونُ لي شهادة” — فإذا عكَستَها تؤَلِّفُ اسمَ (داهش).
“ويومذاكَ، سأُمنَحُ روحيًّا قوَّةً عُلويَّةً أجترحُ بها العجائبَ والمُعجزات والخوارق بصورةٍ تُلائمُ العصرَ المادّيّ، فهي خوارقُ مادِّية ومُعجزاتٌ تُذهلُ العقولَ بصورةٍ مادِّية لا تقبَلُ الشّبهة. ويومذاك ستظهرُ شخصيَّاتي الستّ الموجودة في درجاتٍ روحيَّةٍ ستّ كلٌّ منها تعلو الأُخرى حتّى السادسة.
وبالوَحيِ الروحيّ نفسِه نعرفُ هُويّةَ داهش الروحيّة. فهو المسيحُ العائدُ وقد انـتـقلَ إليه السيّالُ الروحيُّ العشرون، واجتمعَت في شخصه سيّالاتٌ عُلويّةٌ من الأنبـياء موسى وداوود وسُلَيمان ومحمَّد. فكان تجسُّدُه أَعظمَ تجسُّدٍ روحيّ عرفَتهُ الأرضُ مُذْ كُـوِّنَت. ولِذا فقد صُنِعَ بواسطتِه من المعجزات، بقوَّةِ الأرواح القُدسيَّة والملاك الرقيب، ما لم يُصنَعْ بواسطة أيِّ نبيٍّ على الإطلاق.
ويومَ أعلَنَت المشيئةُ الإلهيَّةُ بَدْءَ العهدِ الروحيِّ الجديد في العالَم، أي العَهد الداهشيّ، في أوَّلِ “جلسةٍ روحيَّة” عقدَها النبيُّ الحبـيبُ في بـيروت – لبنان، بتاريخ 23/3/1942، وذلكَ بحضور المؤمن الأوَّل، الأديب يوسف الحاجّ، كان عمرُ داهش ثلاثةً وثلاثين عامًا، أي في السنِّ نفسِها التي احتجبَ فيها يسوعُ الناصريّ عن الناس، بعدَ أن صُلِبَت إحدى شخصيَّاته بدلاً عنه، ثم بُعِثَت من الموت. وقد عاشَ يسوعُ، بعدئذٍ، أكثرَ من عشرين سنة مُتخفِّيًا إلى أن توفّاهُ ﷲ. وإنَّما بدأَ النبيُّ الحبيبُ رسالتَه الروحيَّة الجديدة في التاريخ المذكور ليُتِمَّ ما انقطَعَ منها قبل ألفَي سنة. فسيَّالُ النبيِّ الحبـيب العشرون، بعد اندماجِه بآدَم، لم يتجسَّدْ إلّا في يسوع الناصريّ ثمَّ في داهش النبي الحبـيبُ الهادي. فكان التجسُّدَ الحادي والثلاثين للمسيح في الأرض منذُ تكوينها.
وما كان لهما أن يعقُدا جلساتٍ روحيّةً لولا تجسُّد السيَّال الروحيِّ العشرين في كِلَيهما، وهو سيَّالُ المسيح نفسُه أَسمى سيَّال تجسُّدٍ في إِنسانٍ عاشَ على الأَرض. مُصعِّدًا بين المجرّات حتّى يـبلغَ “دائرةَ النّور الصُّغرى”، فيُعلن عن وُصولِه إِليها ويصِفُ عوالمَها وَصفًا رائعًا موجزًا، وما يلبثُ، في الغالب، أَن تـنفتحَ عيناهُ وقد احتلَّهُ سيَّالُ الملاك الرقيب، الأَخ عليّ. والهدف منها اتِّصالُ السيَّالِ العشرين بالأَرواح الإِلهيَّةِ القُدسيَّة إِثباتًا لوجود العوالم الروحيَّة وإِفادةً لحاضِري الجلسات. وبـينما يكونُ سيَّالُ النبيِّ العشرون في قلب “دائرة النُّور الصُّغرى”، يصنعُ الملاكُ الرقيبُ المُتجلِّي في عَينَيه وقَسَماتِ وجهِه مُعجزاتٍ مُذهلةٍ محسوسةً مُتـنوِّعة؛ منها استحضارُ أَشياء للشّاهد قد تكونُ مفقودة، أَو قد تكونُ في منـزله الكائن في المدينةِ نفسِها أَو في بلادٍ أُخرى بعيدة، فتَحضَر بسُرعة الفِكر أَمامهُ أَو في قبضةِ يده؛ ومنها تحويلُ شيءٍ من طبيعةٍ إِلى أُخرى، كتَحويل الورق العاديّ فورًا إِلى عملةٍ نقديَّة، أَو تكوين صحيفةٍ كاملة قبلَ صُدورها بعدَّة أَيّام، مثلما حدثَ لفيليپ حَدشيتي، أَو غير ذلك من أَنواع المُعجزات المادِّيَّة التي لا يرقى الشكُّ إِليها على الإِطلاق. وهذه المعجزات براهينُ مادِّيـِّـة ساطعة على وجود قوَّةٍ روحيَّةٍ غيرِ بشريَّة تحتلُّ النبيَّ الحبيب. ويبقى النبيّ الحبيب في تصعيده الى أطراف الكون الماديّ، ويعلن اندماجه بالكرة النورانيَّة، فيخترقُ “دائرة النُّور الإِلهيِّ المُتأَجِّج”، وما يلبثُ أَن يلِجَ العالَمَ الروحيَّ الأَوَّل. إِذْ ذاكَ يحدثُ التَّماسّ بين سيَّال النبيِّ العشرين وروحٍ إِلهيّ قُدُّوس في السماءِ الأُولى، غالبًا ما يكونُ روحَ الأَب ناحوم، أَحَد أَنبـياء العهد القديم؛ لكنْ قد يكونُ الروحُ القدّوسُ لغيره من الهُداة كنوح أَو بطرس الرَّسول، أَو الفلاسفة كأَفلاطون، أَو الأُدباء كجبران خليل جبران… هذه الكائناتُ العُلويَّة، سواءٌ كانت ملائكةً أَم سيَّالاتً روحيَّة مُمَجَّدة، أَم أَرواحًا قُدسيَّةً إِلهيَّةً هي التي تصنعُ المعجزاتِ المُذهلة، وهي تشهدُ لوجود اللّه عَزَّ وجَلّ ولهيمنتِه الكُلِّيَّة على الكائنات، وهي التي تمدُّ النبيَّ الحبـيب بالمعرفة الروحيَّة التي يعجزُ عن الوصول إِليها علماءُ هذه الأَرض وفلاسفتُها مُجتمعين. وكان سيَّالُ النبيِّ الحبيب العشرون لا يتعدَّى، في الغالب، السماءَ الأُولى في تصعيدِه. لكنَّه كان يخترقُ، أَحيانًا، السماواتِ الأُولى.
كذلك تؤمن الداهشيَّة، أَنَّ مُختَلِفَ العوالم المادِّيَّة مُقسَّمة إِلى عدَّةِ دوائر كونيَّة، أَعظمُها” الدائرة النورانيَّة العُظمى “التي تشملُ الدرجاتِ العُليا من الفراديس. وهذه الدائرةُ المجيدةُ مركزُها الدرجة العشرون في العوالم الروحيَّة. وإِلى هذه الدائرة ينتمي عالَمُ السيَّال العشرين وعوالمُ شخصيَّات الهادي الحبيب الستّ. ودون الدائرة النورانيَّة العُظمى دوائرُ نورانيَّة مُتتالية آخرُها باتِّجاهنا” دائرةُ النور الصُّغرى “التي مركزُها الروحيُّ في الدرجة 15 من العوالم الروحيَّة. لكن بيننا وبين هذه الدائرة دوائرُ أُخرى تضمُّ كثيرًا من العوالم.
أَمَّا سرعةُ السيّال العشرين في تصعيدِه فتبدأ بأكثر من ثلاثة آلاف بليون ضعف سرعة النّور (البالغة 300,000 كلم في الثّانية)، ثمَّ تـتضاعفُ مرارًا بـين عوالِم “دائرة النُّور الصُّغرى” وعوالِم “دائرة النُّور العُظمى”، ثمَّ تزدادُ أَكثر فأَكثر كلَّما اقـترَبَت من عوالم الأَرواح الفردوسيَّة.
وليس السيّالُ الروحيُّ العشرون هو السيّال الوحيد الذي كان وما يزال يضطلعُ بمُهمَّةِ الهداية ونَشر المحبَّة والفضيلة والقِيَم الإنسانيَّة السّامية بين الناس؛ فكثيرةٌ هي سيّالاتُ النبيِّ الحبيب الأُخرى التي كانت تحلُّ في الأنبـياء والمُرسَلين والهُداة والمُصلِحين الروحيّـين ثم انبثَّتْ في ذراريّهم أو انـتـقلَت إلى أُناسٍ آخرين وَفقَ الاستحقاق، في سِياق آلاف السنين، ومُعايِنةً آلامَ الغُربة الروحيَّة المُمِضَّة، وأذى الناس وشرورَهم، من أجلِ تلقيح السيَّالات الساقطة بالقِيَم الروحيَّة المُثلى وبمبادئ الحقِّ والخير والجمال، مبادئِ النور والخلاص، بُغيةَ ترقيـتِها واجتذابها إلى عوالم الفراديس ثمَّ العوالم الروحيَّة. وبين هؤلاء كثيرونَ من كبار الأُدباء والفلاسفة والفنّانين والمُصلحين، بَدءًا بسُقراط وانتهاءً بجبران خليل جبران، صاحب كتاب “النبيّ” الذي كان فيه ثلاثةٌ من سيَّالات مؤَسِّس الداهشيَّة وفقًا لِما عُرف روحيًّا.
لكنَّ سيّالات النبيِّ الحبـيب لم تكن جميعها مُتـقمِّصةً أنبياءً أو هُداةً أو أُناسًا مشهورينَ في التاريخ. فمِن تقمُّصاته التي أُلهِمَ كتابتها بقالَبٍ قصَصيّ أميرٌ عاشَ في القرن الخامس للميلاد ؛ وصيَّادٌ قَتلَ خطأً فتاةً في فِنلَندا؛ وحرمخيس، الكاهنُ المصريّ الذي أصبحَ رئيسَ الكَهَنة في معبد أُوزيريس في طيـبة؛ وشابّ في مصر القديمة اسمُه لَيثُ الغاب، تَـنافَسَت شقيقتان على حُبِّه؛ ورَعمون، زوجُ الأميرة المصريَّة سَخْتِحْتي؛ والأميرُ المصريّ رَمسيس الذي أُحرِقَ حيًّا مع حبـيـبتِه نِحْتيتا التي كانت ناذرةً العفَّةَ في هيكل أُوزيريس، وفيتون حبيب أُوفاليا، وقد قُتِلَ مع حبـيـبته بـيَد شقيقها؛ وپول حبيب ڤِرجيني إلخ… بذلكَ تكتملُ ملامحُ الصورة الرئيسيَّة التي تسمحُ لنا بمَعرفة هُويَّة النبيِّ الحبيب التي هي هُويَّةُ المسيحِ نفسُها.
كذلك فسيالاتُ النبيِّ الحبيب مبثوثةٌ في كثيرين مِمَّن سيؤمنونَ به رجالاً ونساءً، كما في كثيرين وكثيراتٍ غيرهم مِمَّن لم يؤمنوا به. هؤلاء وأُلئكَ ستجذبُهم إليه إشعاعاتُ سيَّالاتِه الموجودة فيهم. أمَّا الأوَّلون فسيُصبحونَ تلاميذَه وتلميذاته، وسيروي قِصَصَ ارتباطِه التقمُّصيّ ببعضهم وببعضهنّ في سلسلة “قِصص غريبة وأساطير عجيبة”. أمَّا الآخَرون فسيزورونَه مرارًا.
وبِفَضلِ الوَحيِ الروحيِّ الذي يُمَدُّ به سيعرفُ سيَّالاتِه فيهم، وسيَعلَمُ أنَّهم لن يقوموا بواجب العناية بها، بل سيُهمِلونَ الحفاظَ على درجتِها الروحيَّة ويُسقِطونَها؛ ولذلك أُعطِيَ السُّلطة على أن ينـتـزعَ سيَّالاته منهم ومنهنَّ لأنَّها خاصَّتُه.
كما أنَّ تحرُّكاتُه في الأرض تُوجِّهُها الأرواحُ السَّماويَّة أو الملاكُ الرَّقيب! فقد يكونُ في البلادِ التي يزورُها سيالاتٌ روحيَّة تمتُّ بصِلةٍ إليه أَو إلى الداهشيّين والداهشيَّات، فيستعيدُها، وإمَّا يكونُ لزيارتِه سبَبٌ روحيٌّ آخَر كأن يضعَ سيَّالًا روحيًّا في أرضٍ ما أو مجموعةٍ من شعبِها لمُساعدتِهم على الارتقاءِ والانفتاح على الرسالةِ الروحيَّةِ الجديدة، أو استنزال رحمةٍ إلهيَّة لهم بإبعادِ نكبةٍ كبيرة عنهم علَّهم يرتقون، أو غير ذلك مِمَّا لا يعلمُه إلّا علّامُ الغُيوب!
وعندَ مماتِه انتقَلَت سيَّالاتُه الروحيَّةُ إِلى الدرجتَين الفردَوسيَّـتَين المئة والمئة والثّلاثين وَفقَ الوَحيِ الروحيّ. أمّا السيّالُ العشرون فانـتـقَلَ إِلى عالَم الشّخصيّة الأَربعمئة في الدرجة الفردوسيَّة المئة والخمسين، حيثُ سيّالُ بوذا. ولم يقُم بعده أَيُّ خليفة له على الإطلاق. وقد تهبطُ سيَّالاتٌ للنبيِّ الحبـيب إلى الأرض في تجسُّداتٍ مُختلفة من أجل تنفيذ مهمَّاتٍ معيَّنة ثمَّ ما تلبثُ أن تعودَ إلى عوالمِها.
وبما أنَّ الروحَ سرمديَّة (أي خارجة عن حُدود الزَّمان)، فإنّها ترى الأحداثَ المُستَقبَليَّة قائمةً في حاضرٍ دائم. من أجلِ ذلك، فهي ترى أنَّ سيّالاتِ النبيِّ الحبيب قد عادَت إليها واندمجَت بها إلى الأبد.
فالتَّصعيدُ نحو العزَّة الإلهيَّة، نحو القوَّة الموجِدة، لا بُدَّ منه، قصيرةً كانت الطريقُ ومُعجَّلة، أم طويلة ومؤَجَّلة، إذْ إنَّ عودةَ الخلائق إلى أُصولِها الروحيَّة التي انبثقَت منها مرسومةٌ في المصير الكونيّ. والتَّصعيدُ إلى ﷲ عزَّ وجَلّ لهُ طريقٌ روحيَّةٌ واحدةٌ هي سيَّالاتُ المسيح المبثوثة في الأنبـياء والمُرسَلين والهُداة والمُصلحين الروحيِّـين، فهي الطريقُ الوحيدةُ إلى الخالق. ولذلك قال يسوع المسيح: “أنا هو الطريقُ والحقُّ والحياة؛ ليس أحدٌ يأتي إلى الآب إلَّا بي” (يوحنَّا 14: 6). فلا اندماجَ بـﷲ تعالى قبل الاندماج بسيَّالات المسيح المالئة سماءَ السماوات، سواءٌ آمَنَ الناسُ بذلك أم لم يؤمِنوا. هذه الحقيقةُ إذا وَعاها البشرُ استطاعوا اقـتصارَ الطريق، وتبديدَ الأوهام التي يعيشون مُكبَّلين بقيودِها، وتخفيف آلامهم في عودتهم التي لا مناصَ منها إلى المصدر الروحيِّ الأسمى، مصدرِ كلِّ حياة.
حسين يونس
15 كانون الثاني 2023

دراسات وأبحاث
البحث السابق
هدف المجلّة
كنت أحب أن أقرأ لك ما كتبه أحد مؤرّخي الإفرنج عن النبي عزرا وتحميا، ومع أنّ هذا الكتاب موجود لديّ ولكنّني لا أعلم مكانه بين هذه الألوف العديدة من الكتب التي تراها في هذه المكتبة الكثيرة الرفوف والطبقات.
فإذا كنت موهوباً من الناحية الروحية ، فساعدني لمعرفة المكان الموضوع فيه هذا الكتاب لاستخرجه وأطالع بعض فصوله أمامك.
وهنا التفت إليّ المستر أوليفر وتابع حديثه قائلاً:
لا يمكنك أن تتصوّر يا مستر دمّوس عن العجب الشديد الذي أصبت به أنا وأمين أفندي نمر عندما شاهدنا الدكتور داهش يهب من مكانه واقفاً ويذهب بسرعة إلى أحد رفوف المكتبة ويستخرج منه الكتاب المطلوب بكلّ بساطة كأنّه يعرف كل كتاب والمكان الذي نسق فيه. وصدّقني مع أنّني أنا صاحب المكتبة ومع أنّني أضع هذه الكتب المعروفة لديّ في أماكنها منذ خمسين عاماً ونيّف، فإنّني حتى ولو كنت أعرف أين هو الكتاب الذي طلبته، وأحببت إخراجه لما تسنّى لي ذلك بمثل هذه السرعة العجيبة، ولكان عليّ أن أقف وأفتّش مدّة دقيقة أو نصف دقيقة على الأقلّ لأتمكّن من إخراجه دون سواه نظراً لكثرة الكتب واكتظاظها بعضها أمام البعض أما داهش فإنّه أخرجه بلمحة خاطفة وعاد به وجلس في مكانه كأنّه لم يقم بأمر جليل يستحقّ الدهشة الفائقة.

روابط
لو
كانت الحقيقة وشقيقتها العدالة تقطنان هذا العالم , لكانت الأرض ترفل بحلل من
السعادة ولسادت الطمأنينة هذا الكون .