أُختي الحبيبة !
رحلتِ فجأَةً من بيننا ، وعادت روحُكِ النقيَّة إلى باريها ،
رقَدْتِ رقادكِ الأبديّ ،
وعلى وجهكِ المتألِّم المعذَّب ظهرَتْ علاماتُ السرور ،
وعلى أساريركِ بشائرُ الانبساط والغبطة .
لقد كنتِ أُمَّ الآلام الثانية مريم أُمّ يسوع .
إِنَّ وَلَدَكِ انتُزعَ مِنكِ بقوَّةِ الظُّلم .
وكم كنتِ تنوحين وتقولين وقلبُكِ جريحٌ ونفسُكِ منسحقة :
ابني طاهر … ابني بريء … والله كبير . فلتكن مشيئتُه .
ومع أَنَّ عينيكش كانتا مغمورتين بالدموع السخينة ،
فإِنَّ روحكِ بقيت صامدة أمام العاصفة الهوجاء .
أمَّا جسمُك الجبَّار كالسنديانة ،
فقد مَالَ منحنياً ، وخانَكِ على طريق الجلجلة .
فرزحتِ تحتَ أعباءِ الحياة القاسية .
ولكن هناك من ساعدكِ في حَمْل صليبِ آلامكِ …
هو ذلك (الكتاب المقدَّس) الذي كان يرافقُكِ ليلَ نهار .
وكنتِ تُردّدين كلماته ،
وشفتاكِ تتلوانِ بهدوء وسكينة ما يحتويه من روح الحياة والعزاء .
ولذلك لم تشائي أن تعرفي في حياتك كلّها كتاباً غير الإِنجيل الطاهر .
أليس فيه معرفة الحقيقة ؟
لقد رافقَك من مهد الطفولة إلى القبر .
وقد تكشَّفَتْ لكِ أسرارُه منذ نعومةِ أظفاركِ .
حتّى أصبح معلّمَكِ الوحيد ومدرستَكِ الكبرى .
وقد وهبَكِ الله نعمةَ الذكاء الفطريّ الخارق
الذي يُنشئ النوابغَ الخالدين ،
فأصبحتِ مستحقّة لأن تكوني ، بكلِّ جدارة ، والدة داهش .
ولأوَّل مرَّة تعرَّفتُ بكِ أصبحت لي أُختاً حقيقيَّة ،
وأُلفتُنا مَكَّنَتْ بيننا صلةَ المحبَّةِ الراسخة .
وكنتُ أقولُ دائماً :
ما أطيبَ الحياة مع هذه الأُخت العظيمة ، النبيلة الصادقة ،
الباذلة لنا بوداعة كلَّ ما يزخرُ به قلبُها الكبيرُ الكريم .
لقد اقتبستُ فوائدَ غالية من مزاياكِ العالية .
وكنتُ أُريدُ البلوغَ إلى درجتكِ .
ولكنْ من أين لي ذلك ؟
لقد ترصَّدكِ الموتُ ، يا أُختي ، في أواخر هذا العام ،
وأخذَكِ من بيننا ،
وفرَّقَ الدهرُ شملَنا على هذه الفانية .
وها أنا جالسة على حافة الطريق في منعطف الحياة ،
أتَلفَّت يميناً وشمالاً ، وإلى الأُفق البعيد .
فتواريت سريعاً ، وأنا أُفتّش عبثاً عنكِ ، فلا أجدكِ ،
بعد أن كنتِ بقربي منذ هنيهة .
وها أنا الآن لا أرى آثاراً جديدة لأقدامك
على رمال هذه الحياة الفانية .
إنَّ روحكِ كانت كسهم منطلق ومتّجه دائماً إلى العلاءِ ، إلى فوق .
أمَّا قَدَماكِ فقد كانتا وحدهما فقط تلمسان الأرض ،
بينما روحُك تُجاورُ السماءَ وتلامسُها .
إنَّ كنوزَكِ كانت مكدَّسة في الأهراءِ الخالدة
حيثُ لا يُصيبُها صَدأ ولا يأْكُلُها الدود .
لقد انفصلَتْ روحُك مِن هذه الأرض بلا ألم ولا جهود ،
كالثمرة الناضجة المُعَدَّة للحصاد الإِلهيّ .
وبينما أنا أُعانقُكِ الآن للمرَّةِ الأخيرة
أستودعُكِ رسالةً لا شكَّ أنَّكِ ستقومين بتأديتها هناك .
والله وحده يعلمُ عددَ الأيَّام التي ستفصلُ بيننا .
وإنّي أطلبُ من الله القدير أن أُكمل الحياةَ الأرضيَّة الباقية لي
بالكمال الذي أكملت بهِ رسالتَكَ على هذه الأرض .
فإلى اللقاءِ ، يا أُختي ، إلى اللقاءِ .
كتَبَتْها بالفرنسيّة
ماري حدّاد
في 24 تشرين الثاني 1949
الله!
لفظةٌ قدسيَّة
الإلهاتُ الفاتناتُ
أتسمعين عويل الرياح النائحة باهتياج؟
- إنّها عويلُ نفسي ونواح روحي، عندما تغادرينني!
أتصغين إلى دويّ العاصفة الغاضبة الثائرة؟
- إنّها غضبةُ كياني واضطراب جناني،
يا مليكةَ أحلامي!
شاهدتُكِ وأنتِ مقبلةٌ إليَّ فذهلتُ عن نفسي!
آه! لقد دارت بي الأرضُ،
ورأيتُني أحتقرها وأَنبذ جميع مَنْ عليها إلاَّكِ!
كنت أحب أن أقرأ لك ما كتبه أحد مؤرّخي الإفرنج عن النبي عزرا وتحميا، ومع أنّ هذا الكتاب موجود لديّ ولكنّني لا أعلم مكانه بين هذه الألوف العديدة من الكتب التي تراها في هذه المكتبة الكثيرة الرفوف والطبقات.
فإذا كنت موهوباً من الناحية الروحية ، فساعدني لمعرفة المكان الموضوع فيه هذا الكتاب لاستخرجه وأطالع بعض فصوله أمامك.
وهنا التفت إليّ المستر أوليفر وتابع حديثه قائلاً:
لا يمكنك أن تتصوّر يا مستر دمّوس عن العجب الشديد الذي أصبت به أنا وأمين أفندي نمر عندما شاهدنا الدكتور داهش يهب من مكانه واقفاً ويذهب بسرعة إلى أحد رفوف المكتبة ويستخرج منه الكتاب المطلوب بكلّ بساطة كأنّه يعرف كل كتاب والمكان الذي نسق فيه. وصدّقني مع أنّني أنا صاحب المكتبة ومع أنّني أضع هذه الكتب المعروفة لديّ في أماكنها منذ خمسين عاماً ونيّف، فإنّني حتى ولو كنت أعرف أين هو الكتاب الذي طلبته، وأحببت إخراجه لما تسنّى لي ذلك بمثل هذه السرعة العجيبة، ولكان عليّ أن أقف وأفتّش مدّة دقيقة أو نصف دقيقة على الأقلّ لأتمكّن من إخراجه دون سواه نظراً لكثرة الكتب واكتظاظها بعضها أمام البعض أما داهش فإنّه أخرجه بلمحة خاطفة وعاد به وجلس في مكانه كأنّه لم يقم بأمر جليل يستحقّ الدهشة الفائقة.
لو
كانت الحقيقة وشقيقتها العدالة تقطنان هذا العالم , لكانت الأرض ترفل بحلل من
السعادة ولسادت الطمأنينة هذا الكون .